الأحد، 30 يناير 2011

اسكندر حريق أوّل مدرّس مسيحيّ في النجف بقلم خليل الجزرجي


-النهار –الأحد 30 كانون الثاني 2011
قبل سبعة عقود وأكثر كانت ثانوية النجف وثانوية الموصل مثار دهشة رجال العلم والمعرفة لما كان يبدو على هاتين المؤسستين من جد ونشاط، ومنافسة في التقدم العلمي إستدعى وزارة المعارف حينها أن تخصهما بشيء من الرعاية التي كانت تخص الثانوية المركزية ببغداد، وأن تختار للمدرستين أساتذة أكفياء ممن كانوا يعملون عندها من أبناء مصر ولبنان وسوريا. وكانت وزارة المعارف في حيرة ووجل من أمر النجف، لأن خيرة أساتذة المعارف لم يكونوا من المسلمين، وهي تخشى أن يكون رد فعل هذه المدينة المقدسة عنيفاً إذا أرسلت اليها مدرسين مسيحيين وغير مسلمين، وعلى رغم ان الواقفين على حقيقة النجف من أبنائها قد نفوا وجود ما يستدعي الحذر من إيفاد أي مدرس من أية طائفة فقد تأنت وزارة المعارف في ذلك، ثم بالغت في حذرها بحيث راحت تستعرض جملة من اللبنانيين لتختار ألينهم عريكة، وأبعدهم عن التعصب الديني والطائفي، وأكثرهم إنغماساً في التربية والتعليم، وكان اسكندر حريق في صدر القائمة.
ولو كان رجل غير اسكندر حريق قد ولد مثله في ضهور الشوير عروسة مصايف لبنان، ودرس في الجامعة الأميركية ببيروت وتخرج من جامعة كولومبيا بأميركا، وطاف في غالبية أقطار أميركا الشمالية والجنوبية دارساً، لامتنع من المجيء إلى بلد صغير كالنجف، عدمت فيه الوسائل الصحية الكافية من المياه الجارية في الأنابيب، والنور الكهربائي في البيوت، والكثير من الحاجات الضرورية التي تقتضيها المدينة الحديثة. وجاء اسكندر إلى النجف، وقد وضع هذه الأمور كلها نصب عينه، وكان يقول إنه لم يكن يفكر في أي من هذه الأشياء بقدر ما كان يفكر في كيفية إندماجه في المجتمع النجفي ويكسب رضاه، فإذا بكل شيء يتلاشى في ذهنه، وإذا بأسكندر يتبوأ في أيام قليلة محلاً من القلوب قلما ظفر به أحد من أبناء المسلمين فكيف بمسيحي ينتقل رأساً من بيروت العاصمة إلى عاصمة المسلمين التي تفتقر إلى أدنى الخدمات ليتولى تعليمهم وليقوم بتدريس علوم الاجتماع!
لكن الواقع هو أن النجف عن كثب غيرها عن بعد، وقسم من توفيق اسكندر في الظفر يرضاه الناس جميعاً يعود إلى مكانته وسيرته الخلقية، فالنجف كانت تضم طوائف من النفوس السمحة الرضية التي تتصل بالكثير من الأفكار الحديثة وبينها من تفوق جرأته في الفلسفة حد التصور بحيث ينعدم في نظره أي فرق يأتي من الجنسيات والأديان والمذاهب. والغريب من أمر اسكندر أنه أصبح في أيام قليلة صديقاً لعدد غير قليل من رجال الدين المجددين من بينهم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محسن شرارة ومن الأدباء كان موسى كاظم نورس، وعدد من أدباء شباب الشيوخ آنذاك أمثال حسين مروة، ومحمد شرارة، ولم تكن يومئذ مبادئ تفرق بين الناس مثلما هو موجود الآن، انما كان الأدب أقوى حلقة وصل بين حلقات المجتمع، وقد سكن اسكندر على جانب كبير من الأدب يحسن فهم تاريخه، ويتقن قواعده، وفي ما يناقش من قواعد البلاغة، وقد ساعدته اللغة الإنكليزية والفرنسية، والاسبانية على الأجادة في ما يقرأ وفي ما يكتب.
يقول جعفر الخليلي: كنت يومها مدرساً بثانوية النجف، ولا أحسب أن التقائي إياه قد تجاوز مرة أو مرتين حتى شعرت بأني أكاد أعرفه منذ زمن بعيد، وإن نفسي كانت تبحث عن أمثاله بين الناس، وبين الكتب، وبين الصور الخيالية التي ينسجها الذهن لتؤنس بها الروح فإذا به يحكي الكثير مما كنت أنشد. روح خالصة، وسريرة طيبة، وأدب جم، وظرف يطفح على لسانه ووجهه فيدخل على نفسك السرور لأول مرة تلتقيه فيها.
مرة دعي الشاعر الكبير رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) أن يرتجل وهو في أعلى السلم مستقبلاً اسكندر حريق وهو يصعد السلم بسان باولو في البرازيل ووجهه يفيض بالبشر واللطف قائلاً: يا رفيق الأحرار أهلا وسهلاً (لحريق) يبل صدر (الخوري) والتورية في كلمة (حريق) و(الخوري) واضحة لا تحتاج إلى توضيح وقد رد عليه اسكندر قائلاً: بل يبل ذقن الخوري، وهي الأخرى تورية واضحة يقصد بها الواحد من الخوارنة يبل ذقنه ليحلقه له، وكان مرة على مائدة ابرهيم سالم ومن بين الحضور نايف نصر، فأشير اليه بالقعود إلى جانب اسكندر حريق فقال نايف: ولكني لا أخاف شيئاً كخوفي من (الحريق)، فرد عليه اسكندر قائلاً: تذكر يا نايف إننا في بيت إبرهيم وقد أراد بذلك أن النار لا تمس إبرهيم وآله مصدقاً للأية الكريمة ((يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَهِيمَ)).
