الأحد، 25 سبتمبر 2011

أسنان الفجر بقلم عقل العويط/ ملحق النهار


اللوحة لمنصور الهبر
ثمة سؤال يلحّ على الغالبية العظمى من اللبنانيين والعرب: ماذا لو أن الانتفاضات والثورات الجارية لم تفضِ في القريب العاجل الى قيام أنظمة ديموقراطية على ركام الأنظمة المتهاوية؟ يليه سؤال ثانٍ: ماذا لو أن المرحلة الانتقالية الظاهرة بعض ملامحها المقلقة، ستشهد ردّاتٍ وارتدادات وانقسامات وآلاماً واضطرابات وأعمال عنف والتباسات في شأن المصير السياسي؟

عندي جواب واقعي عن كلٍّ من هذين السؤالين، ربما يصعقان من يتوقع العكس.
الجواب الأول، أن هذه الانتفاضات والثورات، لن تفضي، ولا يمكنها أن تفضي، في القريب العاجل، الى استتباب أنظمة ديموقراطية حقيقية، في الدول المعنية، بما يجعل شعوبها مطمئنة الى مصيرها الآني المباشر.
الجواب الثاني، أن المرحلة الانتقالية لا يمكنها إلاّ أن تكون عصيبة، صعبة، خطرة، وطويلة.
من حقّ الذين يقرأون معطيات هذا المشهد، أن يقرأوه عارياً من الأحلام الوردية غير القابلة للتحقق بكبسة زرّ. من حقّهم إما أن يكرّوا، وإما أن يقيسوا، ويترددوا، ويخافوا. بل من حقّهم أيضاً أن يحجموا.
لكن من واجب هؤلاء جميعاً أن يقرأوا معطيات المشهد من جوانبها كافة، بما لها وبما عليها، معاً وفي آن واحد. كل قراءة ناقصة، مبتسرة، جزئية، لا بدّ من أن تفضي الى نتائج مماثلة.
هكذا لا يملك عشّاق الأنظمة الديكتاتورية، أو المتوجسون "السلبيون" من احتمالات الحراك الشعبي والمصير الثوري، على اختلاف أسباب كلٍّ منهما، وتناقضها، إلاّ التمسك بهذه الأنظمة باعتبارها خشبة احتماء وخلاص متوهمة. في حين أن الشعوب العربية التي تحمّلت ما لا طاقة لبشري على تحمّله، تملك خياراً واحداً لا ثاني لي: أن تكون في الحرية أو أن لا تكون.
قد يكون هذا "الخيار" مفرغاً من القدرة على الاختيار. بمعنى أن العربي، فرداً أو جماعات، يقف أمام الجدار الاستبدادي المحكم، ولا يملك حياله إلاّ أن يواصل الإقامة تحت ظلاله الدموية، أو... يعمل على تحطيمه. مع كل ما يتطلبه اتخاذ الموقف المناسب، أياً يكن، من فهم المسؤوليات الموضوعية واستيعاب النتائج المترتبة عليه.
طوال نصف قرن مضى، لم يقدّم نظام عربي واحد إلى شعبه أيّ بصيص من الحرية والأمل والرفاه، بل قدّم إليه، على العكس من ذلك، فقراً مدقعاً، ويأساً عميماً، وتشييئاً كابوسياً، وإحكاماً للقبضة الأمنية على تفاصيل عيشه الشخصي وعلى علاقته بالشأن العام، بما جعله شعباً من الأرقام والأعداد، مفرغاً من كلّ معنى.
كان النظام العربي "منسجماً" مع ذاته. فقد عرف، بحكم طبيعة تكوينه، وأهدافه، أن لا مكان في الحكم الاستبدادي يتسع للشعوب، أفراداً وجماعات، إلاّ إذا اندرجت كبنى قطيعية، أو كدمى وظلال يحرّكها كيفما شاء.
وكان أتباع الأنظمة "منسجمين" مع ذواتهم، بحكم طبائع نفوسهم وقيمهم وانتفاعاتهم.
أما الشعوب، الساكتة، الرازحة، غير المنتفعة، فكانت تواصل موتها البطيء، "غير منسجمة" مع معاييرها وحقيقة ذواتها وأحلامها في العيش الحرّ الكريم.
في الغالب الأعمّ، هذا ما حصل طوال الخمسين عاماً الفائتة من أعمار دول الاستقلال الوطني عن المستعمر أو المنتدب الأجنبي، التي وقعت جميعها في قبضة الحكم الاستبدادي الأحادي.
وإذا كانت تلك التجارب "الاستقلالية" التي انتظمت دولاً وحكومات، جمهورية وملكية، قد شهدت قيام أحزاب وتكوينات سياسية، غير مندرجة تماماً في الجهاز السلطوي الحاكم، فإن مصيرها كان، رويداً أو سريعاً، إما الى الانصهار الكلياني في بنية الاستبداد، وإما الى "استشهادها" بطريقة أو بأخرى.
خذوا حصيلة الحكم في الدول العربية جميعها، باستثناء لبنان – وهذا لأسباب شتى لا لزوم لاستعراضها الآن - فمن شأن ذلك أن يعطي صورة تفصيلية دامغة للمشهد الاستبدادي العربي، المتواصل، راهناً، على الأرض، قمعاً دموياً لم يكن له مثيل إلاّ في الأنظمة التوتاليتارية، عسكرية أكانت أم دينية أم أحادية الحزب والشخص.
في ضوء هذه الصورة، أخاطب الشعوب العربية القلقة على المصير، عارضاً أمامها السؤالين الأولين، وجوابي عنهما، وداعياً إياها الى اتخاذ الموقف المناسب.
قبل ذلك، لا بدّ من أن أسأل هذه الشعوب المترددة، كيف تستطيع هذه الأنظمة ذاتها التي ألغت شعوبها، طوال خمسين عاماً، ومنعت عنها الكرامات البديهية، أن تعترف فجأةً بوجود هذه الشعوب، أن تعترف بمحض وجودها فحسب كبشر، وبحقّها في العيش الكريم، وفي الحياة الاجتماعية والسياسية؟
كيف تستطيع هذه الأنظمة الديكتاتورية أن تصبح ديموقراطية؟
أيّ آليات يمكنها أن تجعل أجهزتها السلطوية والأمنية الرهيبة أجهزةً قابلة لوجود الآخر، محض وجوده فحسب، و"التنازل" له، بالانتخاب الحرّ، عن حقّها "الإلهي" في السلطة؟
أريد أن أعرف كيف؟
الحاكم الأبدي، هل يستطيع أن يتخلى عن أبد الحكم والسلطة إلاّ بالموت الطبيعي أو العنيف؟ وبعد الموت، إلاّ بالتوريث؟
إذا نعم، أريد أن أعرف كيف؟
فليحرجني أحدهم بجواب. ببرهان.
فليقدّم إليَّ، وإليكم، أحد هذه الأنظمة، برهاناً عملانياً واحداً، من شأنه أن يحمل المنتفضين والثوار على إعادة التفكير المليّ في انتفاضاتهم وثوراتهم، بما يفضي الى وقفها، وحبس الدماء البريئة.
فليقل لنا أحد الرؤساء الأبديين مثلاً إنه لم يعد يريد أن يستمر رئيساً لأنه "انتُخب" رئيساً، لا بعدد الأصوات المستحَقة، ولكن فقط بقوة الخوف والرعب والترويع والتزوير.
فليقل لنا إنه يقبل بأن يخضع للمساءلة القانونية الحرة.
فليقل لنا إنه لم يعد يريد من أحد أن يصفّق له مثلما كان يصفَّق له، حتى الأمس القريب، بل حتى هذه اللحظة بالذات، عندما يدخل الى قاعة مجلس الشيوخ أو مجلس النواب أو مجلس الشورى أو مجلس الشعب.
من يجرؤ على القيام بذلك، قد يجعلنا نغامر بدعوة المنتفضين والثوار الى وقف انتفاضاتهم والثورات.
لكن، من المؤلم والمفجع حقاً أن تكون الطرق مسدودة أمام التغيير الديموقراطي الهادئ في العالم العربي. فالنظام الذي لا يستطيع أن يتحمل تظاهرة سلمية، أو رأياً مخالفاً، كيف يستطيع أن يقبل بالتغيير؟!
من المؤلم والمفجع حقاً أن تكون المرحلة الانتقالية التي تلي سقوط الأنظمة، مرحلة عصيبة، صعبة، خطرة، وطويلة.
لهذا السبب بالذات، لهذا السبب وحده بالذات، لم يعد في مقدور الشعوب أن تظل محبوسة في القمقم الاستبدادي.
صحيح أن العالم العربي مقبل على أن يشهد مزيداً من الآلام والتضحيات، لكن دروب الجلجلة التي تفضي الى القيامة هي هي، هنا وفي كل مكان من العالم.
لم يتخلَّ ديكتاتور واحد عن السلطة طوعاً، لا في الأزمنة الماضية ولا في الزمن الحديث والراهن.
المرحلة الراهنة والمقبلة، تحفّ بالتحديات والأخطار والفخاخ والمغريات والغرائز. الخيارات ليست كثيرة. بل ربما ليس من خيار سوى واحد: إما الحرية وإما استمرار الأبد الاستبدادي بأقنعته المريبة.
ليس أمام هذه الانتفاضات والثورات، والحال هذه، سوى أن تعتمد على قواها الذاتية، وأن تترفع على تناقضاتها وانقساماتها، وأن تواصل كفاحها الديموقراطي السلمي، وأن تستلهم الأمل والصبر والحكمة والبطولة والتعالي على العنف، لتكمل سعيها الى الفجر. ومهما طال ليل الجلجلة، فسينتهي كرهاً أو طوعاً بين أسنان الفجر. وهي أسنان، ولا بدّ، طيبّة.


akl.awit@annahar.com.lb

نداء إلى المسيحيين العرب بقلم عقل العويط


اللوحة ليوسف عبدلكي
نداء إلى المسيحيين العرب
بقلم عقل العويط
لا يبتغي هذا المقال التفلسف على مسيحيي الشرق، ولا يحرّض، ولا يملي عليهم ما يجب أن يكونوا عليه، في هذه المفترقات الحاسمة من تاريخ المنطقة. هو محاولة فحسب، من شخص علماني، لتقديم قراءة بسيطة ومتواضعة لمسيح الحرية، ولما يراه من مسؤوليات مفترضة للمسيحيين حيال هذه القراءة.

