الجمعة، 9 ديسمبر 2011

ترويكا التسعينات ترفض مشاركة المسيحيين في القرار - هيام القصيفي - النهار


أبعد من ضربات يتلقّاها عون من حلفائه وتشفّي 14 آذار
ترويكا التسعينات ترفض مشاركة المسيحيين في القرار


بعيدا من حسابات الربح والخسارة بين مسيحيي 8 و14 آذار واخطاء رئيس "تكتل التغيير والاصلاح" النائب ميشال عون، وتشفي مسيحيي المعارضة بخصمهم، ثمة مساحة يركن اليها بعض العقلاء المسيحيين القريبين من الخط التقليدي لبكركي، تتعدى سلسلة الضربات القاضية التي وجهها الى عون حلفاؤه في ورقة التفاهم وشركاؤه في الحكومة. وتتوقف هواجس هؤلاء عند المحك التاريخي الذي يواجهه مسيحيو لبنان اليوم وسط عاصفة اقليمية اصبحوا في عينها من دون سقف يحميهم ويؤطر رؤيتهم المستقبلية الى دورهم، وفي ظل مراجعة حتمية لرؤية الشريك المسلم ايا تكن هويته لدور المسيحيين اللبنانيين في الحكم.
لا يزال الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط الركنين الثابتين في حكومات ما بعد الطائف، وهما مستمران في موقعهما في التحالف تحت الطاولة وفوقها، تارة مع حليف سني كان عماده مدى اعوام الرئيس الراحل رفيق الحريري، وطوراً مع من خلفاه في النهج ذاته الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري. ومن التحالف الرباعي الذي انتجه الرجلان، الى تحالف يتقاطع مع خط سني آخر يمثله الرئيس نجيب ميقاتي من دون ان يتغير الاسلوب والنهج في ادارة مقدرات الحكم.
فللمرة الاولى يحصل فريق مسيحي، صودف انه فريق "التيار الوطني الحر" على حصة وازنة في الحكومة بعد سلسلة مفاوضات شاقة، متكئا على تمثيل يشكل على الاقل نصف مسيحيي لبنان. دخل عون الحكومة تحت شعار تحسين حصة المسيحيين ودورهم في السلطة، وواكبه خطاب بطريركي اراد - الافادة من الانفتاح على الفريق الاخر تحت عنوان اعادة التوازن والحوار مع الشركاء كافة في الوطن. لكن النتيجة التي خلص اليها الفريقان ان ما كتب قد كتب وان مقاطعة المسيحيين عام 1992 للحكم وخروجهم من السلطة كانا ولا يزالان "حج خلاص" للفريق الآخر، ايا تكن هويته السياسية، ليستمر في التعاطي والفريق المسيحي على انه خارج السلطة ولا يزال مقاطعا لها.
هكذا كانت حال مسيحيي 14 آذار في حكومتي السنيورة والحريري الابن، و"القوات اللبنانية" اكثر من أدرك هذا الامر حين حاولت عبثاً في بعض المحطات ان تكون عبثا رقما صعبا داخل الحكومة. استظل مسيحيو الاكثرية في تلك الحقبة سقف الطائف وركنوا الى عنوان السيادة والاستقلال بديلا من التفاصيل اليومية في الدخول الى الادارة واستعادة المواقع المسيحية والدخول الى جنة الحكم، في انتظار انتهاء المعركة الوطنية المصيرية. لكن المشروع المسيحي – الوطني الذي ظلله البطريرك الماروني السابق الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، لم تجاره الطبقة الحاكمة حينها، ما خلا الاحتماء ببكركي عند الازمات والاشادة بصفير بعد استقالته. والا كيف يُفسر عدم اقرار قانون استعادة الجنسية للمتحدرين من اصل لبناني الذي اراده صفير وتريده بكركي اليوم، وظل نائما في ادراج النائب "المستقبلي" سمير الجسر. ناهيك بسلسلة طويلة من التعيينات التي لم تعط المسيحيين حقهم عملا بالمذكرة التي كان رفعها صفير الى الرئيس الحريري الاب. وكأن مرسوم تجنيس عام 1994 الذي استهدف المسيحيين عموما والموارنة خصوصا لم يكن كافيا.
ومع اتفاق الدوحة الذي اتى برئيس الجمهورية ميشال سليمان كان رهان على استعادة المسيحيين دورهم في الحكم والحكومة، لكن ما خلصت اليه التجربة حتى اليوم العودة كانت شكلية، وان المناصفة التي حددها "الطائف"، مسموح بها في النصوص فحسب. اما عدا ذلك، فكمية متراكمة من التسويف ومن التأجيل لا تعد ولا تحصى. فالمناصفة العددية امر، والحكم امر آخر.
دلت تجربة عون في الحكومة على ان سلطة القرار لا تزال مع ترويكا التسعينات، وان لم يعد رئيس الجمهورية اليوم شريكا فيها. واصبحت وفي عهدتها القرارات السيادية الى التعيينات. وحتى قانون الانتخابات ما ان بدا المسيحيون متفقين على قراءة واحدة له بدأت الاعتراضات من حلفاء عون وحلفاء 14 آذار معا مما يعني ذهاب القانون العتيد الى حيث يريد بري و"حزب الله" وجنبلاط و"المستقبل". 
ولا ينكر اي من قارئي تجربة 14 آذار وعون في الحكم، الاخطاء التي ارتكبها الفريقان ودخولهما لعبة المحاصصة ورمي كل منهما الاتهامات على الفريق الآخر من اجل تحسين صورته المسيحية الداخلية وتعزيز حصته الانتخابية في المجلس. بدليل ما يحصل اليوم من انصراف "القوات" الى التحضير للانتخابات النيابية، كأن البلاد عشية الاستحقاق . ويتقاسم مسيحيو السلطة والمعارضة اليوم حكما المسؤولية، فرئيس الجمهورية وعون يتنازعان التعيينات التي لم تحصل بعد. وبين ما يريده سليمان من تعيين القاضية أليس شبطيني وما يريده عون من تعيين القاضي طنوس مشلب رئيساً لمجلس القضاء الاعلى، تتوقف التعيينات المسيحية. وبين ما أراده سليمان من تعيين رئيس جهاز أمن المطار ودخول عون على الخط، وابلاغ "حزب الله" ان هذا الامر محصور به، طار المركز من الارثوذكس والموارنة معا. وهكذا دواليك. وبين تأييد "المستقبل" لصفير ودعم "حزب الله" للخط البطريركي الجديد، لا يزال المسيحيون يخضعون لبازار الحصص بين شركاء الوطن. وما الضربات القاضية التي توجه الى عون تباعا سوى عينة مما كان يعيشه الوزراء المسيحيون ابان الوصاية السورية. ويحق لهؤلاء اليوم التفاخر بأن ما انجزت حكومات الاستقلال للمسيحيين ليس اكثر اهمية من انجازات حكومات الوصاية.
بين مسيحي 14 آذار وعون مسافة طويلة من الخصومة السياسية، وما بينهما معا وشركائهم، قد تصبح المسافة اطول، مهما كانت خطب طرابلس وغدا "البيال" او "ملعب الراية" تعدهم بالمن والسلوى. والمشكلة ان الرهان على قرار مسيحي مصيري بات مشكوكا به، فلا عون سيقلب الطاولة على حلفائه على رغم البلبلة الشديدة التي تسود العونيين حيال مواقف حلفائهم، ولا قوى 14 آذار ستكون طليقة اليدين في الدفاع عن مصير مسيحيي لبنان قبل الحديث عن دور المسيحيين العرب. 
هيام القصيفي     
hiyam.kossayfi@annahar.com.lb     

الخميس، 20 أكتوبر 2011

الكاردينال صفير: الموارنة لن يكونوا بخير







جريدة الأخبار - 20 تشرين الأوّل 2011
تكاد التصريحات اليومية للبطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي تنسي اللبنانيين سلفه البطريرك نصرالله صفير، الذي كان مالئ لبنان وشاغل اللبنانيين. أين صار؟ وماذا يقول؟ فتح لنا صفير باب مقر إقامته وصولاً الى غرفة نومه، كما فتح قلبه في المقابلة الآتية التي تتراءى كخلاصة من الوصايا

كتب غسان سعود
يفتح الباب حاملاً كتاباً باللغة الإيطالية. خفّت لحيته البيضاء، وتلاشت ملامح حاجبيه. يبتسم. حتى حين تغيب البسمة حيناً من عينيه، تبقى فوق شفتيه. تقلص قامته السياسية والدينية يزيد من قصر قامته الجسدية. يبدد، بثانيتين فقط، بصباح الخير من شفتيه، آلاف الانطباعات والأحكام المسبقة. يكفي أن يردد «وصلت إلى خريف العمر» ليبدو البطريرك المتقاعد ككل مسنّ تلتقيه سواء في عائلتك يلاعب الأطفال أو قرب المنزل يخبر عن بطولات الشباب أو في حديقة الصنائع يطعم الحمام. «ننتظر اليوم الذي يأخذنا الله إليه. هذا مصير كل حي. كانت الإستقالة من طبيعة الأمور. رأيت أن من واجبي أن ألقي المسؤولية على غيري».
يُسمي الكاردينال الموت أبدية. يُدخل زواره إلى «كوريدور» ضيق، ينتظر فيه القضاء. يعتذر عن انقطاع الكهرباء، فيمازحه الزميل جان عون: «حتى الكهرباء يريدون قطعها عنك يا سيدنا». يلتقط البطريرك السادس والسبعون للكنيسة المارونية النكتة، لكنه لا يعلق. يفضل مرات كثيرة خلال الحديث أن لا يسمع، أو أن لا يتذكر. والأكيد أيضاً أن ذاكرته فقدت بعض رشاقتها. يكاد أن يمر عامان على تجاوزه التسعين. تخبر الشاميات الضائعة بين تجاعيد تتضاعف فوق وجهه، كم كانت طويلة تلك السنوات. تظهر على وجه صفير السنوات وفي خطواته البطيئة، كأنه ينقل مع كل خطوة عشرات السنين. وفي ما يخص الرشاقة، أوقفه العمر عن هوايته المفضلة: رياضة المشي. فافتقدته هذا الصيف، لأول مرة منذ ثلاثة عقود، أحراج الوادي المقدس المحيط بالديمان. آلات الرياضة المنزلية الخاصة تركها في مكان إقامته السابق. هو، بالمناسبة، لم ينته من ترتيب أشيائه في المسكن الجديد.