وعندما توفي والده (منصور حريق) واسكندر في النجف، ضاقت الدنيا في عينه، وأدرك أصحابه عمق جرحه لا سيما وهو من رهافة الحس بحيث تسيل عواطفه سيلاً، وأشفقوا عليه من الشعور بالغربة، واستعراضه لحياة أبيه، ثم تفكيره في إحتضاره وهو بعيد عنه، وقتها بالغ الخليلي في دنوه منه، وحدبه عليه، ونقله الى بيته لقضاء يومين أو ثلاثة تحاشياً من شدة الصدمة، وفي بيت جعفر الخليلي زاره الكثير من معارفه مُعزين، وهنا رأى لوناً جديداً من التعزية والسلوان والعواطف مما خفف عليه الألم والحزن. والنجف من هذه الناحية ناحية سبك العواطف في الأدب وصياغة التعزية تكاد تكون منفردة وقد سمع إسكندر أمثالاً كثيرة سيقت له على سبيل العبرة والموعظة، وسمع حكايا كثيرة نقلت له على سبيل التسلية انتزعها من تاريخ الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) حيث سمع جملاً وعبارات كادت النجف تتفرد بها في مقام التعزية من قبيل عظم الله لكم الأجر، وجعلها الله خاتمة الأرزاء، وصَبّرك الله على بلواه، وقد عملت بعض هذه التعابير والمفردات والحكايات عملها في نفس إسكندر.
ولو أطلعنا على نتاجات إسكندر حريق لوجدناه من كتاب القصة اللامعين في زمانه، وهو من المحدثين البارعين يتقن الى حد كبير حبك الحديث وتطعيمه بالنكتة والتفنن في السيطرة على المسامع إذا تحدث، وإستلفات أنظار القراء إذا كتب، ونقل السامع والقارئ إلى عالم زاخر بالأدب والمرح الجذاب، لذلك كان إسكندر اكثر قوة إستعان بها جعفر الخليلي يوم أستقال من التدريس وأصدر جريدة "الراعي" ثم أصدر "الهاتف" حين أغلقت الحكومة جريدة "الراعي" وقد ترجم أسكندر في الراعي سلسلة مقالات برتراند رسل ومواضيع إجتماعية ذات شأن كبير نقل بعضها من الانكليزية والبعض الآخر من الفرنسية. لقد كتب إسكندر في "الراعي" و"الهاتف" عشرات القصص والمقالات وقد نقل الشيء الكثير من الأدب الانكليزي والفرنسي مما لم ينقل من قبل الى العربية، وقد جمع قصصه ونشرها بمجموعة باسم "عشرون قصة" في جريدة "الهاتف" كان قد ترجم بعضها عن مكسيم غوركي، وهانس أندرسن، وتولستوي، وجان نيرودا، وأوسكار وايلد، وأنطوان تشيكوف، وميخائل لومنتوف، ووضع بعضها بقلمه، وحين ترك العراق بعد خدمة طويلة للمعارف والأدب عاد الى الجامعة الأميركية ببيروت وعمل فيها أستاذاً من جديد، ثم عمل بعد ذلك في شركة نفط العراق ببيروت، وأنيطت به رئاسة تحرير مجلة "أهل النفط"، وكانت الأقلام العربية تتزاحم بحيث لا تترك مجالاً في المجلة للكتاب العراقيين إلا القليل قبل أن يتولى اسكندر حريق رئاسة التحرير، ولكن اسكندر هو الذي فجَّ هذا الزحام وزاد من عدد الكتاب العراقيين في المجلة رغم قصر المدة التي أدار فيها تحرير مجلة "أهل النفط".
وفي ربيع 1957 زار جعفر الخليلي اسكندر حريق ببيروت ووجده متمتعاً بجو عائلي بهيج، وأستطاع أن يجد الزوجة الحبيبة دون الحاجة الى أن يضحي بمسيحيته ويدخل الاسلام على حد مزاجه، وتناولوا طعام العشاء في بيته بصحبة الصديق حسن الأمين واستعرضوا هناك الماضي فإذا به يحن الى العراق، وإلى ناسه، وإلى النجف وحياتها الخشنة حنيناً عميقاً، وإذا بهِ يقول انه يحس بحاجة الى استجمام روحي يضمنه له قضاء شهر واحد في ربوع العراق، ولكنه توفي قبل أن يتسنى له الظفر بتحقيق هذه البغية. وحين نشر خبر نعيه في الصحف كانت دموع النجفيين تحوط الخبر من جميع أطرافه. كانت هذه الدموع أشبه بالإطار الذي يحيط بالصورة.