لا تخافوا. أنا معكم إلى منتهى الدهور.
هذا الكلام ليس لي. إنه كلام المسيح بحسب الأناجيل. وهو كلام واضح وصريح، وفيه حضّ على طرد شبح الخوف، وعلى عدم الخضوع للترويع الذي تمارسه السلطات، وفيه دعوة إلى إشهار الشجاعة والذهاب بالموقف المطلوب إلى النهاية، أياً تكن النهاية.
وإذا كان الموت الهمجي يمثل نهاية بشعة، كموت المسيح مصلوباً، فهل ثمة نهاية أروع من الموت شاهداً للحق، وشهيداً له، كموت المسيح مثلا؟!
المسيح لم يكن خائفاً، لا على نفسه ولا على رعيته. علماً أنه كان ذاهباً إلى موت محقق، وأنه دعا رعيته، موضوعياً، إلى شبه موت محقق، بالشهادة له بين أمم الظلام والوثن والعبودية.
لكن ثمة الآن وهنا، مَن هو خائف خوفاً عظيماً على رعيته، وربما على نفسه، بل يُدخِل الهلع في قلوب المسيحيين، متماهياً مع نظام الرعب والظلم والاستبداد والديكتاتورية والقتل، وداعياً الرعية إلى مثل هذا التماهي.
باختصار علني مفيد: ندعو دعوة المسيح في عدم الخوف، وأيضاً إلى إشهار الثورة وطرد التجّار من الهيكل، الذي هو، على قول المسيح نفسه، بيت صلاة وثمة مَن جعله مغارة للصوص.
في زمن الثورة العربية، الممتدة من المغارب إلى المشارق، نقول باختصار آخر، علني ومفيد: لن نكون إلى جانب النظام الديكتاتوري ومغاور اللصوص. لن نكون إلى جانب القاتل المعلوم، أياً يكن مَن يخلفه، أيخلفه في القتل أم في نقيضه.
في زمن الثورة العربية، نحن مع الذين يخرجون من بيوتهم تاركين أحبابهم، عارفين أنهم قد لا يعودون إلى بيوتهم إلاّ شهداء.
هذا إذا عادوا!
في زمن الثورة العربية، نحن مع الشهيد وليس مع الدبّابة. ومن الطبيعي والبديهي أن نكون مع القتيل وليس مع القاتل.
لا نستطيع أن نكون مع زين العابدين بن علي، بحجة أننا لا نعرف النتائج المترتبة على الثورة في تونس، ولا طبيعة النظام الذي سيتسلم زمام الأمور هناك. لا نستطيع أن نكون مع حسني مبارك للسبب نفسه. ولا مع معمر القذافي، ولا مع علي عبدالله صالح، ولا مع ملك البحرين، ولا مع بشّار الأسد، ولا مع أيٍّ من الرؤساء والملوك والأمراء والمشايخ والسلاطين الذين يحكمون بليل الحديد والنار.
في السياسة، يستطيع أيٌّ كان أن يتخذ الموقف الذي يريده أو يراه مناسباً، لكن هل يحقّ لأحد أن يرى القتيل مقتولاً مدى أربعين عاماً، خمسين عاماً، ثم يقول إنه يفضّل أن يعطي فرصة إضافية للقاتل؟!
هل يحقّ لأحد أن يدفن رؤوسه في الرمال، وأن يمارس التقية الدينية والسياسية، وأن يدعو شعبه إلى أن يكون من أهل الذمّة؟
في السياسة، ناسٌ مع وناسٌ ضد، لكن من المهين والمعيب حقاً أن يكون المرء مسيحياً وأن يروّج لنظام ديكتاتوري. فكيف إذا كان مسيحياً مشرقياً، وسليل المسيحيين المشرقيين العرب، صنّاع الثورات والحريات وروّادها وقادتها وصحافييها وكتّابها ومثقفيها وفلاسفتها و... شهداءها؟!
تصوّروا أن المسيح بيننا، الآن وهنا، فماذا كان ليفعل؟ هل كان ليذهب الى شهادته أم يتراجع عنها لأنه خائف مما بَعد؟!
هل كان ليدخل الى الهيكل غاضباً ثائراً، قالباً طاولات التجار والصيارفة والسماسرة، أم متفادياً، ممالئاً، غاضّاً الطرف؟ هل كان ليقول لأتباعه: لا تذهبوا ولا تتلمذوا الأمم، لئلا تتعرّضوا للاضطهاد والقتل؟
لكني من أجل هذه الدعوة أتيت، قال المسيح. ولا بدّ أنه يقول مثل هذا القول، اليوم. وهنا.
أيّ "حكمة" سياسية هي هذه، تتماهى مع النظام الديكتاتوري، وتستعدي الثائرين ضدّه مجاناً؟
ثمة مَن يجيب: المسيحيون والأقليات في خطر. لكن ماذا إذا سقط النظام الديكتاتوري الذي تتماهى معه هذه "الحكمة"؟ أتكون تدعو هذه "الحكمة"، الذين تستعديهم من معارضي الديكتاتورية والثائرين عليها إلى الاقتصاص من المسيحيين، لأنهم طبّقوا "تعليماتها" بالوقوف ضد هؤلاء الثوّار، واتهامهم بالإرهاب والظلامية، والمشاركة في مؤامرة... غربية صهيونية؟
ألا تدري هذه "الحكمة" أنها، بذلك، تكون تشجع على قتل أبنائها، واضطهادهم؟!
ولنفترض أن ثمة "بعبعاً" من المحتمل أن يحلّ محل "البعبع" الجاثم على الصدور منذ أربعين عاماً، منذ خمسين عاماً، أفتدعو إلى القبول بالبقاء ضمن هذه الحلقة الجهنمية المفرغة؟
ثم مَن قال إن ثمة "بعبعاً" ينتظر الجميع بعد سقوط النظام الديكتاتوري؟
ليعلم الجميع أن خمسين عاماً من الديكتاتوريات والظلاميات لا تُمحى بشحطة قلم. بعد سقوطها، لا بدّ من عبور الركام، ركام الثورة والألم والفوضى والمطهر، إلى أن تشرق شمس الحرية.
أما النظام الديموقراطي والدولة العادلة، فهما يحتاجان في الأقل إلى أعمار من البذل والتضحية والشهادة والصبر والحكمة والعقل و... الأمل.
للذين لا يريدون أن يقرأوا التاريخ، عليهم بسنوات الركام التي أعقبت الثورة الفرنسية العظمى، قبل حلول زمن الدولة الديموقراطية.
الحرية لا تُنال بضدّها. الأمان لا يُنال بتفيّؤ يد الديكتاتور.
تأخذ حريتك بعدم الخوف. وبالشهادة. مثل المسيح.
تأخذها بأسنانك. ثم بأسنانك تحقّق الأمان عبر تأسيس الدولة العادلة.
في هذه اللحظات الحاسمة، قد يكون في إمكان المرء أن يهرب إلى الأمام، أن يتخابث، أن يتذاكى، أن يداهن، وأن يلعب على الحبلين. لكنه لا يستطيع، ولو للحظة، أن يتغافل عن خمسين عاماً من القتل، ولا أن يفتح الباب أمام خمسين أبداً من الذمية والهوان.
لا تخافوا، قال المسيح. وقال: إذهبوا واشهدوا. ثم قال لبولس في سفر "أعمال الرسل": لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر.
وأنتم أيها المسيحيون العرب ينبغي لكم أن لا تخافوا. بل ينبغي لكم أن تقفوا أمام قيصر. بل أمام كل قيصر. وأن تشهدوا للحق والحرية والديموقراطية.
¶¶¶
قَدَرُ المسيح الحرية لا الظلم. الشجاعة لا الخوف. قولة الحقّ لا الكذب والمداهنة. الثبات على الرأي لا التبدّل مع الأهواء والرياح. بما يقتضيه إعلاء شأن القَدَر هذا، من الشهادة للحرية، والعمل لأجلها تحت الغمرات والشدائد وفي عزّ الظلمات. وليس فقط في أزمنة الرخاء والطمأنينة والنور.
في ليل الشعوب، كما في العكس، ليس للمسيح أقدار أخرى. ولا أدوار أخرى.
ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان.
شهادة المسيح واحدة. نضاله واحد. هدفه واحد. موته واحد. وقيامته واحدة.
التماهي مع الحرية، أو مع المسيح، فعلان يكمل أحدهما الآخر، في المسيحية، وليس من سبيل إلى الفكاك من هذين التماهي والتكامل، أياً تكن الظروف والأحوال.
ثمة موت، ولا بدّ، وهو السبيل الوحيد الى القيامة.
بغير ذلك، بضدّه، لا قيامة.
استطراداً: لا حرية.
¶¶¶
ما أقرأه في قَدَر المسيح الحرّ، الشجاع، تالياً الثائر، وفي دوره، أقرأه ضرورةً في المسيحيين. في أقدارهم. وفي أدوارهم.
شهادته يجب أن تكون شهادتهم. نضاله يجب أن يكون نضالهم. هدفه يجب أن يكون هدفهم. موته يجب أن يكون موتهم. وقيامته هي تالياً قيامتهم.
هذا هو منطق المسيح والمسيحية. ما زاد على ذلك، أو ما نقص منه، هو، في المسيحية، من الشيطان.
¶¶¶
ما أقرأه في أقدار المسيحيين وأدوارهم مطلقاً، أقرأه ضرورةً، ومن باب أَولى، في العرب منهم، والمشرقيين، وَرَثَة المسيح في الأرض المجرّحة بالليل، وحَمَلَة قضيته، من فلسطين الى آخر أصقاع هذا الشرق.
قضية المسيح هي الحرية. وهذه ليست فعلاً تجريدياً أو رمزياً أو معنوياً فحسب. إنها خصوصاً فعل شهادة حسية، ملموسة، واقعية، لهذه الحرية.
كيف يكون فعل الشهادة؟
بالتحرير. بتحرير الإنسان مما يعوق تجلّي هذه الحرية. في الذات، في الآخر، وفي المجتمع مطلقاً.
لا يتجزأ فعل التحرير هذا، لأن كل اجتزاء فيه، يشكّل انتقاصاً من شخص المسيح، ورسالته.
تالياً، يتكامل فعل التحرير المسيحي ويصل إلى غايته بثلاثة: تحرير الذات، تحرير الآخر، وتحرير المجتمع، بما هو جماعة منتظمة في كيان دولتي.
هل هو متحققٌ فعل التحرير المثلّث هذا، في دنيا العرب؟ إذا لا، فما الذي يحول دون ازهراره؟
قراءتي تقول لا، ليس فعل التحرير متحققاً.
تالياً، يحول دون تحقق هذا التحرير، استتباب أنظمة القمع والديكتاتورية منذ نصف قرن، وولوغها في امتهان الكرامة البشرية والمجتمعية والثقافية والسياسية، ومصادرة الحرية.
والحال هذه، ما العمل؟ ما العمل الذي ينبغي أن يضطلع به المسيحيون العرب؟
هذا يستدعي من هؤلاء، تأدية دورهم المبدئي النظري، ودورهم التطبيقي العملاني، على السواء، ومواصلة فعلهم التاريخي في المنطقة العربية، القائم على رفع لواء الحرية وصون كرامة الإنسان الفرد والجماعة، على أرض الواقع.
بهذا فقط، يكونون رسل المسيح في الأرض العربية. وبهذا فقط، ينتمون الى مسيح الحرية. وينتمون تالياً: الى ثقافة الحرية مطلقاً.
الآن، في زمن ثورة الشعوب العربية على أنظمة القمع والديكتاتورية، كيف يتجلى دور المسيحيين، وكيف يتماهون مع مسيحهم ورسالته؟
الجواب: لم يكن المسيح ذمّياً، ولم يكن خانعاً، ولم يبحث عن خلاص فردي، بل كان على عكس ذلك تماماً. فقد وقف ليشهد للحقيقة في وجه قيصر، وفي وجه كل قيصر آخر، يهودياً أكان أم رومانياً.
فإذا كان من دور ينهض إليه المسيحيون اليوم، فأن لا يكونوا ذمّيين ولا خانعين، ولا أن يبحثوا عن خلاص فردي موهوم. هو، في كل حال، خلاص مستحيل. مسؤوليتهم أن ينخرطوا في النضال من أجل الحرية، والشهادة لها، لا الاختباء في عباءة الأنظمة المتوحشة وتحت صراخ دمائها.
ثمة في المدن العربية، دماء نبيلة تنزف، من أجل الحرية. من حقّ هذه الدماء على المسيحيين أن لا يتركوها وحيدة على القارعة.
فليدملوها. وليشهدوا فقط. فليشهدوا لمسيح الحرية.