بعضها لا يزال موضباً في زوايا الغرفة. تجد في الغرفة الرئيسية عدة كومبيوترات، وIpad. تعرّف البطريرك قبل سنوات على العالم الالكتروني لكنه يكتفي اليوم من الكومبيوتر بملفات الطباعة. على طاولته، عدة كتب فرنسية وإيطالية وأخرى عربية مثل تاريخ بجة وبيبليوغرافيا المؤلفين الموارنة. يصر بداية على أن الكتاب المقدس هو أهم الكتب التي قرأها، لكن، وبعد إلحاح، يعتبر كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع أحد أهم الكتب التي يتوجب على الشباب قراءتها. حين يفاجأ بسؤال لم يكن يتوقعه، كتأثير دراسته الفلسفة مثلاً على تفكيره، تشتد ملامحه ويسارع إلى السؤال: شو عرّفك إنت؟. تعتقده غاضباً فيما هو سعيد، يتهيأ للتهرب من الجواب. لا يتجاوز جوابه الكلمتين، مهما بلغت أهمية السؤال.
هل يندم لعدم وجود أحفاد يلهو وإياهم في هذا الخريف؟ لا يستفز السؤال تفكيره ولو ثانيتين؛ يسارع إلى الإجابة: «لا أبداً. اخترت طريقي». ابن مارون نخول صفير وحنة فارس فهد، خيّب أمل والديه اللذين حاولا ترغيبه بالحياة الطبيعية ولا سيما الزواج خصوصاً أنه الشاب الوحيد إلى جانب ست فتيات. رفض، أصر على الاقتداء بابن عمته منصور صفير الذي كان كاهناً في كنيسة مار جرجس في بيروت. حين يُسأل صفير عمّن أثر في حياته، يكتفي بذكر ابن عمته ووالديه. ويحرص على الإشارة إلى أن والدته كانت كوالده «من عائلة منيحة». لا يتذكر حادثة عائلية مميزة، ولا يزيد حنانه لواحد منهما على الآخر. أصدقاء طفولته كتبوا أكثر من مرة عن «ضحكة نصري» وعن «الشاب الذي ينال تقدير الرؤساء والمربين وثقتهم مع أنه لم يكن هيّناً»، وعن «حبه للمزاح والضروب رغم اقتصار مشاركته فيها على التخطيط دون التنفيذ». للبطريرك الكثير الكثير من الذكريات في دير مار عبدا حيث عاش خمس سنوات بين 1932 و1937: «كنا نذهب إلى الينابيع للغسيل، كنّا نشارك في قطاف الزيتون. كان السقف يدلف في الشتاء. هناك في مدرسة هرهريا تعلمنا السريانية، ودرسنا في «الأرجوزة» قواعد اللغة العربية بشعر نظمه ناصيف اليازجي. هناك قرأ البطريرك قصة عنترة وسيف بن ذي يزن و... مجلة «المكشوف».

يستيقظ البطريرك عند الخامسة صباحاً. سريره فردي صغير، يحرص على ترتيبه بنفسه ويرفض، التزاماً بتوصيات والدته، الجلوس عليه حتى ولو بهدف التصوير. فالسرير للنوم والكنبة للجلوس. يمكن هنا التعميم. بالنسبة لصفير لكل كلمة معنى واحد وغاية محددة. بعد نداء المطارنة الشهير عام 2000، كان جواب البطريرك لكل المستنكرين، هو سؤاله إياهم: ماذا تعني عبارة لبنان دولة حرة سيدة مستقلة؟ كان يَسأل أيضاً: كيف تكون العلاقة «ندية» بين دولتين. وكيف نكون شعباً واحداً في «دولتين». كل ذلك وفق قاعدة «السرير ننام فيه والكنبة نجلس عليها». على يسار السرير، شبّاك، تظلله ستارة مغلقة غالباً، يطل على مطبخ البطريركية. قبالته مرآة كبيرة: حين يفتح البطريرك عينيه في الصباح، يرى نفسه. على يمين السرير، راديو مع مكبري صوت. أية موسيقى يسمع؟ لا شيء محدداً، كل ما تعرضه الإذاعات يسمع. في سياق الحوار لاحقاً، سيظهر البطريرك ما يشبه اللامبالاة بما يحصل حوله أو يقدم له: يسمع موسيقى الإذاعات وإذا لم تعجبه أغنية، يطفئ الراديو. يحلق حين يقرر الشماس المكلف الاهتمام به ذلك، وتكون الحلاقة على ذوق الشماس. يأكل ما تطبخه البطريركية ولم يبال بتغير الطباخة مع تغير البطريرك. إلى مائدة الغداء يلتقي غالباً البطريرك بشارة الراعي «حين يكون هنا». ويستقبل «إذا زارني أحدهم». مع ملاحظته أن «لي زواري وللراعي زواره». تجدر الإشارة هنا إلى أن البطريرك المتقاعد يتحدث بمحبة عن الراعي قلّ مثلها بين سلف وخلف في أي منصب كان.
يستيقظ ليصلي أو «لأتأمل» نحو ساعتين، يتوجه بعدها إلى الترويقة التي تتألف غالباً من لبنة وزيتون وبعض المربى، ثم يستقبل الزوار أو يكتفي بالقراءة والكتابة. لا يفضل قديساً على آخر. لا بل، يضحكه السؤال. يردد عشرات المرات في الحديث عبارة «يا أطيعة!». «يا أطيعة» رداً على التقاط الزميل هيثم الموسوي عشرات الصور. «يا أطيعة» تعليقاً على معرفة الزميل جان عون بخبايا البطريركية. «يا أطيعة» جدية أكثر هذه المرة بعد اكتشاف كتاب للنائب السابق ناصر قنديل عن العلاقات اللبنانية – السورية في مكتبة البطريرك. و«يا أطيعة» لاستغراب «الأخبار» وجود علم فلسطين، وحده دون سائر الأعلام، في مكتب البطريرك الداخلي.
في دفتر المعمودية، سماه أهله أنطونيوس تيمناً بـ «شفيع الأمور الضائعة». أما هو فاختار مار بطرس حين رسم بطريركاً ليكون الصخرة. ولاحقاً قضى خمسة وعشرين عاماً محاولاً أن يكون تلك الصخرة. حين يسأل البطريرك عن البطريرك ورئيس الجمهورية المفضلين بالنسبة إليه، لا يتردد في تسمية البطريركين الحويك وعريضة، الأول لمناداته بالاستقلال اللبناني رغم المشانق العثمانية، والآخر لأنه «بطل الاستقلال ولم شمل الطائفة المارونية». ومن رؤساء الجمهورية، هناك رئيس الاستقلال بشارة الخوري ورئيس المؤسساتية فؤاد شهاب. يقود كل ذلك إلى الحديث عمّا ميز عهده البطريركيّ من مطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال لهذا اللبنان على طريقة سلفيه المذكورين. «يا أطيعة» مجدداً. ويتابع البطريرك: «الإنسان مفطور على الحرية. ربنا خلقنا أحراراً. لا يمكن أن تستقيم الأمور في بلد مستعبد لغيره. أنا كنت ضد الاحتلال السوري، على سن الرمح». ويكمل سائلاً: «إذا البطرك لم يأخذ هذا الموقف، من يأخذه؟». يروي البطريرك في إحدى أوراق مذكراته أنه زار الرئيس سليمان فرنجية في 20 كانون الأول 1975 مبعوثاً من البطريرك خريش. وفي سياق الحديث قال صفير لفرنجية إن «حالة التوتر طالت والناس يشكون». فأجابه فرنجية: «في الدول العربية مسيحيون كثيرون ولا رأي لهم فيها. أما في لبنان فلهم رأي وهذا ما يميزهم عن سواهم. ولهذا جاء الموارنة من سوريا واعتصموا بهذه الجبال ليحافظوا على حريتهم. غبطته المسؤول الأول عن حريتهم أما أنا فلم يبق لي إلا بضعة أشهر وبعدها أذهب إلى بيتي وسأعرف كيف سأنظم حياتي على ذوقي. ولكن ليست القضية متعلقة بي وحدي وإنما بالموارنة والمسيحيين على وجه الإجمال».

يعرّج البطريرك على انقسام الموارنة بشأن أدائه في البطريركية. ويذكر نفسه بما لم يستطع تجاوزه بعد رغم مرور 22 عاماً: «جُو (جاؤوا ـــ يقصد المتظاهرين العونيين) عِتبوا، واضطريت انتقل من بكركي إلى الكرسي البطريركي في الديمان». تحولت تلك الحادثة إلى جرح شخصي؟ لا يؤكد ولا ينفي، يقول: لم يفهموا علينا. وسمير جعجع، لماذا يحظى دون غيره من الزعماء المسيحيين بهذه المحبة وهذا الاهتمام البطريركيين؟ مرة أخرى، لا يؤكد ولا ينفي. يقول: «لأن عنده مسؤولية وطنية أخذها على عاتقه. رغم كل الصعوبات، يجمع الشباب وينفخ فيهم روح الحرية التي ساهمت في تحرير البلد». أما العماد ميشال عون فينفي بغضه له، مردداً: «أنا أحب كل الناس وأريد لهم الخير».
لا يسقط البطريرك مباشرة في امتحان الاختيار بين الطائفة الشيعية والطائفة السنية كحليف للمسيحيين. يشدد على وجوب أن يكون المسيحيون مع الإثنين. و«أنا ما بفضلش أحد على آخر. لكن في ناس ينحازون لطرف خارجي. موقفي يتحدد بحسب موقفهم من لبنان». يقول إن ليس له أن يعطي أبناء الطائفة الشيعية نصائح، لكنه يعتقد أن عدد هؤلاء كثر وباتت لهم كلمتهم. من هنا ينصحهم أن يكونوا للبنان أكثر مما هم لدول أخرى، وأن يبحثوا عن مصلحة وطنهم قبل البحث عن مصالح سواه.
يخرج إلى الشرفة الواسعة، تطل على شاطئ الزوق. يعيش البطريرك أيامه الأخيرة بين مدخنتي الزوق. ينظر إلى البحر، مشيراً بإصبعه إلى سفينتين، مردداً: هاك البوابير...
من «صباح الخير» إلى «الله يوفقكم» يبدو البطريرك تعباً، قلقاً، مهموماً وغير مرتاح. تسأله عن وضع الموارنة من بعده فتنكشف بعض أسرار هذا الوجوم: «لن يكونوا بخير، ولا سيما إذا استمروا كما هم اليوم، منقسمين على كل شيء».