لقد مات اسكندر حريق، وكان من القلائل الذين لم يكن له قبر واحد في بقعه واحدة، وإنما ترك في كل صدر من صدور عارفيه قبراً لن يعفى، وفي مقدمة أولئك طلابه الكثر في الجامعة الأميركية ببيروت، وثانويات العراق ودار المعلمين ببغداد وأصدقاؤه ومحبوه في النجف الذين تعرفوا به من طريق أدبه، رحمه الله ووفاه حقه من خدمته الصادقة للعلم والأدب. وبعد أن تعرفنا على سيرة اسكندر حريق الموجزة، نأمل بالأساتذة الكرام في مدارسنا لعلهم يحذون حذوه ويقتدون بهذا الرجل الذي أفنى عمره في العلم والأدب والتدريس من خلال تجواله في مختلف دول العالم ومنها العراق لينشئ جيلاً يخدم الأوطان، ويرتقي بأخلاقهم إلى جانب التدريس من خلال معاشرته الحسنة وثقافته الأكاديمية ومجالسته الناس وحثه الطلاب على الثقافة رغم غربته عن بلده حيث ترك لنا أسمى المواقف النبيلة، ويكون بسيرته وتفانيه قد دخل سجل التربويين الخالدين...
المصادر
1- جريدة "الأيام" – العدد الرابع – 11 / 4 /1962 م.
 2- هكذا عرفتهم – الجزء الأول – جعفر الخليلي / طبعة أولى.

ملخّص عن رسالة البابا عن المحبّة في الحقيقة


07/07/2009 
المحبة في الحقيقة، التي شهد لها يسوع، هي "محرك الدفع الرئيس للنمو الحقيقي لكل شخص وللبشرية بأسرها": على هذا النحو تبدأ الرسالة العامة "المحبة في الحقيقة"، الموجهة للعالم الكاثوليكي و "لجميع البشر ذوي الإرادة الطيبة".
في المقدمة يذكر البابا بأن "المحبة هي الطريق الرئيس لعقيدة الكنيسة الاجتماعية". ومن جهة أخرى، وبما أن هناك "خطر سوء فهمها وإقصائها عن البعد الأخلاقي"، لا بد من ربطها بالحقيقة.
يحذر البابا من أن "مسيحيةَ محبةٍ بدون حقيقة قد تُفهم بسهولة كاحتياطيٍ لمشاعر طيبة تعود بالنفع على التعايش الاجتماعي لكنها هامشية". (1 ـ4) إن النمو يحتاج للحقيقة. فبدونها، يؤكد الحبر الأعظم، يمسي العمل الاجتماعي ضحية مصالح خاصة ومنطق سلطة مع تبعات مُفكِّكة على المجتمع. (5)
يتوقف بندكتس السادس عشر على "معيارين توجيهيين للعمل الأدبي" يتأتيان من مبدأ "المحبة في الحقيقة": العدالة والخير المشترك. إن كل مسيحي مدعو إلى المحبة حتى عبر "طريق مؤسسي" يؤثر على حياة البلاد والمجتمع. (6 ـ 7) الكنيسة تكرر أنها لا تملك حلولا تقنية، ولكن لديها رسالة حقيقة يجب إتمامها من أجل مجتمع يليق بالإنسان وكرامته ودعوته. (8 ـ 9)? الفصل الأول من الرسالة مكرس لنداء البابا بولس السادس في رسالته في ترقي الشعوب.
"بدون تطلع نحو الحياة الأبدية ـ يحذر البابا ـ يصبح الرقي البشري في هذا العالم عاجزا عن التنفس". بدون الله، يُحرم الإنسان من النمو ويفقد هذا الأخير "إنسانيته". (10 ـ 12) كرر البابا بولس السادس الأهمية الرئيسة للإنجيل في بناء المجتمع وفقا للحرية والعدالة. (13) في رسالته في الحياة البشرية أشار البابا مونتيني إلى الروابط القوية بين أخلاقية الحياة وأخلاقية المجتمع. واليوم أيضا، تقترح الكنيسة بقوة هذا الرباط. (14 ـ 15) يشرح البابا مفهوم الدعوة القائم في ترقي الشعوب. "النمو هو دعوة" إذ إنه "يولد من نداء متسام". وهو "متكامل" عندما يرمي إلى تعزيز كل إنسان والإنسان كله.
ويضيف أن الإيمان المسيحي يهتم بالنمو بدون الاستناد إلى امتيازات أو مواقف سلطة إنما إلى المسيح فقط. (16 ـ 18) ويبيّن البابا أن أسباب التخلف ليست ذات طابع مادي بالدرجة الأولى إذ إنها قبل كل شيء في الإرادة، في الفكر وأكثر منه في غياب التآخي بين البشر والشعوب. ويوضح أن مجتمعا أكثر عولمة يقرِّب بيننا لكنه لا يجعلنا أخوة.
لا بد إذا من تجنيد الطاقات كي ينمو الاقتصاد باتجاه نتائج أكثر إنسانية. (19 ـ 20).
في الفصل الثاني يخوض البابا مسألة النمو البشري في زمننا الراهن. يرى البابا أن هدف الربح بالمعنى الحصري بدون الخير المشترك كغاية أخيرة قد يدمر الثروة ويولد الفقر. يعدد البابا بعض عيوب النمو: نشاطات مالية فيها الكثير من المضاربات الوهمية، تدفق الهجرة لأسباب قسرية خارجة عن أي إدارة وكذلك أيضا استغلال موارد الأرض بشكل عشوائي.
أمام هذه المشاكل المترابطة يدعو البابا إلى "طرح إنساني جديد" إذ إن الأزمة تجبرنا على إعادة تخطيط مسيرتنا. (21) ويلاحظ البابا أن النمو اليوم متعدد الاتجاهات إذ تنمو الثروة العالمية بالمعنى المطلق وتنمو معها أشكال اللامساواة وأشكال فقر جديدة. الفساد، وللأسف، قائم في بلدان غنية وفقيرة إذ يحصل أن شركات عالمية كبرى لا تحترم حقوق العمال. ومن جهة أخرى غالبا ما تخرج المساعدات الدولية عن مسارها بسبب غياب المسؤولية من المانحين والمستفيدين.