akl.awit@annahar.com.lb

عفواً غبطة البطريرك بقلم هاني نصولي




أسفنا للخطوط الفاصلة التي رسمها غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي على خريطة الوطن العربي، شاطراً شعوب المنطقة بين أقليات وأكثرية. وبتنا نشارك غبطته هواجسه على مستقبل مسيحيي سوريا، الذين يشكلون 10% من مجموع السكان. فبمجرد إعلان البطريرك الماروني تعاطفه مع نظام الاسد اقحم المسيحيين عن غير قصد، في آتون الصراع الدموي الدائر بين النظام والشعب، على رغم اصغاء غبطته لرؤية الرئيس الفرنسي ساركوزي "أن نظام الرئيس السوري انتهى"!لقد تنبأ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بتحوّل الثورة السورية الى حرب أهلية بين الطائفة العلوية التي تشكل 9% والطائفة السنية التي تشكل 74% من سكان سوريا البالغ عددهم ما يقارب 23 مليوناً. تلك الحرب المتوقع لها ان تطول، كما حصل في لبنان إبان الحرب الاهلية عام 1975 التي دامت 15 عاماً، حيث تخللتها مواجهات بين القوى العظمى التي استخدمتها ساحة. ألم يؤكد النائب وليد جنبلاط في احدى مقابلاته، ان حرب الجبل عام 1983 "كانت نتيجة لثلاثة قرارات التقت في وقت واحد. قرار اتخذته انا وقرار سوري وقرار سوفياتي". من هنا أطرح تساؤلي: ما الحكمة من دفع المسيحيين الى الحريق السوري، بدل أخذ جانب الحياد الحذر؟عتبنا على البطريرك ان غبطته يستند الى نظرة دينية مبسّطة لاستخلاص العبر من احداث منطقة شديدة التعقيد. فهو يشير دائماً الى سقوط الضحايا والهجرة المسيحية الكثيفة من العراق، من دون الاشارة الى مئات آلاف الضحايا غير المسيحية التي سقطت او هاجرت، ما يدفعنا الاّ نستغرب وصف غبطته الثورات العربية بـ"المؤامرة" او استخدامه تعبير "التطرف" لوصف الاسلام السني. لكننا نسأل غبطته: هل يوجد تطرّف أفظع من تعذيب اطفال درعا وتكسير اصابع الرسام الكاريكاتوري على فرزات واقتلاع حنجرة مطرب الثورة السورية ابرهيم قاشوش والسفك اليومي لدماء المتظاهرين المسالمين منذ ستة اشهر؟بصراحة، لا نلمح في الخطوط التي رسمها غبطته النهج السليم للمحافظة على الوجود المسيحي في الشرق. انما يجب رسم الخطوط الفاصلة بين من يقف الى جانب الانظمة الديموقراطية، وبين من هو مع الانظمة الديكتاتورية. فخطوط الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان والرأي الآخر، هي الخطوط الصحيحة التي تحرر الطوائف المسيحية وغير المسيحية من عقدة الاقليات وتضعهم في موقع الشركة الكاملة. أليس المسلم القارئ قيم العالم الحرّ أقرب الى أخيه المسيحي الحر، منه الى المسلم المستأثر بمفاهيم الاستبداد والاستعباد والديكتاتورية؟صفقنا طويلاً لانهيار الانظمة الديكتاتورية في العالم العربي، على رغم أنها تتصل بالاسلام السني، ولم يراع اي منا طائفة الحاكم المستبد او مذهبه. فالديكتاتوريات العربية بمن فيها النظام السوري، هي الآفة التي تكبح شعوب المنطقة الخروج من ظلام القرون الوسطى الدامس. فهل يرضى غبطته ان تستمر الشعوب في الشرق ترزح تحت ظلم الجزمة العسكرية ورعب الاجهزة الامنية والتعذيب البربري والتصفية الجسدية والمعتقلات السرية وعبادة الشخصية ونظرية القائد الخالد الى الابد، حتى تستشعر الاقليات ببعض الراحة؟لا نعتقد ان تمسّك البطريرك بترسانة "حزب الله" العسكرية تولّد عن حاجة المسيحيين الملحّة الى تحرير ما تبقى من اراض لبنانية محتلة. فلو كان الامر كذلك لأصر غبطته على مطالبة النظام السوري بترسيم حدود مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مع لبنان قبل اي شيء، بل ان تمسّك غبطته بسلاح "حزب الله" ووقوفه الى جانب نظام الاسد، يقع ضمن سياق نظرية تحالف الاقليات ضد الاكثرية السنية في الشرق. وهذا في حد ذاته يضاعف خطر الصدام بين السنّة والشيعة على حساب إنهاء الوجود المسيحي. فهل هكذا تُبنى الشركة والمحبة؟الخطورة تأتي ايضاً من اعتقاد غبطته بأن سلاح "حزب الله" يمنع توطين اللاجئين الفلسطينيين، ما يُشرّع ابواب التسليح لاية جهة تزعم رفضها للتوطين، أكانت لبنانية أم فلسطينية، وهذا ما يخشاه اللبنانيون. الا يجدر بغبطة البطريرك التروّي قليلاً ثم تصويب خطوطه الفاصلة بين الاقتناع بأن الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان والرأي الآخر، هي خطوط النجاة للوجود المسيحي وغير المسيحي في لبنان والعالم العربي والشرق؟
هاني النصولي      

«البشارة» بقلم عبده وازن - جريدة الحياة


«البشارة»
الخميس, 15 سبتمبر 2011

دأبــــت محطة «تيلي لوميير» التلفــزيــونية اللبنانــيــة على معـــاودة بــــث برنامج بعنوان «بشارة الراعي» الذي كان يقدمه سابقاً البطريرك الماروني الحالي بشارة الراعي ايام كان مطراناً. وما زالت هذه المحطة الكاثوليكية تصر على تقديمه بعد انتخاب الراعي بطريركاً على رغم ارتقائه السدة العالية، ساعية الى تعميم موعظاته الرعوية الصرفة التي تعني أكثر ما تعني ابناء الرعايا الذين يألفون هذا الكلام. وفي بعض الحلـــقات لم يــكن المطران يــتورع عن الكلام في السياسة ومرة ابدى رأيه في الحرب اللبنانية وكان «طوباوياً» جداً ما دل على عدم تعمّقه في معاني هذه الحرب وأبعادها وتناقضاتها.
الآن تبدو المحطة وكأنها مشغولة بـ «صورة» البطريرك دينياً وسياسياً لا سيما بعد الحملة التي يواجهها عقب التصريحات التي أدلى بها خلال زيارته الاخيرة لباريس. غير أن الانقسام الذي أحدثته هذه التصريحات في وسط الطائفة المارونية واللبنانيين عموماً جعل البطريرك يخرج عن موقعه التوافقي الذي طالما عرفت به بكركي على رغم ثوابتها التاريخية التي بلغت ذروة تجليها الحديث في عهد البطريرك السابق نصرالله صفير الذي كان حكيماً في علاقته بسائر الطوائف والاحزاب والجماعات اللبنانية المختلفة. وقد جعل من بكركي منبراً للقاء والحوار انطلاقاً من الثوابت التي لم يفرط بها يوماً.
لم تنقل المحطة هذه آراء الكثر من «المواطنين» الموارنة الذين فاجأتهم مواقف «راعيهم» المستغربة والمستهجنة ولا ردود الفعل السلبية التي أثبتت ان الملتزمين مارونياً لم يبقوا مجرد رعايا يحدد البطرك معالم حياتهم السياسية وأفكارهم ومواقفهم. وهذا ما فات البطريرك نفسه على رغم اطلالاته الدائمة وجولاته على المناطق والرعايا. وليت البطرك وادارته ينصتان جيداً الى ما يقال هنا وهناك في الاوساط المارونية من كلام معترض على سياسته الارتجالية التي ضربت ثوابتهم عرض الحائط، غير مبالية بالإرث الماروني الذي بات مهدداً بعدما تشتت الموارنة سياسياً ووجودياً.
وبعيداً من كل الإشاعات التي اطلقت أخيراً والتي طاولت الحالة المارونية قبل رموزها يستطيع البطرك ان يعود عن تصريحاته التي وضعت المسيحيين السوريين واللبنانيين امام خطر ما حتى وان كان هذا الخطر متوهماً او مقصوداً توهمه. أما قضية «حزب الله» فهي لا تحتاج الى نقاش ولعل البطريرك نفسه يعلم بذلك خير علم.

"أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية" بقلم عبده وازن - صحيفة النهار


"أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية"
بقلم عبده وازن - صحيفة النهار
كان الإعلام، مرئياً ومسموعاً، يسعى وراء البطريرك صفير، مستنطقاً إياه بمشقة، وكان هذا البطريرك الحكيم يختصر قدر ما أمكنه، فهو لا يؤثر "الاطناب" ولا الثرثرة بل كان يكتفي بكلام فيه الكثير من التلميح الذكي الذي يقول كثيراً، بقليله. أما البطريرك الجديد بشارة الراعي، فبدا منذ تسلمه الكرسي – الذي جعله بمثابة سدة رئاسية – على خلاف سلفه، ذا ميل فاضح الى الأعلام، لا سيما المرئي والمسموع، وغدا كأنه يسعى هو وراء هذا الإعلام سعياً شخصياً أكثر مما يسعى الإعلام وراءه. هذه النزعة المستهجنة ليست بجديدة في "مسار" البطريرك، فهو كان يطل، أيام كان مطراناً، على شاشة "تيلي لوميير" في برنامج يحمل عنواناً هو بالتحديد اسمه نفسه: "بشارة الراعي"، ولكن مرتكزاً الى رمزية هذا الاسم الذي قد لا تطاوله كثيراً. فالمطران حينذاك، لا يمكن وصفه بـ"الراعي" كما ورد في الإنجيل، وبشارته لا يمكن بالتالي اسقاطها على مفهوم البشارة التي قال بها الإنجيل، وهذا مفروغ منه. فالإنجيل لا يُقارب بسهولة وصفة "الراعي" الذي تحدث عنه المسيح، هي أبعد من أن تطلق كيفما كان لها ان تطلق. والخوف، كل الخوف أن يكون الخصوم المعلنون وغير المعلنين، قد عملوا بموجب المثل الإنجيلي: "أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية" (متى،31).
آخر "بشارات" الراعي التي أطلقها خلال زيارته الأخيرة لفرنسا، لم تكن ببشارة بقدر ما كانت بـ"نذير" شؤم. فهي أولاً سياسية، في المعنى "السيئ" للسياسة، بل في معناها الملتبس والملفّق، ثم إنها جاءت تناقض تماماً ما كان قاله الراعي نفسه، بخاصة في ما يتعلق بسلاح "حزب الله" الذي وصفه مراراً باللاشرعي، ووجد فيه عائقاً أمام قيام الدولة، دولة "الشركة" التي نادى بها سابقاً وأنكرها في باريس. فأيّ شركة (أو شراكة) هذه التي تقوم على خلل كبير في تركيبة الدولة والمجتمع، وهو خلل غير طبيعي بل مفروض فرضاً لمصلحة جماعة من داخل هذه التركيبة؟
أما في ما يخص الدفاع عن النظام السوري وحزب البعث الحاكم في هذه اللحظة التاريخية الرهيبة، فبدا كلامه مستهجناً كل الاستهجان، وعبّر عن انقلاب واضح على ثوابت بكركي والطائفة المارونية المعروفة بانحيازها الى صف الضحية ورفضها كل اشكال التسلط والقمع والقتل. لو كان موقف الراعي شخصياً لكان قابلاً للنقاش انطلاقاً من الحرية في الاختيار والانتماء، لكنه يمثل الكنيسة المارونية، على اختلاف مرتباتها، وكذلك المواطنين الذين ينتمون اليها روحياً. والكنيسة المارونية التي طالما عانت الاضطهاد والقمع والتسلط خلال التاريخ، لا يسعها البتة أن تناصر القامعين والمتسلطين والطغاة وفي ظنّها أنها تحمي نفسها وتحمي سائر المسيحيين. كنيسة المقموعين والمضطهدين أصبحت كنيسة القامعين والطغاة. هذه ليست بالكنيسة المارونية. والراعي مهما حاول أن يسبغ هذه الصفات على كنيسة الموارنة فهو سيظل عاجزاً كل العجز عن تشويه تاريخ هذه الكنيسة وتحطيم هالتها الرمزية.
في الأيام الاخيرة، بدا الراعي نجماً تلفزيونياً. لم يعد يقوم بأيّ جولة رعوية – وغير رعوية – بعيداً من الكاميرات. لم يبق هو الراعي فحسب، بل أصبح النجم، على خلاف الراعي الذي تحدث عنه المسيح. في أحد الاحتفالات به في بعلبك ألقى فيه أحد المحتفين كلمة تفيض بلاغة وفصاحة ومرّ فيها على ذكر المسيح بصفته عبداً لله، وهي المقولة التي دفعت سابقاً الراعي (المطران) على الاعتراض على برنامج عن المسيح كانت تبثّه "المنار"، وعلى اعلان ما يشبه العصيان الطائفي. لكن الغبطة والبهجة اللتين أخذتا بالراعي خلال التكريم لم تسمحا له بسماع هذه المقولة التي قيلت علانية. فهذا "الاحتضان" (غير البريء) لم يحظ به حتى في مسقطه الماروني.
شخصياً لن آخذ بالشائعات التي أطلقت أخيراً حول البطريرك الذي قلب مواقفه رأسا على عقب، فالشائعات السياسية التي تحيق به والملفات لم يتم الحديث عنها، لا يمكن الأخذ بها بتاتاً. لكني شخصياً، وبصفتي مارونياً بحسب الهوية، أشعر أن هذا البطريرك لا يمثّلني ولا يمثّل الكثيرين من أمثالي وغير أمثالي. وما دام البطريرك صفير على قيد الحياة – أطال الله عمره – فهو الوحيد يستحق لقب "مجد لبنان أُعطي له". علماً أنني لم أعد أؤمن بالفكرة اللبنانية أو بالخرافة اللبنانية التي لم يعد لها وجود.