لا مذكرات شخصية والصحة بألف خير
يقول البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير إنه نشر نحو عشرين كتاباً، يتضمن بعضها عظاته الأسبوعية التي كان يلقيها في الصرح البطريركي، وبعضها الآخر أخبار رحلاته وزياراته الخارجية. وهو يؤكد أنه لا ينوي أن يكتب أكثر. وبشكل أكثر وضوحاً: لا نية لدى البطريرك لكتابة مذكرات شخصية. وهو، في هذا السياق، يكتفي بما كتبه عنه الزميلان أنطوان سعد وجورج عرب. بعد التقاعد اختار صفير البقاء في الصرح البطريركي في بكركي. ولكن، عملياً، هذا كان خياره الوحيد. فالمنزل الذي ورثه من والديه في بلدة ريفون، حوّله مستوصفاً خاصاً. لا يملك البطريرك شيئاً من حطام الدنيا. تمر إحدى قريباته عليه كل بضعة أيام لتأخذ ثيابه تغسلها وتكويها، فيما تهتم البطريركية بحاجاته الصغيرة. هو بالمناسبة لا يتناول دواء: «الصحة بألف خير».

الاثنين، 3 أكتوبر 2011


صورة صفير أعطت للرداء الأحمر صبغة معينة... سرعان ما غيرتها روما
«١٤ آذار» لا تبلع حرفاً من حروف الراعي... وتراهن على معجزة



لم تصدّق آذان مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار، ما تلفّظ به البطريرك بشارة الراعي أمام الإليزيه، من مواقف بدت للوهلة الأولى، «انقلابية». اعتقدت شخصيات هذا المعسكر، التي تحفظ طريق بكركي عن ظهر قلب، وتعرف عدد شجراته، أن سيّد الصرح، لم يحضر جيدا لزيارته ولم يستشر بعض الفرنكوفونيين السياسيين وربما ارتبك أمام مستوضحيه الأجانب، وتلعثم لسانه، فنطق بغير ما اعتاد هؤلاء على سماعه من صاحب الجبة الحمراء. راحوا يعدّون للعشرة، وينتظرون عودة البطريرك «الجوّال»، على أمل اقتناص توضيح ما، يدوّزن الخطاب الباريسيّ، ويعيد أيديهم إلى الماء الباردة.
لكن، كما في العاصمة الفرنسية، كذلك على الأراضي اللبنانية: لم يجد الراعي سبباً كي يغسل يديه مما بعثره لسانه في السماء الباريسية. وما روّج له مسيحيو الرابع عشر من آّذار من «مشاريع توضيحات» أرادوها للحفاظ على ماء الوجه، بقي سراباً. لا بل تحوّلت الجولات الرعوية الرابطة بين بعلبك والجنوب، إلى منبر متنقّل يكرس الخطاب البطريركي في حلّته الجديدة... وزاد الطين بلة بعض ما تسرب من مداخلته أمام مجمع الكرادلة في روما، في جلسة مغلقة سرب محضرها السري الى بيروت، حتى خال البعض أن من يتحدث هو أحد قادة مسيحيي 8 آذار لكن بفارق أنه يرتدي جبة حمراء ويتحدث باسم البابوية.
مواقف فوق العادة أطلقها الراعي تتكرر اليوم على ألسنة الآذاريين، ليس من باب إبداء الإعجاب، وإنما من باب التعجّب. يحاولون فكفكة شيفرتها، لقراءة خلفياتها ومراميها: «سأكون الصدى للإمام المغيب موسى الصدر». «زيارة تحية لكل التضحيات التي قدمتموها وعلى كل الألم الذي احتملتموه». «إنني جئت كبطريرك لأقول لكم لولاكم ولولا صمودكم لما كنا معكم اليوم»... صوت بطريركي جديد صدح في «بريّة المقاومة»، قلب كل المفاهيم التي كرّسها سلفه لأكثر من عقدين من الزمن.
يدورون حول كلمات «سيدنا» دورات كاملة، يفندونها، يحاولون التحايل على تعابيرها، لكن من دون جدوى: سيّد بكركي صار في موقع آخر. لقد ذهب بعيداً، لدرجة يعجز فيها هؤلاء عن مسايرته ولو حتى بالشكل. عاصفة من التساؤلات اجتاحت مسيحيي المعارضة بحثاً عن إجابات تروي غليلهم: هل هي زلّة لسان رفض الراعي تصحيحها؟ هل هو تأثير بعض حلقته الضيّقة؟ أين هو الفاتيكان من «الانقلاب الأحمر»؟
اشتغلت كل الحواس عند قياديي هذا الفريق، واستنفرت كل قنوات الاتصال المحلية والخارجية بحثاً عن سيناريوهات تروي غليلهم. تغريهم العودة إلى أرشيف «سيدنا» كي لا يصدقوا ما يقرأونه نقلاً عن صاحب الغبطة. يقول أحدهم: المطران الراعي هو واحد من صقور الكنيسة. إليه كنا نلتجئ لتصليب البيان الشهري للأساقفة. هو من دفع بكركي للوقوف بوجه مشاريع القوانين المطالبة بالحقوق الإنسانية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين يوم حاول فارس سعيد وسمير فرنجية جرّ البطريرك نصر الله بطرس صفير إلى موقف مؤيد لتلك الاقتراحات. هو من وقف في صفّ الخطاب السياديّ ودافع عنه بشراسة... ألم يتهكم وليد جنبلاط يوم كان يضع شال ثورة الأرز على كتفيه على مطران جبيل وتوابعها، وقال لمنتقدي البطريرك صفير:«هل تريدون أن تأتوا ببشارة الراعي بطريركا للموارنة»؟ فما الذي جرى؟
بتقدير الآذاريين، فإن البطريرك الجديد لم يخرج عن خط 14 آذار، بقدر ما هو اخترق الخط الأزرق لبكركي الذي ثبّته سلفه منذ نداء المطارنة الأول في أيلول العام 2000. وإذا كان بعض مكونات هذا الفريق، قادرا على إيجاد أرضية مشتركة مع الراعي، في مقاربة الملف السوري تحديداً، فإن ثمة اجماعاً في الصف الآذاري على نبذ كل ما أتى على لسان البطريرك في مسألة سلاح «حزب الله».
وتجد بين الآذاريين من يتفهّم هواجس الراعي من المشهد السوري، يجارونه في الجوهر في مسألة الخوف من الأصوليات، ويشاطرونه التساؤلات حول هوية الثورات العربية وثوارها وبدائل الأنظمة القائمة، وإن كانوا يأخذون عليه أسلوبه «الخشبيّ» في التعبير. فالكتائب على سبيل المثال، تدعم حرية الشعوب في تقرير مصيرها، لكنها تفضّل عدم التدخل في شؤون الغير... لكن «المصيبة» وقعت عندما سمع مسيحيو المعارضة بطريركهم يبارك سلاح «حزب الله» ويمنحه كل الذرائع الممكنة كي يبقى حياً يرزق. قرر نقل بارودة بكركي من كتف الخصومة إلى كتف المزايدة على «أهل السلاح».
وما رفع من مسنوب التوتر لدى هذا الفريق، أن سيّد الصرح لم يتزحزح قيد أنملة عما أرساه في العاصمة الفرنسية. وما كان يؤمل منه أن يكون توضيحاً... صار من ثوابت بكركي. لا بل بات الراعي ثلاث ليال في الجنوب من دون أن يحمّل كلامه هواجس مسيحيي المنطقة، أو أن يتطرق إلى مشاكلهم، لا من قريب أو من بعيد.
مذكرات بحث وتحرّ سطرها الفريق المعارض بحثاً عن إجابات شافية. على ألسنتهم الكثير من الروايات البوليسية التي تفسّر الانتفاضة البطريركية على موروثاتها: يسألون عن قصاصة ورق حملت ملاحظات سياسية كان البطريرك الراعي قد دوّنها قبل أن تطأ قدماه مطار شارل ديغول، كان يفترض أن تتوّج خطابه الباريسي عن الربيع العربي. يقولون إن بشخصيات قريبة من سوريا ومن قوى الثامن من آذار أثرت على خطابه ودفعته إلى الارتجال. ويتحدثون عن قطبة مخفية حيكت بباريس وسبّبت «الدعسة الناقصة»... ويذهبون إلى حدّ «تبرئة» الفاتيكان من «دم» الخطاب البطريركي.
هنا، يحلو لهم أن ينسفوا كلّ النظريات القائلة ان عاصمة الكثلكة تقف وراء الكنيسة المارونية في «ثورتها». يجزمون بأن الفاتيكان غير راض عن أداء سيّد بكركي. يتحدثون عن استدعاء فوري للقاصد الرسولي في لبنان من إجازته المرضية، للعودة إلى مقر عمله فوراً، لإصلاح ما أفسده الكلام البطريركي، وذلك على أثر استنفار دولي قادته كل من واشنطن وباريس لدى الدوائر البابوية لاستيضاح أسباب «النقلة» السياسية. لكن من يسمع خطاب السفير البابوي في بيروت يجد أن الراعي يقول كلاما أقل بكثير مما يررده ممثل الكرسي الرسولي.
بتقدير البــعض في فريق 14 آذار، فإن زيارة البطريرك إلى فرنسا كانت منسّقة مع الفاتيـــكان، لكن رجل الكنيـــسة المارونـــية الأول ذهب بعيداً جداً في مواقفه، إن كان في الموضـــوع السوري أو في ملف السلاح. بحسب معطياتهم فإن الفاتيـــكان لا يقف في صـــفّ الثوار الســـوريين، لكنه ايضاً لا يريد أن يكون ملكياً أكـــثر من الملك، كما يفضّل أن يــنأى البطريرك بنفسه عن مسألة سلاح «حزب الله»، فلا يخوض غــمارها لا سلباً ولا إيجاباً.
حتى اللحظة، لم تبلور قوى 14 آذار، بجناحها المسيحي، «خطة هجومية» لاستعادة «قلعة بكركي». النقاش لا يزال قائماً بين قياداتها، والاجتماع الذي عقد مساء الثلاثاء الماضي في بيت سعد الحريري في وادي ايو جميل، لم يوفّر هذه القضية. العتب يطغى على ما عداه. يطالبون بحقهم من المعطيات التي دفعت «أبا الكنيسة» إلى وضع الموارنة بمواجهة العالم العربي وثوراته، كي يعذروه بالحد الأدنى.
وثمة رأيان يتجاذبان هذه المسألة: أحدهما يدعو إلى الردّ بالمباشر على سيّد الصرح، على طريقة ما يقال داخل الجدران الأربعة يرد عليه داخل الجدران الأربعة، وما يطلق في الهواء يردّ عليه في الهواء... والآخر يفضّل تجنّب المواجهة مع الكنيسة ورأسها، ويدعو إلى حمل الملاحظات إلى الصالون البطريركي لوضعها أمام صاحب الدار. ولهذا سقطت فكرة صياغة «بيان مضاد» لـ«لخطاب الأحمر».
ومن باريس إلى الولايات المتحدة الأميركية التي قرر الراعي حذف عاصمتها من روزنامة رحلته، جولة جديدة ستوضع تحت مجهر «خرافة» الذين تبادلوا المواقع، فصار الملاصقون لبكركي من أشد معارضيها... ومن أبعدتهم خلافات الماضي، من كبار زوارها. قبلها كان نداء الأساقفة الموارنة موضع تقويم «أهل البيت»، إذ قرأ «الآذاريون» بين سطوره خوفاً من تفسّخ «الصف الكهونتي»، علماً بأنهـــم يجزمـــون بأن البطريرك خاض «معركة» مع الأســـاقفة لصياغة هذا البيان، نظراً للمعارضة التي نشأت بوجـــهه على طاولة «رفاقه». فيما يبدو أن الرئيـــس أمين الجميل، الذي يوصف بأنه من أكثـــر المقربـــين لسيّد الصرح، كان أول من ردّ على «النداء» لافتـــاً إلى أنه «لا مجال للمقارنة بين نداء المطارنـــة الموارنة بالأمس وبين نداءاتهم السابقة»، فيما تـــبرع نجـــله سامي في اليوم التالي للرد على فريق 14 آذار مدافـــعا عن مواقف بكركي وسيدها، داعيا من يريد أن يطرح ملاحظاته على مرجعية عمرها 1500 سنة الى أن يقولها وجها لوجه.
...
وبانتظار ما سيبوح به البطريرك الراعي على أرض «العم سام»، بدت وظيفة مؤتمر «الربيع العربي» ودور المسيحيين فيه، في 23 الجاري، في دير سيدة فتقا، بحضور أكثر من 600 شخـــصية اسلامية ومسيحية، من «المجرّة الآذارية»، محاولة تقديـــم مقاربة لبنانية مناقضة لتلك التي رددها الراعي في باريـــس وبيروت، ولو أن منظمي المؤتمر هالهم أن يوضـــعوا وجها لوجه بوجه الراعي، فكان أن أوضحـــوا، لكـــن «خلاصة المؤتمر تُقرأ من هوية منظّــميه»، لا سيما «الأمانة العامة».
ومن اللافـــت للانتـــباه أن الراعي لم يأبه لمؤتمر سيدة الجبل عندما قيل له حقيقة أهدافه. وهو تشاور، قبيل سفره الى الولايـــات المتحدة، في الأمر تفصيليا مع رئيس الجمهـــورية ميـــشال سليمان الذي شجعه على المضي في خياراته، مؤكدا لـــه أن بكركي ستبقى ركنا اساسيا من أركان البنيان الوطني وهو سيكون معنيا بحماية الخيارات التي تحمي المسيحيين وكل اللبنانيين.