يندد البابا في الوقت نفسه بأشكال الحماية المفرطة للمعرفة من قبل البلدان الغنية من خلال استخدام قاس للحق في الملكية الفكرية وخصوصا في القطاع الصحي. (22) بعد نهاية "التكتلين"، تذكّر الرسالة، طلب البابا يوحنا بولس الثاني إعادة تخطيط شامل للنمو، لكن هذا حصل بشكل جزئي. هناك اليوم تقييم جديد لدور سلطات الدولة العامة، ونأمل بمشاركة المجتمع المدني في السياسة الوطنية والدولية.
وتوجه الرسالة اهتمامها إلى مسألة تنظيم إنتاج الدول الغنية ذي الكلفة الضئيلة. وتنبّه من أن هذه العمليات أدت إلى تقليص شبكات الأمن الاجتماعي مع خطر كبير على حقوق العمال. إلى هذا تضاف الاقتطاعات في النفقات الاجتماعية، التي تفرضها في غالب الأحيان المؤسسات المالية الدولية، والتي تجعل المواطنين عاجزين عن مواجهة أخطار قديمة وجديدة. ويحصل أيضا أن تضيّق الحكومات، لأغراض ومنفعة اقتصادية، الحريات النقابية. وبالتالي تذكّر الرسالة الحكام بأن أول من تجب حمايته وتقييمه هو الإنسان، الشخص في كماله. (23 ـ 25) على الصعيد الثقافي إن إمكانات التفاعل تفتح تطلعات جديدة للحوار ولكن هناك خطر مزدوج. أولا دمج ثقافي حيث تعتبر الثقافات متساوية. الخطر المناقض هو تبسيط الثقافة بمعنى تجانس أنماط الحياة. (26) وتوجه الرسالة اهتمامها نحو فضيحة الجوع إذ يندد البابا بغياب أرضية مؤسسات اقتصادية قادرة على مواجهة حالة الطوارئ هذه. وتأمل باللجوء إلى حدود جديدة في تقنيات الإنتاج الزراعي وإصلاح? زراعي عادل في البلدان النامية. (27) ويسطر بندكتس السادس عشر أن احترام الحياة لا يمكن أن ينفصل أبدا عن نمو الشعوب. ففي مناطق عديدة في العالم تمارَس عمليات مراقبة ديمغرافية تصل إلى حد فرض الإجهاض أيضا. وانتشرت في البلدان النامية عقلية مناوئة للولادة غالبا ما تحاول الانتقال إلى بلدان أخرى وكأنها ضرب من النمو الثقافي.
وهناك أيضا شكوك قوية حول ارتباط مساعدات النمو بسياسات صحية تفرض في الواقع مراقبة الولادات. وتثير القلق أيضا التشريعات التي تنص على الموت الهادئ. وتحذر الرسالة أنه عندما يتجه مجتمع ما نحو حرمان وقتل الحياة ينتهي به المطاف إلى عدم إيجاد دوافع وطاقات للعمل من أجل خدمة خير الإنسان الحق. (28) ناحية أخرى مرتبطة بالنمو هي الحق في الحرية الدينية. إن أعمال العنف، يكتب البابا، تحد من النمو الأصيل، وهذا ما يُطبق خاصة على الإرهاب الأصولي. وفي الوقت نفسه إن تعزيز الإلحاد من قبل بلدان كثيرة يتناقض وحاجات نمو الشعوب إذ يقلص مواردها الروحية والبشرية. (29) لا بد لتحقيق النمو من تفاعل المعرفة على مختلف المستويات بتجانس مع المحبة. (30 ـ 31) وبالتالي يأمل البابا بأن تستمر الخيارات الاقتصادية الحالية في ضمان العمل للجميع ويحذر من اقتصاد على المدى القصير وفي بعض الأحيان على المدى القصير جدا يؤدي إلى انخفاض مستوى حماية حقوق العمال كي يكتسب بلد ما تنافسية دولية أفضل. ولهذا يدعو إلى تصحيح الخلل في نموذج النمو وفقا لما تقتضيه اليوم حالة سلامة البيئة وكوكبنا الأرضي.
ويخلص إلى القول عن العولمة: بدون توجيه المحبة في الحقيقة فإن هذا الجهد الأرضي قد يساهم في خلق مخاطر أضرار غير معروفة حتى الآن وانشقاقات جديدة. من الأهمية بمكان والحالة هذه قيام التزام خلاق لا سابق له (32 ـ 33).
التآخي، النمو الاقتصادي والمجتمع المدني هو موضوع الفصل الثالث من الرسالة العامة يبدأ بمدح خبرة الهبة غير المعترف بها في غالب الأحيان بسبب رؤى إنتاجية ومنفعية للوجود. ويشير البابا إلى أن الاقتناع باستقلالية الاقتصاد عن التأثيرات ذات الطابع الأدبي حملت الإنسان على الإفراط في الوسيلة الاقتصادية بشكل مدمر. وإذا أراد النمو أن يكون أصيلا من الناحية الإنسانية فعليه أن يفتح المجال لمبدأ المجانية. (34) ويسري هذا على السوق بشكل خاص. بدون أشكال تضامن داخلي وثقة متبادلة، ينبه البابا، يعجز السوق عن أداء وظائفه الاقتصادية بشكل كامل إذ لا يمكنه الاتكال على نفسه فعليه أن يستقي طاقات أدبية من أطراف أخرى ويتحاشى اعتبار الفقراء عبئا إنما موردا. لا يمكن للسوق أن يصبح مكان سيطرة القوي على الضعيف.