الخميس، 22 سبتمبر 2011

هل يخرج «فرسان الموارنة» من خلوتهم الانتخابية بصيغة موحّدة؟ بقلم غراسيا بيطار - السفير 23 أيلول 2011


مشاريع بارود و«مركز فارس» والفرزلي توضع اليوم على مائدة الراعي
هل يخرج «فرسان الموارنة» من خلوتهم الانتخابية بصيغة موحّدة؟

الراعي مستقبلا شكر (حسناء سعادة)
غراسيا بيطار
الى «الخندق الماروني» در. عند التاسعة والنصف من صباح اليوم من المفترض أن يكتمل عقد «القطيع الصغير» حول راعيهم في بكركي. يتصافحون. «يشد» البعض لـ«يرخي» الآخر. يتقاسمون «ثوب» القانون الانتخابي العتيد. في الدعوة الرسمية أن «الغاية من الاجتماع الإطلاع على ما توصلت اليه اللجنة المصغرة والخبراء في شأن مشاريع قوانين الانتخاب والتشاور في توحيد الرؤية حول قانون الإنتخاب». وفي نفوس بعض المشاركين «الاستماع الى كلمة البطريرك بشارة الراعي الافتتاحية ولا بأس من إنفاق ما تبقى من وقت على المداخلات الممتدة لغاية الأولى بعد الظهر. ثم نتناول طعام الغداء على مائدة بكركي ونرحل... كل إلى متراسه».
في المحصلة، لم تصل اللجنة المصغرة الى أي مكان بعد. وزير الداخلية السابق زياد بارود و«مركز عصام فارس» ورئيسه السفير عبد الله بو حبيب، أديا قسطيهما الى العلى الماروني بعدما عرض كل منهما لمشروعه الإنتخابي... والبقية تقع على الأحزاب المشاركة من «التيار الوطني الحر» الى «القوات» و«الكتائب» و«المردة». في اجتماع اليوم من المتوقع أن يرفع الى المؤتمرين مشروعا «بارود» و«فارس» على أن يضاف اليهما ثالث هو مشروع نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي الذي أعلنه باسم «اللقاء الأرثوذكسي».
المعلن فقط هو موقف الكتائب الرافض لمبدأ النسبية لأنه، على ما يقول خبراء كتائبيون يحرم «حزب العائلة» من إمكان الفوز بأي نائب، لذلك ثمة ميل في الصيفي لمشروع الفرزلي علماً بأنه يستند أيضاً الى النسبية لكن لناحية أن «كل طائفة (وكل مذهب) تنتخب نوابها».
في الواقع المسيحي البرلماني هناك أربعة وثلاثون نائباً من أصل أربعة وستين انتخبوا بأكثرية أو حيثية مسيحية وأما البقية فيأتون «بالرافعة المسلمة». ومن هذا المنطلق، «استدعت» بكركي القيادات وراح الجميع يسجل ملاحظات متفرقة. تمنت الأحزاب على بارود أن يدخل بعض التعديلات على مشروعه لناحية أن يكون الصوت التفضيلي واحداً وليس اثنين، علماً أنه يقضي بتقسيم لبنان الى أربع دوائر (الشمال 3، البقاع 3، الجنوب 3، الجبل 4 وبيروت 2).
أما المشروع الثاني الذي يعتمد القضاء دائرة إنتخابية، فيعرّفه «مركز فارس» بأنه نظام الصوت الواحد للناخب الواحد أي أنه نظام أكثري بتجيير محدود في دوائر متعددة المقاعد». يتيح هذا المشروع أمام المستقلين «إبراز حضورهم ويقدم لهم حظوظاً أوفر للفوز» وهذا ربما ما يجعل قلب الأحزاب «المحبة للإحتكار في التمثيل واللوائح» لا يخفق له. وإذا كان «مشروع الفرزلي» يقدم الطائفية على «طبق فج»، فإن هذا المشروع يعتمد «الطائفية المقنعة» لكنه يرفع لواء «تأمين حيثية التمثيل لكل طائفة بحيث لا عودة الى وجوه نيابية لا تمت الى النيابة بصلة».
وبينما تدير الكنيسة بصمت هذا اللقاء واجتماعاته التحضيرية من زاوية «تأمين أكبر تمثيل مسيحي حقيقي بحيث لا يفوز النائب المسيحي بأصوات الناخبين المسلمين سنة كانوا أم شيعة أم دروزا»، تقيس الأحزاب مقارباتها لمشاريع القوانين على مسطرة «مصالحها الحزبية». قد يكون الجميع يرغب في الصميم بمشروع الفرزلي لكنه في العلن لن يعرب عن ذلك نظراً لـ«فظاظته الطائفية».
ماذا بعد بكركي؟ ينعي البعض كل هذه الجهود على اعتبار أنها لن تتخطى عتبة «البيت المسيحي». هذا إذا خرج «فرسان الموارنة» أصلاً بكلمة موحدة من «خلواتهم الانتخابية». فالمنافسة ظاهرية والحياة، على ما يبدو، ستكتب «تمديداً» للقانون الأكثري الحالي خصوصاً وأنه «على قياس» فريق 14 آذار. وثمة من يردّد بأن سعد الحريري اتصل بحليفيه المسيحيين، سمير جعجع وأمين الجميّل، عارضا أن يضحى مثلا بـ«أقليات» باسم الشاب لصالح نائب كتائبي، يبقي على سامر سعادة طرابلسيا، «يسلّف» جعجع نيابة وهبة قاطيشا في عكار، يضحّي بنيابة أنطوان سعد في البقاع الغربي....

هل قال ساركوزي للراعي ليهاجر المسيحيون من لبنان إلى فرنسا ؟ من جريدة الديار - الجمعة 23 أيلول 2011


هل قال ساركوزي للراعي ليهاجر المسيحيون من لبنان إلى فرنسا ؟
مشروع للإتحاد الأوروبي لاستيعاب 3 ملايين مسيحي من لبنان وسوريا
Friday, September 23, 2011 - 01:55 AM
 
 


قال أحد أعضاء الوفد الذي رافق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى باريس، ان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سأل البطريرك الراعي جدياً «ما دام أن المسيحيين أصبح عددهم مليوناً وثلاثمئة الف في لبنان والمسيحيون في سوريا مليون ونصف، فلماذا لا يأتي المسيحيون الى اوروبا ويعيشون فيها، مع العلم انه تم استيعاب مليوني مهجر مسيحي عراقي في اوروبا».
وشرح الرئيس ساركوزي للبطريرك الراعي انه في ظل صراع الحضارات، خاصة المسيحي - الاسلامي، لا مكان للمسيحيين في المشرق العربي، والافضل ان يأتوا الى الاتحاد الاوروبي المؤلف من 27 دولة.
اصيب البطريرك الماروني بالذهول لهذا الكلام، وقال لساركوزي: «كيف يمكن ان يحصل هذا الامر؟ فسحب ساركوزي ورقة تتضمن معلومات ان اكثر من 3 ملايين مسيحي هاجروا من لبنان خلال العشرين سنة الماضية، وان منطقة الشرق الاوسط مقبلة على مشاكل عديدة. 

عاد البطريرك الراعي الى لبنان وادلى بتصريحات مناقضة للكلام الفرنسي واعتبر ان عليه ان يبدأ بخط عربي كبير كي يحافظ على المسيحيين، مع العلم ان البطريرك الراعي التقى بطريرك الروم الارثوذكس هزيم الذي كان قد سافر الى موسكو واجتمع هناك مع بطريرك روسيا للارثوذكس. واتصل البطريرك الروسي برئيس الوزراء بوتين وحصل لقاء بين البطريرك هزيم ومساعد وزير الخارجية الروسي الذي قال له ان روسيا ستبقى مع الرئيس بشار الاسد حتى النهاية، وانها ستحافظ على طائفة الروم الارثوذكس وستعمل من خلال علاقاتها مع ايران وتركيا والسعودية وسوريا لمنع المس بالمسيحيين في سوريا، وقد اتفق البطريرك الراعي الماروني مع بطريرك الروم الارثوذكس على اتباع سياسة عربية لحماية المسيحيين. 
وفي هذا السياق تعقد قمة روحية نهار الثلثاء في دار الفتوى يحضرها بالاضافة الى المفتي قباني البطريرك الراعي والشيخ عبد الامير قبلان والشيخ نعيم حسن، وسيصدر عن الاجتماع بيان سيتناول التطورات الراهنة وسيضع البطريرك الراعي القادة الروحيين في اجواء اجتماعاته في العاصمة الفرنسية. 
اجتماع الأقطاب الموارنة اليوم 
يعقد اليوم الاجتماع المسيحي في بكركي في حضور الاقطاب الموارنة الاربعة: الرئيس امين الجميل وميشال عون والنائب سليمان فرنجية والدكتور سمير جعجع بالاضافة الى النواب الموارنة. وسيترأس الاجتماع البطريرك الراعي والذي سيناقش خلاصة ما توصلت إليه اللجنة المنبثقة من اجتماع بكركي الاول والمؤلفة من النواب: جورج عدوان وآلان عون وسامي الجميل والوزير السابق يوسف سعاده والوزير السابق زياد بارود في شأن قانون الانتخابات. ودرست اللجنة كل الاقتراحات لضمان وصول 64 مسيحياً بأصوات المسيحيين في ظل تقدم قانون النسبية، لكن القرار يعود الى الاقطاب الاربعة والبطريرك الراعي لاتخاذ الموقف النهائي. 
الى ذلك، يتوجه البطريرك الراعي الى الجنوب نهار السبت في زيارة رعوية تشمل جميع مناطق الجنوب وسيحظى باستقبالات شعبية حاشدة تؤكد على عمق الروابط بين اللبنانيين وخصوصا في منطقة الجنوب التي واجهت العدو الاسرائيلي، كما سيولم الرئيس نبيه بري على شرف البطريرك في المصيلح في مأدبة غداء ستجمع قادة البلاد السياسيين والروحيين من كل الطوائف. 
وفد روحي سوري في بكركي 
الى ذلك، علم ان وفدا من المرجعيات الروحية السورية قد يزور بكركي خلال الايام المقبلة، علما ان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي استقبل امس عددا من الاكاديميين السوريين وجرى استعراض للتطورات السياسية في المنطقة، وشكر هؤلاء البطريرك الراعي على مواقفه. 
وثيقة لـ14 آذار 
على صعيد آخر، تعقد قوى 14 آذار المسيحية لقاء موسعا منتصف تشرين الاول وفي حضور اكثر من 250 شخصية، بالاضافة الى بعض المطارنة وسيصدر عن الاجتماع وثيقة تعرض لواقع العلاقة الترابطية بين المسيحيين والثورات العربية وبأن المسيحيين لا يمكن إلا ان يقفوا الى جانب حركات «الربيع العربي» المطالبة بالحرية والعدالة. 
وستشكل مضامين الوثيقة رد غير مباشر على كلام الراعي وتحذيره من خطر التفتيت وقيام انظمة متشددة. 
إقرار خطة الكهرباء 
أقرّت خطة الكهرباء بصيغة تشمل قرار مجلس الوزراء وفي 5 دقائق اعلن بعدها العماد ميشال عون تحفظه عن صيغة المشروع كما طرح حفاظا على التضامن الحكومي، لكنه تحفظ في الوقت نفسه عن إدخال قرار مجلس الوزراء في صيغة المشروع لانه يمس بمبدإ فصل السلطات، متمنيا لو كان وضع في الاسباب الموجبة، علما ان العماد عون كان قد عقد خلوة مع الرئيس بري قبل الجلسة. 
واللافت ان الجلسة شهدت تنافسا بين تياري الوطني الحر وتيار المستقبل وبالتحديد بين العماد ميشال عون والرئيس فؤاد السنيورة على انجاز خطة الكهرباء، وخصوصا ان السنيورة حرص بعد الجلسة على الادلاء بتصريح مطول تبنى فيه المشروع واشاد بكلمة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في جلسة اللجان النيابية المشتركة. 
وافادت مصادر نيابية ان عون لم يكن امامه خيار آخر إلا القبول وخصوصا ان الجو الذي ساد جلسة مجلس الوزراء امس الاول قد اظهر ان وزير الطاقة جبران باسيل فشل في إقناع الوزراء بعدم ادخال التعديلات التي تصر عليها المعارضة. 
وسألت المصادر عن الخلفيات التي تدفع باسيل الى الاصرار على المشروع من دون ضوابط، مستغربة اصرار عون على ادعاء الانتصار في وقت يعرف القاصي والداني انه لم يستطع تحقيق اهداف صهره وزير الطاقة. 
واللافت في الجلسة التشريعية امس، كان التنسيق بين الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي والنائب وليد جنبلاط الذي حضر مع كل نوابه كما حضر النائب سليمان فرنجية، للتصويت على مشروع القرار في حال ذهبت الامور الى المواجهة، علما ان اجتماع اللجان النيابية المشتركة برئاسة بري وحضور ميقاتي كان قد توصل الى الصيغة التوافقية واقرار المشروع بالتعديلات التي طرأت عليه في جلسة الامس. 
وفي مجال آخر، شهدت الجلسة تبادلا للشتائم والكلام العنيف من العيار الثقيل بين النائب نقولا فتوش والنواب فريد حبيب وايلي ماروني واحمد فتفت على خلفية المشروع الذي قدمه نقولا فتوش عندما كان نائبا لتنفيذ قرارات مجلس الشورى التي صدرت ومنها قرار يتعلق بالتعويض على اشقائه بمبلغ مئتين وخمسين مليون دولار على اثر توقيف عمل المرامل والكسارات في مرحلة سابقة، وقد اختلط النقاش بين مضامين الاقتراح العامة التي تؤكد على تنفيذ الاحكام القضائية المبرمة، وبين اعتبار نواب المعارضة ان وراء الاقتراح غايات واهداف لمصلحة افراد. 
وحمل فتوش على الرئيس السنيورة قائلا: لو كانت هناك دولة لأحيل الى القضاء. واثنى عدد من النواب على اقتراح فتوش وتبناه لاحقا النائب العوني ميشال حلو. 
كما اقر مجلس النواب قانون يضمن للسائقين العموميين حقهم الذي كانوا قد حصلوا عليه في نهاية عهد الحكومة السابقة. 
كذلك طرح النائب اكرم شهيب موضوع اختفاء شبلي العيسمي، وانتقد النظام السوري واشاد بشعبة المعلومات، فرد النائب نواف الموسوي بالنظام قائلا: ليس هناك في القانون اسمه شعبة المعلومات بل فرع المعلومات. 