النصرانيون الأفاضل
بقلم محمود الزيباوي
يحيى بن عدي، "مقالات دفاعية"، مخطوط عربي مصري، 1654، المكتبة الوطنية الفرنسية.أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون بن سعدون، المشهور بابن بطلان، "تقويم الصحة"، 1213، المكتبة البريطانية.
تحتفظ المكتبة الوطنية الفرنسية بمخطوط عربي مسيحي يحوي اثنتي عشرة رسالة دفاعية من تأليف العلامة يحيى بن عدي، وهو عالم سرياني عراقي من القرن العاشر، جمع بين الفلسفة والدين ولُقّب بالمنطقي. أُنجز هذا المخطوط في مصر، في الثاني والعشرين من شهر صفر عام 1064 الموافق لعام 1654 للميلاد، ويتصدّر أولى صفحاته صليب مزخرف على الطريقة القبطية، يقابله على الصفحة الموازية إطار عثماني مزوّق يحمل مقدمة مثيرة.

يقول نص المقدّمة: "هذا كتاب الشيخ الفاضل أبي بكر يحيى بن عدي البصري عالم من علماء النصارى المسيحيين لأن تلك البلاد البصرة وما معها يسمّون نصارتها بمثل بهذه الأسماء وقوله الشيخ أبي زكريا إنّما تعظيم في حق الرجل كونه من العلماء وأما تسميتهم يحيى وعدي ويونس وعلي وعمار وعيسى ومثل ذلك فليس في ذلك شناعة لأن عادة أهالي تلك البلاد يسمّون مثل هذه الأسماء وهم نصارى مسيحيون علماء أفاضل نيّح الله نفوس الماضين منهم في فردوس النعيم".

أوحد دهره
مؤلف الكتاب معروف في كتب التراث، وهو من أعلام العصر العباسي، ذكره ابن النديم في "الفهرست"، وتحدّث عنه المسعودي في "التنبيه والإشراف"، ووصفه أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة". وُلد في تكريت، ولمع نجمه في بغداد، يوم اجتذبت "دار السلام" نخبة العلماء، وكان "كل قلب إليها، وكل حرب عليها"، و"هي أشهر من أن توصف وأحسن من أن تُنعَت وأعلى من أن تُمدَح"، كما وصفها المقدسي البشاري في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم". في هذه المدينة، جمع "بيت الحكمة" رجالاً من ملل ونحل مختلفة، متخطياً الحدود التي تفرضها القيود الدينية. في "وفيات الأعيان"، كتب ابن خلكان سيرة مختصرة للفارابي تختصر هذا التواصل. كان الفارابي "رجلاً تركياً ولد في بلده ونشأ بها"، "ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي ولغات عدة غير العربي، فشرع في اللسان العربي فتعلّمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة. ولما دخل بغداد، كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير. وكان يقرأ الناس عليه في المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم، وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق. وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه". "قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر. وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته". من بغداد، انتقل أبو نصر "إلى مدينة حران، وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم أنه قفل راجعاً إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة".
تتلمذ الفارابي على يد أبي بشر متى بن يونس في بغداد، وأكمل دراسته على يد يوحنا بن حيلان في حران، ثمّ توجّه إلى سوريا، فاستقر في حلب لدى الأمير سيف الدولة، وتوفى في دمشق. في كتاب "الفهرست"، يقول ابن النديم إن رئاسة أصحاب الحكمة انتهت إلى يحيى بن عدي بعد وفاة أبي بشر متى، ويحيى بن عدي من اليعاقبة، "قرأ على أبي بشر متى وعلى أبي نصر الفارابي وعلى جماعة، وكان أوحد دهره". عُرف بكثرة نسخه، ونُقل عنه قوله: "نسخت بخطّي نسختين من التفسير للطبري، وحملتها إلى ملوك الاطراف. وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى، ولعهدي بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة وأقل". لمع في الحكمة والفلسفة واللاهوت، ونقل من اليونانية والسريانية العديد من كتب القدماء، واشتهر في هذا الميدان كما يُستدلّ من قول المسعودي فيه: "لا أعلم في هذا الوقت أحداً يرجع إليه في ذلك إلا رجلاً واحداً من النصارى بمدينة السلام يعرف بأبي زكريا بن عدي". ترأس أبو زكريا المدرسة الفلسفية في بغداد، وتتلمذ على يده تلامذة من مختلف الملل والنحل، وبعد وفاته ترأس جماعة الفلاسفة أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني المنطقي، صاحب "صوان الحكمة".