لا بد، يضيف البابا، أن يصبو منطق السوق إلى تحقيق الخير المشترك شأنه شأن الجماعة السياسية. ويؤكد البابا أن السوق ليس سلبيا بطبيعته وبالتالي فإن الأمر يتعلق بالإنسان، بضميره الأدبي ومسؤوليته.
ويختم البابا بالقول إن الأزمة الراهنة تؤكد ضرورة عدم إهمال المبادئ التقليدية للأخلاقية الاجتماعية أي الشفافية، الصدق والمسؤولية. وفي الوقت نفسه يذكر البابا بأن الاقتصاد لا يزيل دور الدول ويحتاج إلى قوانين عادلة. وإذ ينوه بالسنة المائة يتطرق إلى ضرورة قيام نظام ذي ثلاثة أركان: السوق، الدولة والمجتمع المدني ويشجع على جعل الاقتصاد أكثر حضارة. نحتاج إلى أشكال اقتصاد تضامنية ويحتاج السوق والسياسة إلى أشخاص منفتحين على العطاء المتبادل. (35 ـ 39) إن الأزمة الراهنة تقتضي تبدلات عميقة في المؤسسات ولا يمكن لإدارتها أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح مالكيها وحسب إنما مصالح الجماعة المحلية. يشير البابا إلى كوادر المؤسسات الخاضعة في غالب الأحيان لتوجيهات المساهمين ويدعو إلى تحاشي استخدام نفعي للموارد المالية. (40 ـ 41)
وينتهي الفصل بتقييم جديد لظاهرة العولمة بدون حصره في مفهوم العملية الاجتماعية ـ الاقتصادية. علينا ألا نكون ضحاياها إنما روادها عبر العمل بعقلانية وبتوجيه المحبة والحقيقة. تحتاج العولمة إلى توجيه ثقافي فردي وجماعي ومنفتح على التسامي يكون قادرا على تصحيح العيوب. هناك إمكانية كبيرة لإعادة توزيع الثروة بدون كبح جماح الرفاهية عبر مشاريع أنانية وحمائية. (42) تتناول الرسالة في الفصل الرابع موضوع نمو الشعوب، الحقوق والواجبات، البيئة وتلحظ مطالب المجتمعات الغنية بالحق في الكماليات فيما ينقص الغذاء والماء في بعض المناطق الفقيرة. وعندما تخرج الحقوق الفردية عن إطار الواجبات تفقد توازنها فالحقوق والواجبات تخضع إلى إطار أخلاقي وفي حال وجدت أساسها في قرارات المواطنين فقط فقد تتحول في كل لحظة. ولا يمكن الحكومات والهيئات الدولية نسيان موضوعية وغياب الحقوق. (43) في هذا الصدد يتوقف البابا على مسائل مرتبطة بالنمو السكاني فيؤكد على أنه من غير الصحيح اعتبار ازدياد عدد السكان سببا رئيسا للتخلف.
ويعود للتأكيد على أن الجنس لا يمكن اعتباره فعل لذة وتسلية ولا يمكن تنظيم الجنس عبر سياسات مادية تقوم على تخطيط الولادات بشكل قسري. وتؤكد الرسالة على أن الانفتاح الأدبي والمسؤول على الحياة يشكل ثروة اجتماعية واقتصادية. فالدول مدعوة إلى وضع سياسات تعزز مركزية العائلة. (44) يحتاج الاقتصاد إلى البعد الأخلاقي كي يكون سليما من الناحية الوظائفية ولا إلى شكل آخر من الأبعاد الأخلاقية إنما إلى أخلاقية تكون صديقة للشخص.
إن محورية الشخص يجب أن تكون المبدأ الرئيس في المبادرات من أجل النمو للتعاون الدولي والتي تُشرك المستفيدين. ويدعو البابا الهيئات الدولية إلى التساؤل حول فعالية مؤسساتها البيروقراطية ذات الكلفة العالية في غالب الأحيان. ويلحظ أنه يحصل في بعض الأحيان أن يكون الفقراء وسيلة للإبقاء على منظمات بيروقراطية مكلفة، من هنا الدعوة إلى شفافية كاملة حول الموارد الموجهة لها. (45 ـ 47)
الفقرات الأخيرة من الفصل عينه مكرسة للبيئة. إن الطبيعة بالنسبة للمؤمن عطية من عند الله يجب الإفادة منها بمسؤولية. في هذا الإطار تتوقف الرسالة على معضلات الطاقة إذ إن استحواذ الموارد من قبل دول أو فرق ذات سلطة، يندد البابا، يشكل عائقا خطيرا أمام نمو البلدان الفقيرة. على الجماعة الدولية بالتالي أن تجد الوسائل المؤسساتية لتنظيم استثمار الموارد غير المتجددة. إن المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا قادرة لا بل عليها أن تخفض احتياجاتها للطاقة وتسير قدما في البحث عن طاقات بديلة. ويدعو البابا إلى ضرورة تبدل فعلي في العقلية يقودنا إلى تبني أنماط حياة جديدة. نمط يميل اليوم وفي أنحاء عديدة في العالم إلى اللذة والاستهلاكية. ويتابع البابا قائلا إن المشكلة الحاسمة هي الصمود الأدبي للمجتمع ويحذر من أنه إذا لم يُحترم الحق في الحياة وفي الموت الطبيعي فإن الضمير البشري يفقد مفهوم الإيكولوجيا البشرية ومفهوم إيكولوجيا البيئة. (48 ـ 52)
تعاون العائلة البشرية هو محور الفصل الخامس حيث يوضح بندكتس السادس عشر أن نمو الشعوب يتعلق قبل كل شيء بالإقرار بكوننا عائلة واحدة. ونقرأ أيضا أن الديانة المسيحية بإمكانها الإسهام في النمو فقط إذا كان هناك مكان لله في إطار الحياة العامة. إن السياسة، مع رفض الحق في ممارسة المعتقدات الدينية بشكل عام، تكتسب طابعا قمعيا وعدوانيا.