المونسنيور زيدان... وكفى بقلم غسّان حجّار - النهار - أيلول 2011



أعلن الفاتيكان موافقته على انتخاب المونسنيور كميل زيدان مطراناً في الكنيسة المارونية ونائباً بطريركياً قيماً على الدوائر البطريركية. وهو الرجل الذي انتهج التنظيم الدقيق في حياته كما في المناصب التي تسلمها، خصوصاً في الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، حيث تعرفت اليه وكنت بعد صحافياً يافعاً.
منذ ذلك الزمن، لم يتغير الرجل ولم يتبدل، ولم يسمن، ولم يحقق مالاً ولا جاهاً. ظل على تواضعه، محافظاً على هيبة رجل الدين، والمربي، والإداري الناجح.
قد يجد حوله كثيرين يمدحون صفاته، وسيزيدون في الآتي من الأيام بسبب المصالح الكبيرة والكثيرة للناس في الدوائر البطريركية، ستفيض عليه المغريات والعطايا، والدعوات خصوصاً. لكن كل هذا لا ينفع، أي انه لا يقدم ولا يؤخر في الموقف الذي يتخذه المطران زيدان، اذ يشهد تاريخه على انه لم يتأثر بأجواء محيطة، مريحة أو مغرية، أو ضاغطة خصوصاً، وقد مورست عليه ضغوط كبيرة من سياسيين، عندما كان يحارب وحيداً بعض خطط تربوية ومشاريع مشبوهة لتغيير واقع التربية في لبنان، والتي كانت تؤدي حكماً الى تغيير هوية البلد.
كان يعي تمامًا ما يجري ويحاك، وكان يردد أمامي أن هذه الخطة أو تلك على بساطتها، ستترك مفاعيل خطرة تظهر نتائجها بعد نحو 15 الى 20 سنة، "لذا علينا مواجهتها اليوم".
كان يلازم مكتبه في الأمانة العامة في شارع مونو، قبل المباشرة في بناء الأمانة العامة الحالية في عين سعادة، واذ كنت أقول له "هل أقصدك في مونو؟" يبتسم ويقول بصوته الخافت. "مونو لنا في النهار ولغيرنا في الليل، فلا تتأخر في القدوم حتى تجدنا".
لا يهم أين نقصدك سيدنا، المهم ان نأتي اليك، وان نجدك على الدوام، كما عهدناك، أنت أنت، المونسنيور زيدان، الحاضر دائماً وأبداً.
غسان حجار      
ghassan.hajjar@annahar.com.lb     

البطريرك وثَمَن الظهور المُفرِط

كتب مازن حايك - النهار - أيلول 2011


"كلامي في فرنسا اجتُزئ وأُخرج من إطاره، ولذلك فُهِمَ على غير محله أو تم تحويره"، قالها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي فور عودته إلى بيروت، ساعياً لتوضيح مواقفه المثيرة للجدل، والتخفيف من الإنتقادات. وبعيداً من الخوض في مبادئ بكركي وثوابتها الوطنية، أو في موقفها من النظام السوري والعلاقات اللبنانية - السورية، أو في مسألة حضور رجال الدين وتدخُّلهم في السياسة والمال والأعمال وغيرها، أو في الأسباب التي أفضت تدريجاً إلى غياب القيادات السياسية والقامات في البلد... لا بد من التطرّق، بحرص ومحبة واحترام، إلى ظاهرة "البطريرك – الإعلامي" الكاريزماتي اللامع، والتحديات المحيطة بصورته، ونشاطه الإعلامي، وتواصله الدائم والمباشر مع الناس، وشغفه بالزخم الشعبي.
طبعاً، تغيّرت الظروف، وتطوّرت أساليب التواصل والتفاعل والتأثير والإقناع، بالمقارنة مع زمن "بطريرك الموارنة يُزار، ولا يزور!". فالبطريرك الراعي، وفور انتخابه، ذهب بعيداً في الظهور الإعلامي المُفرِط، وتغطية نشاطاته اليومية المتعددة والمتنقلة، واحتلال الساحات والشاشات ونشرات الأخبار، واتخاذ المواقف من كافة الأمور والملفات، مما يُعرّض صورته لخطر "الإحتراق" لشدّة الضوء وكثرة "الترويج"... كما يُظهره بمظهر المُنافِس للسياسيين، والإعلاميين، و"الماركات المسجلة"، والبرامج التلفزيونية لناحية الجماهيرية ونسب المشاهدة، علماً أن تلك، وبعكس البطريرك، تخضع لعوامل العرض والطلب، واللمعان والتآكل، والصعود والهبوط، بالمعنى التسويقي للكلمة. أما الخطر الآخر، فيكمُن في الخوف المتزايد من أن يأتي الظهور الإعلامي المُفرِط للبطريرك على حساب المساحة الحقيقية التي يوليها لشؤون الكنيسة، والرعية، والصلاة، والتنشئة اللاهوتيّة، والقراءة، والتأمل، والراحة...
إذاً، لا بد للحريصين على صورة البطريرك، والقيّمين على إطلالاته الإعلامية، والمؤتمَنين على وقته الثمين، من تنقية صورته، وتحصينها بالمزيد من "المناعة" والرويّة والبُعد التخصُّصي، عبر اعتماد وتيرة ظهور إعلامي مُخفَّفة وهادفة، كماً ونوعاً، واختيار المكان والزمان والمحتوى الأنسب لإطلاق التصريحات، لتُعبّر بدقّة عن مبادئ بكركي وثوابتها، وتكون أكثر تجانساً مع المواقف التي يُراد فعلاً التعبير عنها، بدل الوقوع في فخ الإرتجال والتكرار وأحياناً التناقض. أو لوم الإعلام على التحوير، والإجتزاء، وسوء الفهم، وقلّة التقدير... علماً أن مواقف البطريرك الأخيرة في فرنسا، لم تكن تحتمل أصلاً أياً منها، بل جاءت واضحة ومُتلفزة بالصوت والصورة.
أفلا يُمكن اعتماد "حل وسط" ما بين الإنكفاء، والتعتيم، وندرة التواصل، من جهة، والجنوح نحو الظهور الإعلامي المُفرِط، والدخول في الشاردة والواردة، والتعليق على كل الأمور والملفات، من جهة أخرى؟!
مازن حايك     