أسماء إسلامية
حمل هذا العالم المسيحي اسم "يحيى"، وهو الإسم القرآني ليوحنا المعمدان، وهذه التسمية تبدو غريبة اليوم، تماما كما بدت غريبة بالنسبة الى الناسخ القبطي في القرن السابع عشر، وقد أوضح هذا الناسخ أن أهالي العراق "كانوا يسمّون مثل هذه الأسماء وهم نصارى مسيحيون علماء أفاضل". وضع ابن النديم في "الفهرست" قائمة بأسماء النقلة من اليونانية إلى اللسان العربي، والغالبية العظمى منها تعود الى مسيحيين من السريان. بعد ابن النديم، قدم صاعد الأندلسي عرضاً غنياً لهذه الحركة في "طبقات الأمم"، وتبعه جمال الدين القفطي في "أخبار العلماء بأخبار الحكماء". خصّ ابن أبي الصبيعة الباب الثامن من كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لـ"طبقات الأطباء السريانيين"، وخصّ الباب التاسع لـ"طبقات الأطباء النقلة"، والباب العاشر لـ"طبقات الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة وديار بكر". تشهد هذه الفصول لشيوع الأسماء "الإسلامية" في الأوساط المسيحية السريانية، والأمثلة عديدة بحيث يصعب احصاؤها بشكل كامل.
حمل بعض النصارى السريان اسمي يحيى وعيسى، كما حملوا أسماء علي والحسن والحسين. من الذين حملوا اسم عيسى، يذكر ابن أبي أصيبعة في موسوعته عيسى بن حكم الدمشقي "المشهور بمسيح"؛ عيسى بن ماسه الطبيب، وهو "من الأطباء الفضلاء في وقته، وكان أحد المتميزين من أرباب هذه الصناعة"؛ عيسى بن علي، وهو من أجلّ تلاميذ حنين بن إسحق، "كان يخدم أحمد بن المتوكل، وهو المعتمد على اللّه، وكان طبيبه قديماً ولما ولّي الخلافة أحسن إليه وشرّفه"؛ عيسى بن يحيى بن إبرهيم، و"كان أيضاً من تلامذة حنين بن إسحق، واشتغل عليه بصناعة الطب"؛ عيسى طبيب الخليفة القاهر بالله الذي كان يعتمد عليه "ويركن إليه، ويفضي إليه بأسراره"؛ وعيسى بن صهار بخت، "من أهل جندي سابور".
من الذين حملوا اسم يحيى، يذكر صاحب "طبقات الأطباء" يحيى بن أبي حكيم المعروف بالحلاجي، وهو طبيب الخليفة المعتضد؛ أبو يحيى المروزي، وهو طبيب مشهور في بغداد، تميّز في الحكمة، "وكان فاضلاً، ولكنه كان سريانياً، وجميع ما له من الكتب في المنطق وغيره بالسريانية"؛ أبو الفرج يحيى بن سعيد بن يحيى، وهو في زمنه "علم في العلم" و"مقدم في الديانة والمروءة"؛ أبو نصر يحيى بن جرير التكريتي، شقيق الطبيب الكبير الفضل بن جرير التكريتي، ونظيره "في العلم والفضل والتميز في صناعة الطب"؛ يحيى بن البطريق، وهو من المقرّبين إلى الوزير الحسن بن سهل في عصر الخليفة المأمون؛ يحيى بن عيسى بن علي بن جزلة، "وكان في أيام المقتدي بأمر اللّه، وقد جعل باسمه كثيراً من الكتب التي صنّفها، وكان من المشهورين في علم الطب وعمله"؛ أبو الفرج يحيى بن التلميذ، و"كان متعيناً في العلوم الحكمية، متقناً للصناعة الطبية، متحلياً بالأدب بالغاً فيه أعلى الرتب، وله تلاميذ عدة".
من الذين حملوا أسماء علي والحسن والحسين، نذكر علي بن عيسى، وقيل عيسى بن علي الكحال، وقد اشتهر في صناعة الكحل وتميّز فيها، "وبكلامه يُقتدى في أمراض العين ومداواتها، وكتابه المشهور بتذكرة الكحالين هو الذي لا بد لكل من يعاني صناعة الكحل أن يحفظه؛ أبو علي بن زرعة، و"هو أبو علي عيسى بن إسحق بن زرعة بن مرقس بن زرعة بن يوحنا، أحد المتقدمين في علم المنطق، وعلوم الفلسفة، والنقلة المجودين"، وُلد في بغداد ونشأ فيها، "وكان كثير الصحبة والملازمة ليحيى بن عدي"؛ أبو الحسين بن كشكرايا، "وكان في خدمة الأمير سيف الدولة بن حمدان، ولما بنى عضد الدولة البيمارستان المنسوب إليه ببغداد، استخدمه فيه وزاد حاله، وكان له أخ راهب"؛ أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون بن سعدون، المشهور بابن بطلان، منافس الطبيب المصري علي بن رضوان؛ أبو الحسين عبد اللّه بن عيسى بن بختويه، وهو طبيب وخطيب "من أهل واسط، لديه معرفة، وكلامه في صناعة الطب كلام مطلع على تصانيف القدماء"؛ أبو الحسن سعيد بن هبة الّله بن الحسين، وهو "من الأطباء المتميزين في صناعة الطب، وكان أيضاً فاضلاً في العلوم الحكمية مشتهراً بها، وكان في أيام المقتدي بأمر اللّه، وخدمه بصناعة الطب وخدم أيضاً ولده المستظهر باللّه"؛ أبو الحسين صاعد بن هبة اللّه بن المؤمل، "وأصله من الحظيرة ونزل إلى بغداد، وكان اسمه أيضاً ماري، خدم بالدار العزيزة الناصرية الإمامية، وتقرب قرباً كثيرة وكسب بخدمته وصحبته الأموال، وكانت له الحرمة الوافرة والجاه العظيم؛ أبو علي الحسن بن علي بن اثردي، وهو "فاضل في صناعة الطب جيد الأعمال حسن المعالجة، وكان من المشكورين ببغداد"؛ علي بن هبة اللّه بن اثردى، هو أبو الحسن علي بن هبة اللّه بن علي بن اثردى، من أهل بغداد؛ وجمال الدين أبو الحسن علي بن أبي الغنائم سعيد بن هبة اللّه بن علي بن اثردى.

الوثيقة العمرية
لا نقع على أسماء مشابهة في الوسط القبطي على رغم شيوع الأسماء العربية "الحيادية"، كما أن هذه الأسماء الإسلامية الطابع نادرة في أوساط المسيحيين الملكيين، مثل يحيى بن سعيد بن يحيى الانطاكي، قريب المؤرخ سعيد بن البطريك مؤلف "نظم الجوهر"، وله تذييل لهذا الكتاب، وتفسير لـ"مسائل حنين بن إسحق الطبية". في المقابل، يشهد شيوع هذه الأسماء في العصر العباسي الذهبي لتخطّي بعض شروط ما يُعرَف بـ"الوثيقة العمرية" التي تلزم النصارى أن "لا يتسمّوا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يتلقّبوا بألقابهم"، "ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية".

زينب الحصني تموت عن المسيحيّين بقلم الكاتبة ماري القصيفي 

زينب الحصني

القدّيسة رفقا شفيعة المتألّمين
أفهم أن يُطلب من المسيحيّين أن يموتوا في أرضهم لا أن يرحلوا عنها إن كان لا خيار آخر، أمّا أن يُطلب من زينب الحصني أن تتعذّب وتموت من أجل بقاء المسيحيّين في هذه الأرض فهذا ما لا يمكن أن أفهمه.
فإذا كان سقوط الأنظمة الديكتاتوريّة بقرار من الشعب ذي الأكثريّة الإسلاميّة، فأنا مع هذا الشعب، وإذا كان صعود الأنظمة الأصوليّة بقرار آخر من الشعب ذي الأكثريّة الإسلاميّة، فأنا أحترم إرادة هذا الشعب. وإن كان بقاء المسيحيين في هذا الشرق مشروط ببقاء شعب كامل تحت وطأة الظلم فلن أكون مسيحيّة – كما أفهم الديانة المسيحيّة - إن قبلت بأن يُعذّب سواي لأبقى، وأن يموت سواي لأبقى، وأن يُمثّل بجثّة سواي لأبقى.
وإذا كانت قيمة الشعوب تقاس بالكثرة، فليس المسلمون هم الذين منعوا المسيحيّين من الإنجاب وزيادة عددهم. وإذا كان التوسّع الجغرافيّ هو ميزان القوى، فلم أسمع بحكاية واحدة تؤكّد أنّ المسلمين أجبروا المسيحيّين (كلّ المسيحيّين) وفي كلّ الأقطار العربيّة على بيع أراضيهم، وإذا كانت وحدة الرأي هي الدليل على منعة الشعوب فلا علم لي بأنّ المسلمين هم الذين فتّتوا المسيحيّين مذاهب وشيعًا وأحزابًا وتيّارات ومطرانيّات وبطريركيّات. فلماذا إذا يجب أن تدفع زينب حياتها ثمنًا لبقائي في هذه الأرض، وكلّ القيّمين على هويّتي المسيحيّة المارونيّة من المسيحيّين بدءًا من الفاتيكان بيعوا بأرخص الأثمان أمّا الممانعون المعاندون فاغتيلوا أو أبعدوا؟
صحيح أنّ جوًّا عامًا من المخاوف انتشر في الشرق بين المسيحيّين، وأنا خائفة كذلك، ولكن لا أحد يريد أن يتذكّر أنّ إسرائيل منذ قيامها سهّلت، ولا تزال تفعل، هجرة المسيحيّين من فلسطين، وعرقلت رحيل المسلمين، بل حاصرتهم، في بيوتهم أو في سجونها، لا يعود هناك فرق بين البيت والسجن والأرض سليبة. ولا أحد يريد الاعتراف بأنّ الأصوليّات لم تحكم بعد حيث سقطت الأنظمة، ومع ذلك يريدون حربًا وقائيّة ضدّها وبناء على تكهّنات بنواياها، في حين أنّ الذين يُقتلون اليوم يؤكّدون أنّ النوايا ظهرت في الأفعال، وأنّ الشرق خلا من المسيحيّين - أو يكاد - في عهود ما قبل الأصوليّات. (غريب! ألم تكن العلمانيّة هي البعبع يوم أعدموا أنطون سعادة؟)
***
حين أصدرت كتابي "المورانة مرّوا من هنا" لم يكن الأمر "فشّة خلق" كما خيّل للبعض، أو تنفيسًا عن غضب شخصيّ وانفعال تجاه قضيّة تخصّني وحدي، علمًا أنّ أكثر نصوص الكتاب نشر قبل سنوات ومنذ أن بدأ الشرخ المارونيّ يهدّد هذا القطيع الصغير. ولم يتأخّر الوقت - مع الأسف – حتّى تبيّن أنّ القضايا الصغيرة تشكّل قضيّة عامّة وكبيرة وليس من السهل إيجاد الحلول لها في ضوء المعطيات الحاليّة. وبات المسيحيّون مهدّدين في بلدان الشرق بسبب تدخّلات أجنبيّة تتذرّع بالديمقراطيّة وأنظمة قمعيّة تتغطّى بالإسلام وانقسامات مسيحيّة تزداد حدّتها يومًا بعد يوم.
ليس من حقّ الطائفة المسيحيّة أن تتخلّى عن دماء زينب الحصني وأخواتها وأخوانها بحجّة خوف لا شيء حتّى اللحظة يؤكّد وجوده. ولنفرض أنّ الأمر كذلك، أليست المسيحيّة هي الموت عن الآخرين لا إماتة الآخرين عنها؟ أوليس الناس الأبرياء، ولو غير مسيحيّين، أغلى من الأرض ولو كانت أرض قداسة للمسيحيّين؟
فإن كانت الأنظمة التي ستنشأ عقب سقوط الأنظمة القائمة لن تريد المسيحيّين في هذا الشرق فلن يكون الأمر أسوأ ممّا هو الآن، وإن كان المسلمون لا يعرفون ويعترفون بأنّ المسيحيّ عربيّ أصيل لا ضيف ثقيل فلن تنفع جولات البطريرك المارونيّ وصولاته، وإن لم يصدّق المسيحيّون أوّلاً أنّهم أهل الأرض وحماتها وبُناتها والأمناء على تاريخها وحاضرها ومستقبلها فلن تنقذهم دول العالم التي تعمل أوّلاً وآخرًا من أجل مصالحها.
زينب الحصني وغيّاث مطر! مهما كانت "خطيئتكما" عظيمة فليكن دمكما نهاية درب الآلام التي يمشيها شعبكما، ولتكن قيامة سورية، بمسيحيّيها ومسلميها، فصحكما المجيد. أمّا بقاء المسيحيّ في أرضه فأمر يتحمّل مسؤوليّته هو وكنيسته المحليّة قبل الآخرين ومعهم ولكن ليس بعدهم.