يحذر البابا من أنه في العلمنة والأصولية نفقد إمكانية حوار مثمر بين العقل والإيمان. قطيعة لها تأثير خطير على نمو البشرية. (53 ـ 56) ويشير البابا إلى مبدأ المساعدة الذي يوفر دعما للشخص عبر استقلالية الوسطاء. إن هذا المبدأ مناقض لكل أشكال المحسوبيات ويصلح لأنسنة العولمة. وقد يحصل في بعض الأحيان أن تُبقي المساعدات الدولية على شعب ما في حالة تبعية ولهذا لا بد، في عملية تقديم المساعدات، من إشراك أطراف المجتمع المدني الأخرى وليس فقط الحكومات. وفي الواقع، وفي حالات كثيرة، ساهمت المساعدات في إنشاء أسواق هامشية لمنتجات البلدان النامية. (57 ـ 58) ويحث البابا الدول الغنية على توجيه حصص أكبر من الناتج القومي الإجمالي للنمو مع احترام الالتزامات المتخذة. ويتمنى مزيدا من إمكانيات دخول قطاع التربية والتهيئة الكاملة للشخص، ويوضح أن الاستسلام للنسبية يزيد من فقرنا. مثال على هذا ظاهرة السياحة الجنسية المنحرفة. ويلحظ البابا أن كل هذا يحصل وللأسف بموافقة الحكومات المحلية وصمت حكومات الدول التي ينطلق منها السياح وتواطؤ العاملين في هذا القطاع. (59 ـ 61)
يتطرق البابا فيما بعد إلى ظاهرة الهجرة التي تشكل منعطفا تاريخيا ويقول ليس بإمكان بلد بمفرده مواجهة مشاكل الهجرة لأن كل مهاجر شخص بشري له حقوق يجب احترامها من قبل الجميع وفي أي ظرف كان. يدعو البابا إلى عدم اعتبار العمال الأجانب بمثابة سلعة ويوضح العلاقة المباشرة بين الفقر والبطالة ويدعو إلى توفير عمل لائق للجميع ويحث النقابات، بعيدا عن السياسة، على توجيه الأنظار نحو عمال البلدان التي تُنتهك فيها الحقوق الاجتماعية. (62 ـ 64).
 ويكرر البابا أن على القطاع المالي، بعد استخدامه السيء الذي ألحق ضررا بالاقتصاد الفعلي، العودة ليكون وسيلة تهدف لتحقيق النمو. ويضيف أن العاملين في هذا القطاع مدعوون إلى إعادة اكتشاف الأساس الأخلاقي لنشاطهم. ويطلب البابا تنظيما لهذا القطاع بهدف ضمان الأطراف الأشد فقرا. (65 ـ 66) الفقرة الأخيرة من هذا الفصل كرسها البابا لمسألة الإصلاح الملح لمنظمة الأمم المتحدة والهندسة الاقتصادية والمالية الدولية. هناك حاجة ماسة لوجود سلطة سياسية عالمية تتلاحم بشكل عملي مع مبدأي المساعدة والتضامن. سلطة تكون لها صلاحيات فعلية. ويختم بتوجيه نداء لإنشاء درجة أعلى للنظام الدولي لإدارة العولمة. (67)
يتمحور الفصل السادس والأخير حول نمو الشعوب والتكنولوجيا. يحذر البابا من الادعاءات بأن الإنسان قادر على استنساخ نفسه من خلال إنجازات التكنولوجيا لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن يكون لها حرية مطلقة. ويشير إلى أن عملية العولمة قد تحل محل الأيديولوجيات عبر التكنولوجيا. (68 ـ 72) ولكونها مرتبطة بالنمو التكنولوجي فإن وسائل الاتصالات الاجتماعية مدعوة إلى تعزيز كرامة الشخص والشعوب. (73) ويشرح البابا أن البيوأخلافية تشكل ساحة أولية للمعركة الثقافية بين مطلقية التقنية ومسؤولية الإنسان الأدبية ويضيف أن العقل بدون الإيمان مصيره الضياع في وهم كونه كلي القدرة وتصبح المسألة الاجتماعية "مسألة أنتروبولوجية".