بغاضة التسمية بقلم سمير عطاالله - النهار - 21 أيلول 2011



عام 2001، عبر روري ستيوارت (الآن نائب بريطاني) الاراضي الايرانية قاطعا 2000 ميل مع مرافقه الرسمي. اولا على بغل، ثم مشيا لأن المرافق تبرم، قائلا ان الناس تنظر الى البغالة على انهم مهربون، إما للأفيون من افغانستان وإما للبضائع المزورة من العراق. عندما وصل ستيوارت الى قرية "غوز هاسلي" على الحدود التركية، سأل عن معنى الاسم فقيل له "الفتاة ذات الصليب"، فأدرك ان القرية كانت ارمنية قبل مجازر القرن الماضي. ولما اقام فيها بضعة ايام رأى انها مؤلفة من الهويات الآتية: اكراد، فرس، اذريون – اتراك، ولور، يتوزعون على 60 منزلا.
"غوز هاسلي" هي صورة الشرق، هذه الفسيفساء المتناحرة، المتقاتلة، المتنازحة، المتجاورة والمتصالحة، على ارض تغيرت فوقها الامبراطوريات والموجات، اقامت فيها روما واليونان وفارس وبنو عثمان، وعصف بها هولاكو، وهزم فيها الافرنج. اللوحة على مدخل بيروت عند نهر الكلب، ليست سجل انتصارات لمن جاء ومن ذهب، بقدر ما هي تدوين لتواريخ بشر لا علاقة لنا بهم، الا من حيث اننا موقع جغرافي ممتاز. الى درجة لا تطاق.
فيما عدا ايسلندا، جزيرة السأم والبراكين، ورئيسة الوزراء التي قرع بابها رجل تعطلت سيارته فخرجت بالروب دو شامبر واصلحتها له، كل بلدات العالم مثل "غوز هاسلي" خليط انساب واعراق وموجات تهجير وهجرة. فالعالم الغربي، او العالم الاسلامي، او آسيا عبارة عن خلائط من الاقليات والاكثريات. ولو تنبه الاتراك في غمرة المجازر لكانوا غيروا اسم "غوز هاسلي"، وتأكدوا من الا تسكنها لاحقا مجموعة هويات عرقية ودينية وثقافية.
الديموقراطية ليست سحرا ولا بلسما ولا علاجا نهائيا لآفات البشر وغرائزهم ونوازعهم العدوانية. لكنها استطاعت، بعد حربين عالميتين، ان تحل بعض المشكلة. فقد انتهتا الى ان "الجنس الاري" ليس متفوقا على احد، والى ان امبراطور اليابان رجل يصاب بعسر الهضم، وليس إله الشمس. وكان يشوع بن نون قد اوقفها بيده، ثم تبين انها واقفة ونحن الذين نتحرك. وفي الاسبوع الماضي اعلن العلماء ان في هذا الكون العجيب شمسين لا شمسا واحدة، مرة يدعيها هيروهيتو، ومرة لويس الرابع عشر.
حلت الديموقراطية مشكلة التعدد والتنوع بعد الحربين على غرور التفوق وعجرفة التميز الفارغ. فأكبر علماء العصر، ليس ضابطا اشقر ازرق العينين في جيش هتلر بل انكليزي ولد غير قادر على الحركة. والمتفوقون في العلوم في جامعات اميركا صينيون. وفي الجامعات نفسها 800 الف هندي اسمر او احدق قليلا. لكن اهم مثلين على ذوبان عنصرية الاكثريات والاقليات، هما اميركا والهند. الاولى صار رئيسا عليها ابن كيني مسلم، والثانية وصل الى رئاستها رجل من طبقة "المنبوذين". وفقط للمناسبة، اكبر قوة صناعية في بريطانيا اليوم، هم الهنود. السلام على زمن الافيال والمهراجات.
في اميركا الوسطى، اغنى رجالها (ورجال العالم) ابن مهاجر لبناني. احتل الاسبان المكسيك بذبح خمسة ملايين انسان، واحتلها اللبنانيون بـ"الكشة".
معانا بكر، معانا خيطان، معانا كشاتبين!
يتساءل المرء في غمرة الحديث العارم هذه الايام عن السيوف التي تلمّع لـ"الاقلية المسيحية، كيف يمكن ان اكون اقلية مهددة في بلدي وارضي، فيما جاري وابن منطقتي، اغنى رجل في اميركا اللاتينية؟
اذا كنت سأظل ادعى "اقلية" فوق هذا التراب "فاللعنة عليه. سوف اذهب الى اي مكان آخر لا اعرف فيه بطائفتي ومنطقتي والزعيم الذي يشرفني بالركوب على كتفي. للبطرك ان يتخذ من المواقف ما يشاء. فلا شك في انه تحت سقف الفاتيكان. وللفاتيكان رؤية مشرقية، ليس حيال المسيحيين، بل حيال المسلمين. ولعلها ارقى وابقى من جميع العصبيات الصغيرة او من رؤية لبنان من اعالي الجرود. ولكن اذا كان البطرك الراعي ومن خلفه الفاتيكان، يريدان الدفاع عن حقوقي كـ"اقلية"، فسوف ابحث عن دين وبلاد لا اكون فيها اقلية ولا منبوذا. كالهند مثلا. وعندما يدافع بطرك الموارنة عن مستقبل الاقليات المسيحية، ارجو الا يحسب حسابي. فهذه ارضي، ولا منة الا لترابها. وقد سئمت، عذرا، الصكوك التي تعطى لي وشهادات الجدارة: زمنا من مصر، ومرة من العراق، وعهدا من منظمة التحرير، ومن سوريا، ومن محمود رياض، ومرة من مدير مكتب الامين العام بعدما ملّ الدكتور عمرو موسى المجيء وصار يبعث الينا مدير مكتبه، ضنا بالوقت.
لئلا يعتقد البطرك الراعي، او اي سيد ممن يقرأون هذه الخواطر، ان الموقف استجد بناء على تصريحاته في فرنسا، اعيد خلاصة ما كتبته قبل سنوات كثيرة في هذا المكان: في القمة الروحية في الكويت عام 1988، قلت للمفتي الراحل حسن خالد، في حضور الجميع: سماحتك قلت في عرمون، بداية الحرب، فليذهبوا الى روديسيا. نحن لسنا مستعمرين. نحن اهل ارض ولم نأت مع ريتشارد قلب الاسد او غودوفروا دو بويون. جذورنا في تكريت عند صلاح الدين، وفي تهامة، وفي تدمر. واما اننا من دين مختلف فالحكم بيننا هو "الكتاب" وليس روديسيا. فلنعِد قراءة القرآن.
في تلك القمة الروحية ايضا، قال لي البطريرك اغناطيوس هزيم ما ليس ينسى وما يجب ان يتذكره المدنيون والدينيون: "في معرض الصراع على القدس والجدل حولها، ينسون اننا اصحاب الجلجلة، وان عمر رفض الصلاة في كنيسة القيامة، او حتى في ساحتها، لئلا تحول بعده مسجدا. ينسى الجميع اننا اهل ارض في هذا الشرق المقدس".
لسنا اقليات. نحن مجموعات عربية صدف انها اعتنقت المسيحية قبل ظهور الاسلام. ولسنا طارئين بل من هذا الطين. ولسنا غرباء. ونرفض هذه التسمية من اين اتت، لا على سبيل الشفقة ولا على سبيل المنة ولا على سبيل الرعاية او الحماية!
هذا شرق هو شرق الاقليات وغربها، مثل "غوز هاسلي". مثل طهران. مثل اسطنبول. مثل الموصل. مثل حلب. مثل دبي. وارجو ان تكفوا عن تسميتي اقلية بين اربعة ملايين مواطن فيما ليس كارلوس غصن اقلية بين 170 مليون برازيلي. انا احب ان اتذكر دائما ان صلاح الدين كان كرديا، وطارق بن زياد كان بربريا. الاول هزم الصليبيين والثاني اتخذ الاندلس. ولم يدقق احد في هويتهما، لان العرب كانوا اكثر وحدة وكانوا اكثر سماحا.
الاقلية الوحيدة في الشرق اليوم هي تلك التي ترفع مُثُل صلاح الدين وقيمه. والباقي امة مهزومة مجرّحة ودامية تخرج الى استقبال احفاد ريتشارد وغودوفروا على انهم حرروها من ظلم الحاكم الوطني واذلاله. هتفت ليبيا للرئيسين الفرنسي والبريطاني، في يوم مرور 80 عاما على استشهاد عمر المختار على ايدي الفاشية الايطالية. كنت قلت الاسبوع الماضي اننا صرنا نشتهي العودة نصف قرن الى الوراء، لكن هذا حال الامة ايضا. هل رأيتها تخرج مصفقة لرجب طيب اردوغان؟ هل سمعت "مؤذن اسطنبول" يقول لمستقبليه من "الاخوان" ان لا ضير من العلمانية، فهذه بلاده تعمل بدستور علماني وحكومة اسلامية.
قبل ان يأتي اردوغان الى مصر محدثا عن العلمانية صدرت الشهر الماضي عن الازهر مذكرة تاريخية تدعو الى الدولة المدنية. فالخلاص من عنصرية الاكثريات والاقليات وهمجيتها، لا يكون الا بالمجتمع المتحضر ودولة المساواة. ولا يمكن ان يخرج شعب من كهفه، اذا كان منقسما الى مرضين: عقدة الاكثرية المتسلطة والعمياء، وعقدة الاقلية، الهزيلة والمتربصة، او التي كانت تسمى من قبل "البيئة الحاضنة"، دلالة على ان الخيانة والعمالة لا تخصبان الا عند الاقلية المسيحية وغيرها. لذلك اختار الراحل "ابو اياد" ان تمر طريق فلسطين من جونيه، على اساس ان المسابح هي العائق الوحيد في الزحف نحو القدس. نسي صديقنا الراحل في ذروة الزحف على الحاجز الاخير في وجه العودة، ان اول نذير الى اهل فلسطين خرج من تلك "البيئة الحاضنة". لم ارَ ندماً على وجه كما رأيت على وجه الراحل صلاح خلف عندما قلت له 1983، على شرفة جريدة "الانباء" في الكويت: ألم يكن افضل لك ولي، لو اننا لا نزال في لبنان؟
لم يفرحني ابدا ندم "ابو اياد". اللهم أبعد عنا الشعور الصغير بالشماتة. وانما كنت على اقتناع بأن هذا البلد الصغير قام من اجل ان يتسع للجميع، لا يخاف فيه احد ولا يتسلط فيه احد. رفض معمر القذافي عندما جاءنا الا ان يركب سيارة مكشوفة. ووضع في ما بعد ثمنين: واحدا لجثة العميل وواحدا لجثمان الشهيد. واللهم لا شماتة، اذا كان اليوم في سيارة مخبأة ومموهة ولها سقف مصفح. ليست هذه لعنة لبنان. هذه لعنة الظلم والقهر والغرور والعجرفة الخاوية مثل الطبول عندما تنفخت.
سمير عطاالله     

لكم بطريرككم ولنا بطريركنا


كتب أحمد عيّاش - النهلر - أيلول 2011
ليس معروفاً كيف كان رد فعل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عندما ارتفعت امس في جولته على بعلبك – الهرمل صورة مركّبة تجمعه مع الرئيس السوري بشار الاسد والامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله للترحيب به، لكن الصورة الجامعة تؤكد ان اصحابها ما زالوا عند القراءة غير المجتزأة لمواقف البطريرك الاخيرة في باريس حيث دافع عن فكرة اعطاء الاسد فرصة لتنفيذ الاصلاحات وتخوّف من فوز "الاخوان المسلمين" بالسلطة في سوريا. كما دافع عن سلاح "حزب الله" حتى ايجاد حل لمشكلة توطين الفلسطينيين في لبنان.
منذ عودته الى لبنان من فرنسا تصاعدت موجة الحفاوة والاشادة في صفوف 8 آذار بالبطريرك كأنه واحد منهم. في حين سادت خيبة امل في صفوف 14 آذار لفقدانهم من كانوا يظنونه بطريركا محايداً إذا لم يكن واحداً منهم.
لا بد من الاعتراف بالتحولات التي اصابت لبنان منذ ان قرر التحالف السوري – الايراني الاطاحة بنتائج انتخابات عام 2009 التي أتت بالرئيس سعد الحريري رئيساً لحكومة تضم غالبية 14 آذار وفرض حكومة اصبحت فيها 8 آذار اكثرية بعدما كانت اقلية بموجب هذه الانتخابات. وتوسعت تدريجاً دائرة نفوذ هذا التحالف فأسقط وسطية رئيس الجمهورية ميشال سليمان وأدار بوصلة مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني ليصل الى تغيير خطاب سيد بكركي.
لا جدل في ضرورة اعادة النظر في حكاية "المعاطف السود" التي تشبه اليوم حكاية "ليلى والذئب" والتي اطاحت حكومة الحريري. ولا بد من حكاية اخرى تفسر انقلاب مواقف الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي والنائب احمد كرامي وابتعاد النائب وليد جنبلاط ونواب "جبهة النضال الوطني" الى ان عاد واقترب. ويجب الاعتراف بأن هذه الشخصيات السياسية والدينية لم تغير مواقفها لأن المسدس كان مصوباً الى رؤوسها، بل على النقيض، ومن كان احق بتغيير الموقف اذ كان المدفع مصوباً الى صدره ولم يفعل هو الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير الذي اضاء شعلة ربيع لبنان قبل اعوام من ربيع العرب. لكن بالتأكيد، ان من يغيّر مرة سيغيّر مرة ثانية. والعبرة في ما جرى في موقف الازهر من ثورة مصر.
عندما استذكر البطريرك الراعي امس "صورة الامام الصدر تحت الصليب امام المذبح يتكلم عن لبنان" كان من المفيد ان يتحدث عن ثورة ليبيا التي أسقطت الطاغية التي حرم لبنان نور هذا الامام العظيم.
سألتُ أوساط الحريري عن سعي الراعي لدى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لعودة الاول الى لبنان فأجابت على الفور: "نحن ايضاً مع مسعى عودة ميقاتي من ايران ودمشق وعودة لبنان من عزلته العربية والدولية". حتى اشعار آخر لدى 8 آذار اليوم بطريركهم ولدى 14 آذار من كان بطريركهم. والايام الآتية ستوضح نظرية من "أُعطي مجد لبنان".
احمد عياش     
ahmad.ayash@annahar.com.lb     