الأحد، 25 سبتمبر 2011

أسنان الفجر بقلم عقل العويط/ ملحق النهار


اللوحة لمنصور الهبر
ثمة سؤال يلحّ على الغالبية العظمى من اللبنانيين والعرب: ماذا لو أن الانتفاضات والثورات الجارية لم تفضِ في القريب العاجل الى قيام أنظمة ديموقراطية على ركام الأنظمة المتهاوية؟ يليه سؤال ثانٍ: ماذا لو أن المرحلة الانتقالية الظاهرة بعض ملامحها المقلقة، ستشهد ردّاتٍ وارتدادات وانقسامات وآلاماً واضطرابات وأعمال عنف والتباسات في شأن المصير السياسي؟

عندي جواب واقعي عن كلٍّ من هذين السؤالين، ربما يصعقان من يتوقع العكس.
الجواب الأول، أن هذه الانتفاضات والثورات، لن تفضي، ولا يمكنها أن تفضي، في القريب العاجل، الى استتباب أنظمة ديموقراطية حقيقية، في الدول المعنية، بما يجعل شعوبها مطمئنة الى مصيرها الآني المباشر.
الجواب الثاني، أن المرحلة الانتقالية لا يمكنها إلاّ أن تكون عصيبة، صعبة، خطرة، وطويلة.
من حقّ الذين يقرأون معطيات هذا المشهد، أن يقرأوه عارياً من الأحلام الوردية غير القابلة للتحقق بكبسة زرّ. من حقّهم إما أن يكرّوا، وإما أن يقيسوا، ويترددوا، ويخافوا. بل من حقّهم أيضاً أن يحجموا.
لكن من واجب هؤلاء جميعاً أن يقرأوا معطيات المشهد من جوانبها كافة، بما لها وبما عليها، معاً وفي آن واحد. كل قراءة ناقصة، مبتسرة، جزئية، لا بدّ من أن تفضي الى نتائج مماثلة.
هكذا لا يملك عشّاق الأنظمة الديكتاتورية، أو المتوجسون "السلبيون" من احتمالات الحراك الشعبي والمصير الثوري، على اختلاف أسباب كلٍّ منهما، وتناقضها، إلاّ التمسك بهذه الأنظمة باعتبارها خشبة احتماء وخلاص متوهمة. في حين أن الشعوب العربية التي تحمّلت ما لا طاقة لبشري على تحمّله، تملك خياراً واحداً لا ثاني لي: أن تكون في الحرية أو أن لا تكون.
قد يكون هذا "الخيار" مفرغاً من القدرة على الاختيار. بمعنى أن العربي، فرداً أو جماعات، يقف أمام الجدار الاستبدادي المحكم، ولا يملك حياله إلاّ أن يواصل الإقامة تحت ظلاله الدموية، أو... يعمل على تحطيمه. مع كل ما يتطلبه اتخاذ الموقف المناسب، أياً يكن، من فهم المسؤوليات الموضوعية واستيعاب النتائج المترتبة عليه.
طوال نصف قرن مضى، لم يقدّم نظام عربي واحد إلى شعبه أيّ بصيص من الحرية والأمل والرفاه، بل قدّم إليه، على العكس من ذلك، فقراً مدقعاً، ويأساً عميماً، وتشييئاً كابوسياً، وإحكاماً للقبضة الأمنية على تفاصيل عيشه الشخصي وعلى علاقته بالشأن العام، بما جعله شعباً من الأرقام والأعداد، مفرغاً من كلّ معنى.
كان النظام العربي "منسجماً" مع ذاته. فقد عرف، بحكم طبيعة تكوينه، وأهدافه، أن لا مكان في الحكم الاستبدادي يتسع للشعوب، أفراداً وجماعات، إلاّ إذا اندرجت كبنى قطيعية، أو كدمى وظلال يحرّكها كيفما شاء.
وكان أتباع الأنظمة "منسجمين" مع ذواتهم، بحكم طبائع نفوسهم وقيمهم وانتفاعاتهم.
أما الشعوب، الساكتة، الرازحة، غير المنتفعة، فكانت تواصل موتها البطيء، "غير منسجمة" مع معاييرها وحقيقة ذواتها وأحلامها في العيش الحرّ الكريم.
في الغالب الأعمّ، هذا ما حصل طوال الخمسين عاماً الفائتة من أعمار دول الاستقلال الوطني عن المستعمر أو المنتدب الأجنبي، التي وقعت جميعها في قبضة الحكم الاستبدادي الأحادي.
وإذا كانت تلك التجارب "الاستقلالية" التي انتظمت دولاً وحكومات، جمهورية وملكية، قد شهدت قيام أحزاب وتكوينات سياسية، غير مندرجة تماماً في الجهاز السلطوي الحاكم، فإن مصيرها كان، رويداً أو سريعاً، إما الى الانصهار الكلياني في بنية الاستبداد، وإما الى "استشهادها" بطريقة أو بأخرى.
خذوا حصيلة الحكم في الدول العربية جميعها، باستثناء لبنان – وهذا لأسباب شتى لا لزوم لاستعراضها الآن - فمن شأن ذلك أن يعطي صورة تفصيلية دامغة للمشهد الاستبدادي العربي، المتواصل، راهناً، على الأرض، قمعاً دموياً لم يكن له مثيل إلاّ في الأنظمة التوتاليتارية، عسكرية أكانت أم دينية أم أحادية الحزب والشخص.
في ضوء هذه الصورة، أخاطب الشعوب العربية القلقة على المصير، عارضاً أمامها السؤالين الأولين، وجوابي عنهما، وداعياً إياها الى اتخاذ الموقف المناسب.
قبل ذلك، لا بدّ من أن أسأل هذه الشعوب المترددة، كيف تستطيع هذه الأنظمة ذاتها التي ألغت شعوبها، طوال خمسين عاماً، ومنعت عنها الكرامات البديهية، أن تعترف فجأةً بوجود هذه الشعوب، أن تعترف بمحض وجودها فحسب كبشر، وبحقّها في العيش الكريم، وفي الحياة الاجتماعية والسياسية؟
كيف تستطيع هذه الأنظمة الديكتاتورية أن تصبح ديموقراطية؟
أيّ آليات يمكنها أن تجعل أجهزتها السلطوية والأمنية الرهيبة أجهزةً قابلة لوجود الآخر، محض وجوده فحسب، و"التنازل" له، بالانتخاب الحرّ، عن حقّها "الإلهي" في السلطة؟
أريد أن أعرف كيف؟
الحاكم الأبدي، هل يستطيع أن يتخلى عن أبد الحكم والسلطة إلاّ بالموت الطبيعي أو العنيف؟ وبعد الموت، إلاّ بالتوريث؟
إذا نعم، أريد أن أعرف كيف؟
فليحرجني أحدهم بجواب. ببرهان.
فليقدّم إليَّ، وإليكم، أحد هذه الأنظمة، برهاناً عملانياً واحداً، من شأنه أن يحمل المنتفضين والثوار على إعادة التفكير المليّ في انتفاضاتهم وثوراتهم، بما يفضي الى وقفها، وحبس الدماء البريئة.
فليقل لنا أحد الرؤساء الأبديين مثلاً إنه لم يعد يريد أن يستمر رئيساً لأنه "انتُخب" رئيساً، لا بعدد الأصوات المستحَقة، ولكن فقط بقوة الخوف والرعب والترويع والتزوير.
فليقل لنا إنه يقبل بأن يخضع للمساءلة القانونية الحرة.
فليقل لنا إنه لم يعد يريد من أحد أن يصفّق له مثلما كان يصفَّق له، حتى الأمس القريب، بل حتى هذه اللحظة بالذات، عندما يدخل الى قاعة مجلس الشيوخ أو مجلس النواب أو مجلس الشورى أو مجلس الشعب.
من يجرؤ على القيام بذلك، قد يجعلنا نغامر بدعوة المنتفضين والثوار الى وقف انتفاضاتهم والثورات.
لكن، من المؤلم والمفجع حقاً أن تكون الطرق مسدودة أمام التغيير الديموقراطي الهادئ في العالم العربي. فالنظام الذي لا يستطيع أن يتحمل تظاهرة سلمية، أو رأياً مخالفاً، كيف يستطيع أن يقبل بالتغيير؟!
من المؤلم والمفجع حقاً أن تكون المرحلة الانتقالية التي تلي سقوط الأنظمة، مرحلة عصيبة، صعبة، خطرة، وطويلة.
لهذا السبب بالذات، لهذا السبب وحده بالذات، لم يعد في مقدور الشعوب أن تظل محبوسة في القمقم الاستبدادي.
صحيح أن العالم العربي مقبل على أن يشهد مزيداً من الآلام والتضحيات، لكن دروب الجلجلة التي تفضي الى القيامة هي هي، هنا وفي كل مكان من العالم.
لم يتخلَّ ديكتاتور واحد عن السلطة طوعاً، لا في الأزمنة الماضية ولا في الزمن الحديث والراهن.
المرحلة الراهنة والمقبلة، تحفّ بالتحديات والأخطار والفخاخ والمغريات والغرائز. الخيارات ليست كثيرة. بل ربما ليس من خيار سوى واحد: إما الحرية وإما استمرار الأبد الاستبدادي بأقنعته المريبة.
ليس أمام هذه الانتفاضات والثورات، والحال هذه، سوى أن تعتمد على قواها الذاتية، وأن تترفع على تناقضاتها وانقساماتها، وأن تواصل كفاحها الديموقراطي السلمي، وأن تستلهم الأمل والصبر والحكمة والبطولة والتعالي على العنف، لتكمل سعيها الى الفجر. ومهما طال ليل الجلجلة، فسينتهي كرهاً أو طوعاً بين أسنان الفجر. وهي أسنان، ولا بدّ، طيبّة.


akl.awit@annahar.com.lb

نداء إلى المسيحيين العرب بقلم عقل العويط


اللوحة ليوسف عبدلكي
نداء إلى المسيحيين العرب
بقلم عقل العويط
لا يبتغي هذا المقال التفلسف على مسيحيي الشرق، ولا يحرّض، ولا يملي عليهم ما يجب أن يكونوا عليه، في هذه المفترقات الحاسمة من تاريخ المنطقة. هو محاولة فحسب، من شخص علماني، لتقديم قراءة بسيطة ومتواضعة لمسيح الحرية، ولما يراه من مسؤوليات مفترضة للمسيحيين حيال هذه القراءة.