ويأسف البابا للبحوث حول الأجنة والاستنساخ، وليدة الثقافة الحالية التي تعتقد بأنها كشفت كل الألغاز. ويخشى البابا من تخطيط انتظامي لتحسين وراثي للولادات. (74 ـ 75) ويؤكد بالتالي على ضرورة أن يشمل النمو نموا روحيا إلى جانب النمو المادي. أخيرا يدعو البابا إلى التحلي "بقلب جديد" لتخطي الرؤى المادية للأحداث البشرية. (76 ـ 77)
في ختام رسالته العامة يسطر البابا أن النمو يحتاج إلى مسيحيين يرفعون الصلوات إلى الله، وإلى المحبة والمسامحة والتخلي عن الذات وقبول الآخر وإلى العدالة والسلام. (78 ـ 79)

الغناء السرياني من سومر إلى زالين ودور الكنيسة بقلم نظام مارديني


المستقبل - الثلاثاء 24 آذار 2009 - العدد 3256 - ثقافة و فنون - صفحة 18
****
يشكل كتاب "الغناء السرياني من سومر الى زالين" للباحث في التراث جوزيف أسمر ملكي، مدماكاً مهماً في تاريخ هذه البلاد، وهو عودة الى النبع الذي منه يستقي شعبنا موروثه الموسيقي والغنائي. يؤرخ الباحث ملكي موضوعه برؤية توثيقية تبدأ من سومر وأكاد حيث وضعت أصول الموسيقى، والغناء، والرقص، والاحتفالات الدينية الشعبية، وقد ظهرت أورنينا كسيدة المغنين في معابد مدينة ماري. وبهذا المعنى جاءت الموسيقى السريانية امتداداً لهذه الحضارة العظيمة، وكانت قد وصلت هذه الموسيقى الى درجة عالية من الرقي المعنوي في العهد البابلي عام (2000 إلى 1000 ق.م.)، مما دفع أحد شعراء حمورابي الى القول: إن الغناء أحلى من العسل والشراب. أما في المرحلة الاشورية (1000 ق.م.)، فقد تطورت الموسيقى ووصلت الى المستوى الذي نحن عليه في العصر الحاضر، وشواهد ذلك تلك الاحتفالات المدنية التي تجري في جميع مدن الهلال الخصيب، زمن سومر، وبابل، وآرام، وكنعان... من خلال أعياد رأس السنة في أول الربيع (أول نيسان)، حيث ظهرت عشتار بأبهى عظمتها، إن ازدهار الموسيقى في المدن الكنعانية والآرامية، حيث حمل الفينيقيون في رحلاتهم البحرية فناً وأدباً مثلما حمل الآراميون آلاتهم الموسيقية في رحلاتهم التجارية الى مدن فارس والسند والجزيرة العربية وصولاً الى اليونان وإيطاليا وأسبانيا وشمال أفريقيا.
وعند مجيء المسيحية، ودخول الوثنيين في الدين الجديد، فإن الالحان السريانية التي كانت ترتل في المعابد، دخلت الكنائس السريانية وأصبحت جزءاً من ألحانها التي تم جمعها في كتاب: خزانة الألحان (أي بيت كاز باللغة السريانية)، وبذلك فقد ورثت الكنيسة السريانية الألحان القديمة واصبحت مخزناً لها، وقد اشتهر في وضع الألحان السريانية، برديصان الرهاوي، وابنه هرمونيوس ومار أفرام الذي بلغ مرتبة عالية من الغزارة الشعرية والفصاحة، حتى لقب بكنارة الروح القدس، وقد نقلت ألحانه إلى اليونانية. ومع انقسام الكنيسة السريانية إلى كنائس عدة، أخذت تلك الألحان تنقسم إلى ثلاثة طقوس مستقلة:
 1- الطقس السرياني الانطاكي الغربي، الذي يتبعه السريان الأرثودوكس والسريان الكاثوليك، والسريان الملنكار الارثوذوكس والكاثوليك في الهند.
 2- الطقس السرياني الغربي، وتتبعه الكنيستان: الآشورية والكلدانية، المنضمتان ايضاً الى روما.
وللألحان السريانية، مدارس مختلفة تم تحديدها في:
 المدرسة العراقية، وتحتوي على مدرستين تكريت والموصل.
المدرسة التركية، وتحتوي على مدارس: الرها، وطورعبدين، ودير الزعفران (ماردين)، وبازبداي (آزخ وجزيرة عمر)
مدارس بلاد الشام، وتحتوي على ألحان مدارس منطقة صدد وزيدل، إضافة الى تلك الالحان التي تقع في تركيا الان.
ويتابع الباحث ملكي في كتابه القيم هذا، الأناشيد الكنسية السريانية والأدعية التي ظهرت في صدر المسيحية كنشيد "المدراش"، وهي أقدم الأغاني السريانية عهداً، وأبلغها وأرقها معنى، وهي قريبة من الموشح الأندلسي. ويتألف "المدراش" من عدد غير محدود من الأشعار، المتساوية وزناً في كل قصيدة، وقد تكون من أوزان مختلفة وهي ترتكز على محاورات دينية وجدلية، وتشتمل على مسائل لاهوتية، فلسفية وعلمية، كان قد بدأ بكتابتها مار أفرام السرياني، واستعملتها الكنيسة.
ويذكر أن مار أفرام كان قد ألف جوقة من العذارى، علمها مدراش مقسمة الى أجزاء وأدوار وقد تضمن هذه المدراش تعاليم روحية سامية في ميلاد يسوع المسيح، وعماده وصومه، وأعماله وآلامه، وقيامته وصعوده. أخذ الغربيون بزخم المدراش والاوزان الشعرية الأفرامية (نسبة الى مار أفرام)، وسرعان ما نقلت هذه الأناشيد الى اليونانية، لتنطلق منها الانغام البيزنطية، ومولدة العروض الانشادية التي كرسها فيما بعد زومانوس الموسيقي وأتباعه. الأمر الأكيد أن مار أفرام كان أول من وضع الموسيقى الليتورجية في الكنيسة جمعاء، محولاً الغناء العابث إلى ترتيل ديني، والفكر الوثني الى فكر مسيحي.