البطريرك والرأي العام


كتب علي حمادة - النهار - أيلول 2011
في حضرة الوكيل الشرعي للامام خامنئي في بعلبك الاحد الفائت، اعاد البطريرك مار بشارة الراعي هجومه على الاعلام والصحافة بأسلوب يؤسف له، فتحدث عن اجتزاء لمواقفه الباريسية الغريبة، لكنه في الوقت عينه لم يخرج على الرأي العام ليوضح ما قاله، من جلاء "سوء التفاهم" هذا اذا كان هناك من سوء تفاهم. فحتى الآن ومن خلال ما قاله البطريرك الراعي في الايام التي تلت زيارته الباريسية بقيت الامور عند اتهام الاعلام والصحافة بالاجتزاء والتحوير في كلامه ولم نحصل على كلام واضح، مع العلم ان ثمة مقابلة متلفزة بالصوت والصورة وثمة تسجيلات موجودة، فضلا عن ان الكلام الذي قيل في ما بعد في بيروت ولا سيما يوم الاحد في "جمهورية حزب الله" لم يختلف في شيء عما قيل في باريس اللهم في ما عدا الكلام الذي قيل في سنّة لبنان وسوريا. لا بل اكثر من ذلك، ففي الوقت الذي كان الرئيس السوري يتحدث امام الوفد البرلماني الروسي الزائر لدمشق عن مخطط لتقسيم المنطقة، كان للراعي كلام مطابق في بعلبك عن خطر تقسيم العالم العربي. والحال ان منطق بشار الاسد مفهوم بسعيه الى الايحاء أن سوريا ووحدتها في خطر إذا ما سقط النظام. لكن على ماذا بنى البطريرك مخاوفه المتزامنة مع "مخاوف" الاسد؟
لقد كان مطلوبا من البطريرك الراعي ان يقلب صفحة التهجم على الاعلام ويفتح صفحة مصارحة الرأي العام اللبناني وحتى السوري بموقفه الباريسي الذي لم يفهم الناس منه سوى خوف وقلق من سقوط نظام يقتل الاطفال والنساء ويحاصر المدن والقرى بالدبابات، وقد بلغ عدد الشهداء الآلاف. لقد كان مطلوبا ان يعجل البطريرك قبل زيارته "جمهورية حزب الله"، وجلوسه الى مائدة الوكيل الشرعي للامام الخامنئي في لبنان، ويشرح رؤيته لدور المسيحيين في المشرق: هل هم مع الانظمة الاستبدادية لقاء وجود "بيولوجي" ام انهم اصحاب رسالة في المنطقة ولا سيما عندما يتعلق الامر بالحريات والكرامة الانسانية.
كان المطلوب ايضا التعجيل في شرح موقفه من مسألة سلاح "حزب الله" الذي ربطه في باريس بتنفيذ حق العودة الفلسطيني بخلفية مذهبية واضحة. فهل تسليم البلد الى "حزب الله" والامام خامنئي وتحويله الى معسكر على الشاطئ الشرقي للمتوسط هو مبعث امن وامان، ويدفع خطر سنة لبنان وسوريا؟ فإذا كان هذا هو رأي البطريرك، وهذا حقه، فليقل صراحة انه يصطف ضمن تحالف علوي – شيعي لموازنة غلبة سنية مزعومة في المشرق العربي.
و لنكن صريحين اكثر وفق ما دعا اليه البطريرك على مائدة الوكيل الشرعي للامام خامنئي في بعلبك، فندعوه ان يتحدث الى الرأي العام وان ينظر اليه "العين بالعين"، وليقل ما يشاء من مواقف، حتى نتبين ما اذا كان الاعلام اجتزأ او حوّر كلامه، او ان "الاعلام والصحف المبيعة في معظمها" كما زعم كانا وراء ما اعتبره إساءة له.
ان شهادتي ميشال سليمان ونجيب ميقاتي وهما خارجان من الديمان قبل ايام لا تمثلان ثقلا كافيا لتسوية الموضوع. الرأي العام هو الاساس. فليتكلم البطريرك.
علي حماده     
ali.hamade@annahar.com.lb     

الموارنة والمسيحيون بعد "نهاية التاريخ" في سوريا


كتب جهاد الزين - النهار - أيلول 2011

هؤلاء المسيحيون الذين تحمل الحداثة رائحة وازياء احيائهم ومدارسهم سنكتشف انهم يستقبلون الآن المرحلة الاكثر حداثية وغربية في المنطقة منذ عقود بتحفظات بل باعتراضات.
 لا يمكن للمراقب السياسي، خصوصا اللبناني، الا ان يتوقع الضجة التي بدأت تثيرها التصريحات التي ادلى بها البطريرك الماروني بشارة الراعي خلال زيارته الى فرنسا.
فهذه التصريحات ليست مجرد مواقف غير مألوفة صادرة عن الرئيس الجديد للكنيسة المارونية، انما هي بما تعنيه حرفيا انقلاب حقيقي في مواقف هذه الكنيسة ليس قياسا بالبطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير وانما بما هو ابعد من ذلك.
لهذا تستلزم هذه التصريحات قبل اتخاذ موقف منها سلبا او ايجابا ان نسعى الى فهم اسبابها والمعطيات التي ادت الى صدورها. فهي لم تصدر فقط عن البطريرك بل اختار صاحبها اطلاقها في العاصمة الفرنسية التي تقود سياسات نقيضة لها، وهي اي باريس ماهي عليه من اهمية رمزية وعملية في حاضر وتاريخ الموارنة ولبنان الصغير ثم الكبير.
يمكن اختصار تصريحات البطريرك الراعي في اربع نقاط اساسية:
الاولى هي الموقف من خطر التشدد الاسلامي السني على المسيحيين السوريين وبالتالي اللبنانيين بل على مسيحيي المنطقة.
الثانية هي الموقف المتفهم لوضع النظام السوري من حيث حاجته الى الوقت لتنفيذ اصلاحاته الموعودة.وهذا يعني نوعا من التأييد لهذا النظام.
الثالثة وهي تأييد عدم تسليم "حزب الله" لسلاحه قبل انهاء الاحتلال الاسرائيلي لما تبقى من اراض لبنانية بحوزته ولتأمين عودة اللاجئين الفلسطينيين الى بلادهم.
الرابعة وهي اشتراطه ان لا تكون المحكمة الخاصة بلبنان مسيّسة او مزورة... لتأييدها.
هذه المواقف بالمعايير اللبنانية والاقليمية هي مواقف صاعقة وخصوصا لفريق مسيحيي 14 اذار، ناهيك عن انها تحمل تحديا مباشرا في نقاطها الثانية والثالثة والرابعة للسياسة الغربية الاميركية والاوروبية في لبنان والمنطقة وليس فقط للدولة المضيفة فرنسا.
لو حملنا على محمل الحرفية كلام السيد الراعي لكان بامكاننا ان نعتبر بلا اي تردد ان اقوال البطريرك الاخيرة تعني لاول مرة منذ عام 1920 انتقالا للكنيسة المارونية من اولوية خطاب الحفاظ على صورة ما للبنان السياسي التي هي مؤسِسة تكوينية بالشراكة مع الفرنسيين في قيامه كدولة الى اولوية استطيع القول ولو بحذر انها من نوع جديد هي اولوية الحفاظ على وجود المسيحيين المشرقيين في بلاد الشام بما فيها لبنان وفلسطين والاردن وطبعا مسيحيي مصر وما تبقى في العراق.
الكنيسة المارونية هي الكنيسة الوحيدة في العالم العربي التي تعتبر نفسها مسؤولة عن كيان وطني له دولته على غرار الكنيسة الارمنية في القوقاز والصربية واليونانية والبلغارية في البلقان والبولونية في شمال اوروبا ناهيك عن علاقة الكنيسة الروسية بالدولة الروسية ما قبل وما بعد الحقبة السوفياتية.الكنائس العربية الاخرى او الموجودة في العالم العربي لا تملك هذه الخاصية بما فيها الكنيسة القبطية التي وان كانت شديدة الاعتزاز حتى داخل العالم المسيحي باصالتها الوطنية الا انها لا تعتبر نفسها مسؤولة عن الدولة المصرية على الاقل منذ الفتح الاسلامي، بل العكس هو القائم اي كونها خاضعة لتقاليد الدولة "السلطانية" المسلمة المصرية.
منذ عام 1920 تأسست الثقافة السياسية المسيحية اللبنانية على الحساسية الكيانية اللبنانية حيال سوريا كداخل واسع  ثم لاحقا ككيان موحد عاصمته دمشق باعتبار الاخيرة مصدر تهديد الاستقلال اللبناني. ستستمر هذه الحساسية اللبنانية وبكركي عنوان رئيسي فيها، لتبلغ بسبب مسؤوليات سورية ولبنانية متبادلة لسنا في مجال التدقيق فيها هنا، مستوىً عاليا من التوتر في العقدين المنصرمين.
تنزع تصريحات البطريرك الراعي الاخيرة اذا اعتبرناها "كُلا" مترابطا الى اولوية الوجود المسيحي المشرقي لا اللبناني وحده. وبهذا المعنى هي تحدث تعديلا نوعيا  في خطاب الحساسية باتجاه تغييره الفعلي مرتبة الخطاب المشرقي داخل توجهاتها السياسية. وليس صدفة في هذا السياق ان تنضم هذه التصريحات الى النمط الغالب لخطاب الكنائس الانطاكية الاخرى ولكن طبعا سيعني، هذا لأن المارونية هي الكنيسة العربية الاقوى سياسيا- وان كانت ليست الكنيسة الاكبرعدديا وجغرافيا- سيعني انها ستحتل الموقع القيادي بين الكنائس في الخطاب المشرقي كونها الكنيسة "الدولتية" الوحيدة (السلبيون يقولون انها الكنيسة الوحيدة غير الذمية).
البعد الاخر لتصريحات البطريرك اذا كانت غير عابرة انها تنتقل الى تبني مفهوم تحالف الاقليات المسلمة والمسيحية في مقابل الاكثرية السنية. ادخال موضوع "حزب الله" في التصريحات يعني ان الشيعة الاثني عشرية جزء من هذه الاقليات في نظر البطريرك.
لا بأس هنا من التدقيق. بما ان مواقف السيد الراعي تضع ضمنا ومباشرة الطائفة الشيعية ضمن الاقليات في المنطقة، لا بد من التساؤل عما اذا كان هذا "التصنيف" للشيعة دقيقا قياسا بـ"معيارين"، الاول هو مسؤولية الحالة الايرانية التاريخية منذ العام 1979 عن تفعيل بل اطلاق الاسلام السياسي الذي يتوجس منه البطريرك الراعي بمعناه "الاكثري"داخل ايران ذات الثمانين مليون مواطن، وبمعناه الايديولوجي الذي سيساهم في تفعيل مد اصولي سني هائل اعتبارا من منتصف الثمانينات من القرن العشرين، رغم ان جزءا مهما من الجيل الثاني لهذا المد سيصبح معاديا للشيعية الخمينية.
المعيار الثاني هو دور الاسلام السياسي الشيعي ايضا الاغلبي في العراق - الى جانب الاسلام السني - في ما آلت اليه الحالة العراقية بعد العام 2003 ومن ضمنها اوضاع المسيحيين "الانقراضية" في بغداد المختلطة مذهبيا وفي الشمال الموصلي السني مع التذكير الدائم بأن تدهور اوضاع المسيحيين العراقيين بدأ في الثلاثينات من القرن الماضي. فبعكس الازدهار الاجتماعي الذي لاءم المسيحيين مع تأسيس الكيان السياسي السوري  والحماية الملكية الدستورية للاقلية المسيحية الاردنية يجب ملاحظة ان الكيان العراقي منذ تأسيسه عام 1921 سيظهر سريعا انه لم يلائم بشكل عميق المسيحيين العراقيين لا في المجال السياسي بعكس لبنان والاردن، ولا في المجال الاجتماعي الاقتصادي بعكس سوريا، بينما سيشاطر المسيحيون الفلسطينيون سوء الطالع الذي اصاب المسيحيين العراقيين انما بشكل اقسى بما لا يقاس لان المسؤولية هناك تتعلق بالعدو الاسرائيلي وفي سياق وحشي لم يميز بين مسلمين ومسيحيين. لكن من الواضح في خلفية تصريحات سيد بكركي ان الشيعة في لبنان هم جزء من اقليات بلاد الشام رغم سيطرة نوع من الاسلام الاصولي على تمثيلهم السياسي.
دائما يخبىء التاريخ اشكالا غير متوقعة من ردود الفعل. ففي الزمن المفاجىء للثورات العربية شبه الشاملة تحت الشعار الديموقراطي اساسا شهدنا في جملة وقائع كثيرة ان حركات الاخوان المسلمين لاسيما في مصر هي في الواجهة الديناميكية للحدث. لكن شهدنا ايضا بروزا سريعا لحساسية سلبية من الفاتيكان حيال تأثير التيارات الاسلامية المتشددة المباشر في مصر. استدعى هذا رد فعل  ليس من المتطرفين بل من المؤسسة التي عادت تحاول تحضير نفسها في ظل قيادة شيخها المتنور الدكتور احمد الطيب لقيادة تيار الاعتدال الاسلامي اي مشيخة الازهر.
اذن سيصبح السجال في مرحلته الاولى "الثورية" سجالا بين معتدلين (الفاتيكان-الازهر) وليس بين معتدلين ومتطرفين وهذا امر حمل معه خطر ظهور نوع من التوتر بين الاسلام  والمسيحية. واسمح لنفسي بالقول انه تلاسن في المكان الخطأ لان مصر نفسها، دولة ونخبا، تبدو حتى في حالتها الثورية ذات فرادة مطمئنة عميقا على المدى الابعد وهي خوض التغيير من داخل المؤسسات القضائية رغم التحديات اليومية بل المخاطر اليومية للتطرف.
 اما في المشرق "الليفانت"، بلاد الشام والعراق، فتبدو الامور اقل يقينية، حيث دول غير مكتملة الشرعية منذ تأسيسها ومجتمعات تزداد تفككا حتى لو ان  الرؤية المتفائلة (دعونا نسمها الرؤية التماسكية) التي تحملها نخب علمانية ومتنورة معارضة في الداخل والخارج تستطيع الاتكاء على معطيات جادة من تاريخ الصراع السياسي في هذه الدول. لكن من اين لنا اليقين بل الثقة في ان اجنحة الاسلام السياسي في "الليفانت" قادرة على لعب ادوار "تماسكية" فاعلة بالمعنى الذي اظهرته القيادة الرئيسية للاخوان المسلمين في مصر ناهيك عن التجربة الميدانية "العلمانية" لتيار مهم من شباب "الاخوان" في ميدان التحرير مع اليساريين والليبراليين اقباطا ومسلمين؟ اذا كان للامور الكبيرة نِصابها فمن المستحيل ان يكون كلام البطريرك الراعي مجرد فورة عابرة كنسيا وفاتيكانيا. نعم انه انقلاب يقوده البطريرك ولكن علينا ان نفهم موجته الضمنية لاسيما في الفاتيكان. وحتى لو ان اعتراضات كبيرة عليه يمكن انتظارها من داخل النخب المارونية، فلن تكون المرة الاولى التي تختلف فيها هذه النخب على خيارات سياسية كبيرة.وسبق لبعض البطاركة ان اختلف مع المفوض السامي الفرنسي كما حصل عام 1936 في موضوع امتياز التبغ (وجعل ذلك رياض الصلح يلتقط الفرصة لمد جسور بين بكركي وقيادة الكتلة الوطنية السورية) او حتى كما تقول مذكرات الجنرال غورو التي نشرها ابن شقيقته عندما اعترض البطريرك حويك عام 1921  على النفوذ الذي يتمتع به جهاز المفوضية الفرنسية في دمشق!
واذا كانت النخب المسيحية عموما في بلاد الشام قد ساهمت في الحفر الثقافي والسياسي الذي ادى الى سقوط الامبراطورية العثمانية فسيكون من الترويج السطحي الادعاء ان هذه النخب وجماهيرها قد انخرطت بدون تعقيدات في عملية اخراج الانتداب الفرنسي من لبنان وسوريا. لقد كان الكثير منها واجفا وقلقا من ذلك التغيير "الوطني" حتى لو كان بعضها في قيادة التيار الاستقلالي. واي كلام آخر هو مجرد بروباغندا.
اليوم ها هي موجة التغيير الديموقراطي العربي التي يقودها الغرب بالاستناد الى ديناميات واحتقانات اجتماعية وسياسية واقتصادية محلية هي بنت زمننا الاكثر عولمة، واذا بالتاريخ الراهن يخبىء لنا مفاجأة كبيرة بدءا من الشكل: المسيحيون الذين هم بيئة الليبرالية الاجتماعية والثقافية في المنطقة، هؤلاء الذين تحمل الحداثة في بلادنا رائحة وازياء احيائهم ومدارسهم، هؤلاء انفسهم في سوريا بشبه صمت وفي لبنان بضجيج ما بعد تصريحات بشارة الراعي يثيرون اشكالية مدى اهلية التيارات الاسلامية لقيادة مرحلة التحول الديموقراطي!؟
لنكتشف انهم ايضا في الموجة الديموقراطية التي هم بائعو بضاعتها الغربية الاعرق في بلاد الشام منذ القرن التاسع عشر... لنكتشف انهم لديهم اسئلتهم وتحفظاتهم واعتراضاتهم - احيانا الوجودية - على اكثر مرحلة غربية وحداثية في المنطقة منذ عقود... كأنهم يفتحون كوة في جدار "نهاية التاريخ" نحو ما بعده....؟
جهاد الزين     
jihad.elzein@annahar.com.lb     