لا تخافوا. أنا معكم إلى منتهى الدهور.
هذا الكلام ليس لي. إنه كلام المسيح بحسب الأناجيل. وهو كلام واضح وصريح، وفيه حضّ على طرد شبح الخوف، وعلى عدم الخضوع للترويع الذي تمارسه السلطات، وفيه دعوة إلى إشهار الشجاعة والذهاب بالموقف المطلوب إلى النهاية، أياً تكن النهاية.
وإذا كان الموت الهمجي يمثل نهاية بشعة، كموت المسيح مصلوباً، فهل ثمة نهاية أروع من الموت شاهداً للحق، وشهيداً له، كموت المسيح مثلا؟!
المسيح لم يكن خائفاً، لا على نفسه ولا على رعيته. علماً أنه كان ذاهباً إلى موت محقق، وأنه دعا رعيته، موضوعياً، إلى شبه موت محقق، بالشهادة له بين أمم الظلام والوثن والعبودية.
لكن ثمة الآن وهنا، مَن هو خائف خوفاً عظيماً على رعيته، وربما على نفسه، بل يُدخِل الهلع في قلوب المسيحيين، متماهياً مع نظام الرعب والظلم والاستبداد والديكتاتورية والقتل، وداعياً الرعية إلى مثل هذا التماهي.
باختصار علني مفيد: ندعو دعوة المسيح في عدم الخوف، وأيضاً إلى إشهار الثورة وطرد التجّار من الهيكل، الذي هو، على قول المسيح نفسه، بيت صلاة وثمة مَن جعله مغارة للصوص.
في زمن الثورة العربية، الممتدة من المغارب إلى المشارق، نقول باختصار آخر، علني ومفيد: لن نكون إلى جانب النظام الديكتاتوري ومغاور اللصوص. لن نكون إلى جانب القاتل المعلوم، أياً يكن مَن يخلفه، أيخلفه في القتل أم في نقيضه.
في زمن الثورة العربية، نحن مع الذين يخرجون من بيوتهم تاركين أحبابهم، عارفين أنهم قد لا يعودون إلى بيوتهم إلاّ شهداء.
هذا إذا عادوا!
في زمن الثورة العربية، نحن مع الشهيد وليس مع الدبّابة. ومن الطبيعي والبديهي أن نكون مع القتيل وليس مع القاتل.
لا نستطيع أن نكون مع زين العابدين بن علي، بحجة أننا لا نعرف النتائج المترتبة على الثورة في تونس، ولا طبيعة النظام الذي سيتسلم زمام الأمور هناك. لا نستطيع أن نكون مع حسني مبارك للسبب نفسه. ولا مع معمر القذافي، ولا مع علي عبدالله صالح، ولا مع ملك البحرين، ولا مع بشّار الأسد، ولا مع أيٍّ من الرؤساء والملوك والأمراء والمشايخ والسلاطين الذين يحكمون بليل الحديد والنار.
في السياسة، يستطيع أيٌّ كان أن يتخذ الموقف الذي يريده أو يراه مناسباً، لكن هل يحقّ لأحد أن يرى القتيل مقتولاً مدى أربعين عاماً، خمسين عاماً، ثم يقول إنه يفضّل أن يعطي فرصة إضافية للقاتل؟!
هل يحقّ لأحد أن يدفن رؤوسه في الرمال، وأن يمارس التقية الدينية والسياسية، وأن يدعو شعبه إلى أن يكون من أهل الذمّة؟
في السياسة، ناسٌ مع وناسٌ ضد، لكن من المهين والمعيب حقاً أن يكون المرء مسيحياً وأن يروّج لنظام ديكتاتوري. فكيف إذا كان مسيحياً مشرقياً، وسليل المسيحيين المشرقيين العرب، صنّاع الثورات والحريات وروّادها وقادتها وصحافييها وكتّابها ومثقفيها وفلاسفتها و... شهداءها؟!
تصوّروا أن المسيح بيننا، الآن وهنا، فماذا كان ليفعل؟ هل كان ليذهب الى شهادته أم يتراجع عنها لأنه خائف مما بَعد؟!
هل كان ليدخل الى الهيكل غاضباً ثائراً، قالباً طاولات التجار والصيارفة والسماسرة، أم متفادياً، ممالئاً، غاضّاً الطرف؟ هل كان ليقول لأتباعه: لا تذهبوا ولا تتلمذوا الأمم، لئلا تتعرّضوا للاضطهاد والقتل؟
لكني من أجل هذه الدعوة أتيت، قال المسيح. ولا بدّ أنه يقول مثل هذا القول، اليوم. وهنا.
أيّ "حكمة" سياسية هي هذه، تتماهى مع النظام الديكتاتوري، وتستعدي الثائرين ضدّه مجاناً؟
ثمة مَن يجيب: المسيحيون والأقليات في خطر. لكن ماذا إذا سقط النظام الديكتاتوري الذي تتماهى معه هذه "الحكمة"؟ أتكون تدعو هذه "الحكمة"، الذين تستعديهم من معارضي الديكتاتورية والثائرين عليها إلى الاقتصاص من المسيحيين، لأنهم طبّقوا "تعليماتها" بالوقوف ضد هؤلاء الثوّار، واتهامهم بالإرهاب والظلامية، والمشاركة في مؤامرة... غربية صهيونية؟
ألا تدري هذه "الحكمة" أنها، بذلك، تكون تشجع على قتل أبنائها، واضطهادهم؟!
ولنفترض أن ثمة "بعبعاً" من المحتمل أن يحلّ محل "البعبع" الجاثم على الصدور منذ أربعين عاماً، منذ خمسين عاماً، أفتدعو إلى القبول بالبقاء ضمن هذه الحلقة الجهنمية المفرغة؟
ثم مَن قال إن ثمة "بعبعاً" ينتظر الجميع بعد سقوط النظام الديكتاتوري؟
ليعلم الجميع أن خمسين عاماً من الديكتاتوريات والظلاميات لا تُمحى بشحطة قلم. بعد سقوطها، لا بدّ من عبور الركام، ركام الثورة والألم والفوضى والمطهر، إلى أن تشرق شمس الحرية.
أما النظام الديموقراطي والدولة العادلة، فهما يحتاجان في الأقل إلى أعمار من البذل والتضحية والشهادة والصبر والحكمة والعقل و... الأمل.
للذين لا يريدون أن يقرأوا التاريخ، عليهم بسنوات الركام التي أعقبت الثورة الفرنسية العظمى، قبل حلول زمن الدولة الديموقراطية.
الحرية لا تُنال بضدّها. الأمان لا يُنال بتفيّؤ يد الديكتاتور.
تأخذ حريتك بعدم الخوف. وبالشهادة. مثل المسيح.
تأخذها بأسنانك. ثم بأسنانك تحقّق الأمان عبر تأسيس الدولة العادلة.
في هذه اللحظات الحاسمة، قد يكون في إمكان المرء أن يهرب إلى الأمام، أن يتخابث، أن يتذاكى، أن يداهن، وأن يلعب على الحبلين. لكنه لا يستطيع، ولو للحظة، أن يتغافل عن خمسين عاماً من القتل، ولا أن يفتح الباب أمام خمسين أبداً من الذمية والهوان.
لا تخافوا، قال المسيح. وقال: إذهبوا واشهدوا. ثم قال لبولس في سفر "أعمال الرسل": لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر.
وأنتم أيها المسيحيون العرب ينبغي لكم أن لا تخافوا. بل ينبغي لكم أن تقفوا أمام قيصر. بل أمام كل قيصر. وأن تشهدوا للحق والحرية والديموقراطية.
¶¶¶
قَدَرُ المسيح الحرية لا الظلم. الشجاعة لا الخوف. قولة الحقّ لا الكذب والمداهنة. الثبات على الرأي لا التبدّل مع الأهواء والرياح. بما يقتضيه إعلاء شأن القَدَر هذا، من الشهادة للحرية، والعمل لأجلها تحت الغمرات والشدائد وفي عزّ الظلمات. وليس فقط في أزمنة الرخاء والطمأنينة والنور.
في ليل الشعوب، كما في العكس، ليس للمسيح أقدار أخرى. ولا أدوار أخرى.
ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان.
شهادة المسيح واحدة. نضاله واحد. هدفه واحد. موته واحد. وقيامته واحدة.
التماهي مع الحرية، أو مع المسيح، فعلان يكمل أحدهما الآخر، في المسيحية، وليس من سبيل إلى الفكاك من هذين التماهي والتكامل، أياً تكن الظروف والأحوال.
ثمة موت، ولا بدّ، وهو السبيل الوحيد الى القيامة.
بغير ذلك، بضدّه، لا قيامة.
استطراداً: لا حرية.
¶¶¶
ما أقرأه في قَدَر المسيح الحرّ، الشجاع، تالياً الثائر، وفي دوره، أقرأه ضرورةً في المسيحيين. في أقدارهم. وفي أدوارهم.
شهادته يجب أن تكون شهادتهم. نضاله يجب أن يكون نضالهم. هدفه يجب أن يكون هدفهم. موته يجب أن يكون موتهم. وقيامته هي تالياً قيامتهم.
هذا هو منطق المسيح والمسيحية. ما زاد على ذلك، أو ما نقص منه، هو، في المسيحية، من الشيطان.
¶¶¶
ما أقرأه في أقدار المسيحيين وأدوارهم مطلقاً، أقرأه ضرورةً، ومن باب أَولى، في العرب منهم، والمشرقيين، وَرَثَة المسيح في الأرض المجرّحة بالليل، وحَمَلَة قضيته، من فلسطين الى آخر أصقاع هذا الشرق.
قضية المسيح هي الحرية. وهذه ليست فعلاً تجريدياً أو رمزياً أو معنوياً فحسب. إنها خصوصاً فعل شهادة حسية، ملموسة، واقعية، لهذه الحرية.
كيف يكون فعل الشهادة؟
بالتحرير. بتحرير الإنسان مما يعوق تجلّي هذه الحرية. في الذات، في الآخر، وفي المجتمع مطلقاً.
لا يتجزأ فعل التحرير هذا، لأن كل اجتزاء فيه، يشكّل انتقاصاً من شخص المسيح، ورسالته.
تالياً، يتكامل فعل التحرير المسيحي ويصل إلى غايته بثلاثة: تحرير الذات، تحرير الآخر، وتحرير المجتمع، بما هو جماعة منتظمة في كيان دولتي.
هل هو متحققٌ فعل التحرير المثلّث هذا، في دنيا العرب؟ إذا لا، فما الذي يحول دون ازهراره؟
قراءتي تقول لا، ليس فعل التحرير متحققاً.
تالياً، يحول دون تحقق هذا التحرير، استتباب أنظمة القمع والديكتاتورية منذ نصف قرن، وولوغها في امتهان الكرامة البشرية والمجتمعية والثقافية والسياسية، ومصادرة الحرية.
والحال هذه، ما العمل؟ ما العمل الذي ينبغي أن يضطلع به المسيحيون العرب؟
هذا يستدعي من هؤلاء، تأدية دورهم المبدئي النظري، ودورهم التطبيقي العملاني، على السواء، ومواصلة فعلهم التاريخي في المنطقة العربية، القائم على رفع لواء الحرية وصون كرامة الإنسان الفرد والجماعة، على أرض الواقع.
بهذا فقط، يكونون رسل المسيح في الأرض العربية. وبهذا فقط، ينتمون الى مسيح الحرية. وينتمون تالياً: الى ثقافة الحرية مطلقاً.
الآن، في زمن ثورة الشعوب العربية على أنظمة القمع والديكتاتورية، كيف يتجلى دور المسيحيين، وكيف يتماهون مع مسيحهم ورسالته؟
الجواب: لم يكن المسيح ذمّياً، ولم يكن خانعاً، ولم يبحث عن خلاص فردي، بل كان على عكس ذلك تماماً. فقد وقف ليشهد للحقيقة في وجه قيصر، وفي وجه كل قيصر آخر، يهودياً أكان أم رومانياً.
فإذا كان من دور ينهض إليه المسيحيون اليوم، فأن لا يكونوا ذمّيين ولا خانعين، ولا أن يبحثوا عن خلاص فردي موهوم. هو، في كل حال، خلاص مستحيل. مسؤوليتهم أن ينخرطوا في النضال من أجل الحرية، والشهادة لها، لا الاختباء في عباءة الأنظمة المتوحشة وتحت صراخ دمائها.
ثمة في المدن العربية، دماء نبيلة تنزف، من أجل الحرية. من حقّ هذه الدماء على المسيحيين أن لا يتركوها وحيدة على القارعة.
فليدملوها. وليشهدوا فقط. فليشهدوا لمسيح الحرية.

akl.awit@annahar.com.lb

عفواً غبطة البطريرك بقلم هاني نصولي




أسفنا للخطوط الفاصلة التي رسمها غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي على خريطة الوطن العربي، شاطراً شعوب المنطقة بين أقليات وأكثرية. وبتنا نشارك غبطته هواجسه على مستقبل مسيحيي سوريا، الذين يشكلون 10% من مجموع السكان. فبمجرد إعلان البطريرك الماروني تعاطفه مع نظام الاسد اقحم المسيحيين عن غير قصد، في آتون الصراع الدموي الدائر بين النظام والشعب، على رغم اصغاء غبطته لرؤية الرئيس الفرنسي ساركوزي "أن نظام الرئيس السوري انتهى"!لقد تنبأ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بتحوّل الثورة السورية الى حرب أهلية بين الطائفة العلوية التي تشكل 9% والطائفة السنية التي تشكل 74% من سكان سوريا البالغ عددهم ما يقارب 23 مليوناً. تلك الحرب المتوقع لها ان تطول، كما حصل في لبنان إبان الحرب الاهلية عام 1975 التي دامت 15 عاماً، حيث تخللتها مواجهات بين القوى العظمى التي استخدمتها ساحة. ألم يؤكد النائب وليد جنبلاط في احدى مقابلاته، ان حرب الجبل عام 1983 "كانت نتيجة لثلاثة قرارات التقت في وقت واحد. قرار اتخذته انا وقرار سوري وقرار سوفياتي". من هنا أطرح تساؤلي: ما الحكمة من دفع المسيحيين الى الحريق السوري، بدل أخذ جانب الحياد الحذر؟عتبنا على البطريرك ان غبطته يستند الى نظرة دينية مبسّطة لاستخلاص العبر من احداث منطقة شديدة التعقيد. فهو يشير دائماً الى سقوط الضحايا والهجرة المسيحية الكثيفة من العراق، من دون الاشارة الى مئات آلاف الضحايا غير المسيحية التي سقطت او هاجرت، ما يدفعنا الاّ نستغرب وصف غبطته الثورات العربية بـ"المؤامرة" او استخدامه تعبير "التطرف" لوصف الاسلام السني. لكننا نسأل غبطته: هل يوجد تطرّف أفظع من تعذيب اطفال درعا وتكسير اصابع الرسام الكاريكاتوري على فرزات واقتلاع حنجرة مطرب الثورة السورية ابرهيم قاشوش والسفك اليومي لدماء المتظاهرين المسالمين منذ ستة اشهر؟بصراحة، لا نلمح في الخطوط التي رسمها غبطته النهج السليم للمحافظة على الوجود المسيحي في الشرق. انما يجب رسم الخطوط الفاصلة بين من يقف الى جانب الانظمة الديموقراطية، وبين من هو مع الانظمة الديكتاتورية. فخطوط الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان والرأي الآخر، هي الخطوط الصحيحة التي تحرر الطوائف المسيحية وغير المسيحية من عقدة الاقليات وتضعهم في موقع الشركة الكاملة. أليس المسلم القارئ قيم العالم الحرّ أقرب الى أخيه المسيحي الحر، منه الى المسلم المستأثر بمفاهيم الاستبداد والاستعباد والديكتاتورية؟صفقنا طويلاً لانهيار الانظمة الديكتاتورية في العالم العربي، على رغم أنها تتصل بالاسلام السني، ولم يراع اي منا طائفة الحاكم المستبد او مذهبه. فالديكتاتوريات العربية بمن فيها النظام السوري، هي الآفة التي تكبح شعوب المنطقة الخروج من ظلام القرون الوسطى الدامس. فهل يرضى غبطته ان تستمر الشعوب في الشرق ترزح تحت ظلم الجزمة العسكرية ورعب الاجهزة الامنية والتعذيب البربري والتصفية الجسدية والمعتقلات السرية وعبادة الشخصية ونظرية القائد الخالد الى الابد، حتى تستشعر الاقليات ببعض الراحة؟لا نعتقد ان تمسّك البطريرك بترسانة "حزب الله" العسكرية تولّد عن حاجة المسيحيين الملحّة الى تحرير ما تبقى من اراض لبنانية محتلة. فلو كان الامر كذلك لأصر غبطته على مطالبة النظام السوري بترسيم حدود مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مع لبنان قبل اي شيء، بل ان تمسّك غبطته بسلاح "حزب الله" ووقوفه الى جانب نظام الاسد، يقع ضمن سياق نظرية تحالف الاقليات ضد الاكثرية السنية في الشرق. وهذا في حد ذاته يضاعف خطر الصدام بين السنّة والشيعة على حساب إنهاء الوجود المسيحي. فهل هكذا تُبنى الشركة والمحبة؟الخطورة تأتي ايضاً من اعتقاد غبطته بأن سلاح "حزب الله" يمنع توطين اللاجئين الفلسطينيين، ما يُشرّع ابواب التسليح لاية جهة تزعم رفضها للتوطين، أكانت لبنانية أم فلسطينية، وهذا ما يخشاه اللبنانيون. الا يجدر بغبطة البطريرك التروّي قليلاً ثم تصويب خطوطه الفاصلة بين الاقتناع بأن الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان والرأي الآخر، هي خطوط النجاة للوجود المسيحي وغير المسيحي في لبنان والعالم العربي والشرق؟
هاني النصولي      

«البشارة» بقلم عبده وازن - جريدة الحياة


«البشارة»
الخميس, 15 سبتمبر 2011

دأبــــت محطة «تيلي لوميير» التلفــزيــونية اللبنانــيــة على معـــاودة بــــث برنامج بعنوان «بشارة الراعي» الذي كان يقدمه سابقاً البطريرك الماروني الحالي بشارة الراعي ايام كان مطراناً. وما زالت هذه المحطة الكاثوليكية تصر على تقديمه بعد انتخاب الراعي بطريركاً على رغم ارتقائه السدة العالية، ساعية الى تعميم موعظاته الرعوية الصرفة التي تعني أكثر ما تعني ابناء الرعايا الذين يألفون هذا الكلام. وفي بعض الحلـــقات لم يــكن المطران يــتورع عن الكلام في السياسة ومرة ابدى رأيه في الحرب اللبنانية وكان «طوباوياً» جداً ما دل على عدم تعمّقه في معاني هذه الحرب وأبعادها وتناقضاتها.
الآن تبدو المحطة وكأنها مشغولة بـ «صورة» البطريرك دينياً وسياسياً لا سيما بعد الحملة التي يواجهها عقب التصريحات التي أدلى بها خلال زيارته الاخيرة لباريس. غير أن الانقسام الذي أحدثته هذه التصريحات في وسط الطائفة المارونية واللبنانيين عموماً جعل البطريرك يخرج عن موقعه التوافقي الذي طالما عرفت به بكركي على رغم ثوابتها التاريخية التي بلغت ذروة تجليها الحديث في عهد البطريرك السابق نصرالله صفير الذي كان حكيماً في علاقته بسائر الطوائف والاحزاب والجماعات اللبنانية المختلفة. وقد جعل من بكركي منبراً للقاء والحوار انطلاقاً من الثوابت التي لم يفرط بها يوماً.
لم تنقل المحطة هذه آراء الكثر من «المواطنين» الموارنة الذين فاجأتهم مواقف «راعيهم» المستغربة والمستهجنة ولا ردود الفعل السلبية التي أثبتت ان الملتزمين مارونياً لم يبقوا مجرد رعايا يحدد البطرك معالم حياتهم السياسية وأفكارهم ومواقفهم. وهذا ما فات البطريرك نفسه على رغم اطلالاته الدائمة وجولاته على المناطق والرعايا. وليت البطرك وادارته ينصتان جيداً الى ما يقال هنا وهناك في الاوساط المارونية من كلام معترض على سياسته الارتجالية التي ضربت ثوابتهم عرض الحائط، غير مبالية بالإرث الماروني الذي بات مهدداً بعدما تشتت الموارنة سياسياً ووجودياً.
وبعيداً من كل الإشاعات التي اطلقت أخيراً والتي طاولت الحالة المارونية قبل رموزها يستطيع البطرك ان يعود عن تصريحاته التي وضعت المسيحيين السوريين واللبنانيين امام خطر ما حتى وان كان هذا الخطر متوهماً او مقصوداً توهمه. أما قضية «حزب الله» فهي لا تحتاج الى نقاش ولعل البطريرك نفسه يعلم بذلك خير علم.