تأخّر مأسسة الكنيسة ورفض الموافقة على أسماء مطارنة اتصالات خارجية لحصر تداعيات كلام الراعي

كتبت هيام القصيفي - النهار - الأربعاء 21 أيلول 2011


في 15 كانون الثاني الماضي قال عميد مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان الكاردينال ليوناردو ساندري خلال تكريسه الكاتدرائية اللاتينية في حلب، ان سوريا "مثال يحتذى في الترابط بين ابناء مجتمعها". كرست تلك العبارة التحول في نظرة الفاتيكان الى مستقبل المسيحيين في الشرق الاوسط، بخلاف النظرة التي سادت في حقبة البابا البولوني الراحل يوحنا بولس الثاني. فتح ساندري الباب امام الاجتهادات داخل الكنيسة المارونية والرهبانيات التابعة لسلطة روما، ليتكرس التحول الفاتيكاني الذي كان بوشر به بالطلب من البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير الاستقالة، واشراف ساندري على اختيار خليفته البطريرك مار بشارة بطرس الراعي.
تزامنت احداث سوريا مع وصول بطريرك جديد الى سدة بكركي، لكن الخطاب الفاتيكاني والبطريركي الماروني لم يواكب التحول السوري، الى ان جاء موقف البابا حاسما حيال العنف الذي يمارسه النظام السوري على شعبه. في المقابل ظل ساندري على حذره فتمنى في حزيران الماضي ان يكون الربيع العربي "مصدر رجاء، وإنما ينبغي عليه أن يحترم كرامة الانسان، وخصوصا الحرية الدينية".
عند هذا المفترق حصل التباين في لبنان بين توجهين حيال النظرة الى سوريا، وتبعا لذلك تكرس الافتراق حول مختلف المواضيع الخلافية وابرزها سلاح  "حزب الله" والموقف من المحكمة الدولية. لكن هذا التباين ظل محكوما بسقف لبناني سياسي، الى ان جاءت مواقف الراعي قبل زيارة باريس وبعدها، لتضع الوضع الداخلي في مرتبة ثانية امام النظرة الشمولية الى وضع مسيحيي لبنان والشرق الاوسط. ويكمن جوهر التباين الراهن في انه لا ينحصر في دوائر لبنانية بعينها خاضعة لمزاج القادة السياسيين من 8 و14 آذار، بل تخطتها الى المجمع الشرقي الفاتيكاني الذي ينقل متصلون بدوائر فاعلة فيه ان النقاشات بدأت تنحو جديا نحو الخيارات التي اتخذها ساندري سابقا، ليس على مستوى لبنان فحسب انما ايضا على مستوى الشرق الاوسط، في كيفية مقاربة المسألة المسيحية المشرقية برمتها. ولا تنفصل بطبيعة الحال، بحسب زوار الفاتيكان شبه الدائمين، النقاشات التي تصل احيانا الى حد الصراع بين قوى النفوذ في الكرسي الرسولي، عن التأثيرات الديبلوماسية الاوروبية والاميركية. تماما كما حصل بعد زيارة الراعي الى باريس، من خلال ما مارسته الخارجية الفرنسية بقيادة الوزير الان جوبيه صاحب الموقف الصارم من سوريا والمؤيد تقليديا لبكركي ايام كان يلتقي صفير ابان الصراع مع دمشق. وينقل سياسي لبناني قريب من السفير الفرنسي دوني بييتون ان تعديل موقفه من زيارة الراعي جاء بناء على قرار واضح من الاليزيه وليس الكي دورسيه وحده.
وتتقاطع معلومات دوائر روحية مارونية مع ما نقل الى سياسيين غير مسيحيين ان الملاحظات التي قدمت الى الفاتيكان تتناول ثلاثة مستويات: الاول العلاقة بين مسيحيي لبنان والعالم العربي. وعلى هذا المستوى فان ما ذكره الراعي عن السنّة لا يصب في خانة مسيحيي سوريا (موارنة سوريا هم اقلية) ولا مسيحيي المنطقة العربية عموما. والقرار الذي كان اتخذ بتحييد الراعي يتغير تحت وطأة اصراره على مواقفه. وهذا الامر لا ينحصر بلبنان، وتكفي متابعة بيانات المثقفين السوريين وقادة المعارضة والصحف السعودية والخليجية ومقالاتها واخبارها عن الراعي، لفهم حقيقة ما خلّفه كلامه. والتطور الابرز جاء اخيرا بحسب معلومات لبنانية عن اتصالات فاتيكانية - سعودية وزيارة وفد فاتيكاني الى الرياض لحصر اضرار الكلام الماروني اللبناني وتأثيراته على مسيحيي الخليج سكانا وعمالا، وخصوصا انه سبق للبابا الحالي بينيديكتوس الـ16 ان اختبر ردود الفعل على كلامه حول المسلمين في احدى الخطب الدينية بعد تنصيبه.
اما المستوى الثاني فيرتبط بزيارة الراعي الى بعلبك حيث حل ضيفا في حمى "حزب الله" الذي يسعى المجتمع الدولي الى تقديم افراد منه الى المحكمة الدولية، ونيته زيارة الشريك الشيعي الآخر في الجنوب، الامر الذي ما يفاقم ازمة الثقة بين بكركي والشريك السني لبنانيا وعربيا.
والمستوى الثالث يتعلق بالشأن الماروني الداخلي لأن الفاتيكان قدم الراعي على قاعدة انه يمهد لمأسسة الكنيسة ويبعدها عن الصراعات السياسية. ولكن بعد مضي سبعة اشهر، صارت بكركي في قلب الصراع السياسي الحاد، الذي يترجم خلال جولة الراعي الاميركية المقبلة وسط تأكيد ممثلي الجاليات من قوى 14 آذار نيتهم مقاطعته، والتأخير المتعمد بإبلاغ بكركي تحديد مواعيد رسمية للراعي مع المسؤولين الاميركيين، والتي كان يفترض تحديدها قبل اسبوعين. وكذلك لم يسجل اي تقدم في ادارة الكنيسة الجامعة، لا بل ان الفاتيكان لم يوافق الا على سيامة مطرانين مشهود لهما هما كميل زيدان وحنا علوان. في حين ان لديه ملاحظات "مسلكية" على بعض اسماء رفعت اليه، ولن يكون في مقدوره الموافقة على الاسماء الاخرى، مما يجعل تأخير الموافقات الاخرى دفعة واحدة الى السنة المقبلة امرا ممكنا
هيام القصيفي    
hiyam.kossayfi@annahar.com.lb