سأحدّثك عن الموارنة بقلم الخوري اسكندر الهاشم


الصرح البطريركي المارونيّ في بكركي


انت مخطئ ان حسبت ان الموارنة مسيحيون فقط، فهم اقل من ذلك او اكثر بقليل، لانهم شعب عتيق متأصل في الحرية، متجذر في الوفاء وحسبه انه باق على العهد والامانة لتاريخه الملتصق بالتراب والسراب. يبني الماروني بيته وفي لحظة لا تخالها ولا تتوقعها، يهدم منزله ثم يتوارى الى غير رجعة لان السماء لحافه والارض فراشه، والصحراء تقيمه عدداً والبحر يغريه، كطائر لا يستقر له قرار.
 انت مخطئ ان توهمت يوماً ان الماروني سيتخلى عن مقاومته وشجاعته وتهوره، فهي خصال ترسخت فيه منذ ولادته ونشأته، لقد تمرّس في القتال ضد الطبيعة وضد الغزاة، ولم يسلم هو من مواجهة ذاته حين تغيب عن نظره مخاطر الخارج، وفي كل ذلك يبقى الماروني شاذاً عن القاعدة، فهو مسيحي بالفطرة والممارسة، وهو متمرد لا تنسجم افكاره احياناً مع الوداعة المسيحية ومحبة الاعداء، لانه اختبر صعوبة تطبيقها وقساوة الايام وتقلبات الدهر، وفي صراعه هذا يبقى معدنه طيباً لانه ينسى الغدر والخيانة ونكران الجميل، ويعاود اختباراته جيلاً بعد جيل في محاولة يائسة منه لقبوله ابناً شرعياً في هذه البقعة من العالم.
انت مخطئ ان اعتقدت انك تستطيع تدجينه، وادخاله في صلب الحداثة فجذوره الضاربة في التاريخ وحكايات عجائزه وكباره، نسيج معقد يدخل الى شرايينه وخلاياه وهو لا يقبل بديلاً من اودية نساكه وجروده الجدباء حيث لا ضرع فيها ولا زرع، ولو تملكته المدنية حتى اخمص قدميه. انه يهوى التمثّل بالاجداد والعيش في تاريخية موغلة في التحديات والصراعات ينقلها الى ابنائه من بعده، بالرغم من ابتكاره العيش مع الآخرين كل الآخرين الآتين على احصنة الفتح او الهاربين من الظلم او الطالعين من براكين الشرق المتحركة انه شخصية معقدة تكتنر ارث الفارين من وجه العدالة ووجه الله، الهاربين من الظلم الساهرين على صون الكرامة الفردية، الاصيلين في المقاومة الشرسة مقاومة القهر والظلم، الساهرين على عيالهم من الرحيل والمجازر والاستعباد. انه المهاجر والمقيم، المقاوم والمصلي، الغني والفقير، اليأس والفرح. انه صورة آدم الخاطئ والتائه والعاري يشده الحنين الى افياء السنديان والملول، ويشده السفر لانه بحّار يخوض غمار المياه وحيداً فلا الشرق يقبله ولا الغرب يأخذه على محمل الجد. انه ملاك تسحره كلمات القداسة والوداعة والخير، وهو شيطان ممسوس بالفخر والفروسية، وهو مغامر بطبعه لا تغريه المساومة ولا ترضيه انصاف الحلول.
مواجهة الماروني مأساة في حد ذاتها، لم يخرج من جدليتها وجدتها، ولم ير آفاق النور وطلوع الفجر منذ قرون، ومن عدمية هذا الصراع وهذه الملاحقة الشرسة تأصلت طباعه وترسخت، في العناد المقدس، وتأسست شخصيته الفريدة وبذلك نستطيع ان نسمي مجموع هذه الطبائع والخصال انتروبولوجيا جديدة طبعت الماروني وأرست وجدانه وأسست كيانه على مرتكزات أهمها.

قبيلة تنتمي الى المسيح
بعد قرون طويلة شهدنا خلالها مواجهات وعواصف اتت من الداخل والخارج معاً، وبعد ازمنة تخللتها نكبات وانتصارات، وبعد ترحال واستقرار وفقر وغنى، بعد موت وحياة ما زلنا بقية شعب يعاند الوجود ويواجه الايام، وما زلنا نتساءل ما هو الماروني؟ مما يتشكل؟ وما هي اهدافه وغاياته من الوجود والمواجهات؟
من هم هؤلاء الموارنة، والكثرة منهم خارج جذورهم ومياههم وتربتهم يهيمون في اقطار الارض كلها، وقلة منهم ما زالت على قيد الحياة هنا تواجه وتعاند وتمانع، تذهب عبر خيالها الى البعيد، الى الجذور الآتية من المؤسس، الى مسار اشتهر به الاجداد من خلال رؤية مثلثة، رؤية الله بينهم وامامهم، يعاين اعمالهم وتصرفاتهم رؤية الارض كملجأ ومعين ومعجن يرفدهم بالقوت الحلال. هؤلاء طبيعتهم اجتمعت فيها عوامل الفقر والشجاعة والمواجهات وقد شكلتهم على ما هم عليه من اضطراب وقلق وفرادة ادت الى خلق رؤوس حامية منعت منهم التنظيم ومهارة العمل المشترك. هذه القبيلة المنتمية الى المسيح المتمثلة بالسيد الصغير "مارون" المدافعة عن الكنيسة الجامعة في شرق انفصل المسيحيون عنه واقاموا لهم كنائس محلية مرتبطة بالملوك او التوجهات الثقافية والعرقية، وفي مشرق انتصر الاسلام فيه على المسيحية وما زال يحاصرها ويحشرها في الأزقة والحارات.

انهم شعب
الموارنة هم شعب وهذا هو فارق اساسي عن المسيحيين الآخرين المنتمين الى امم واعراق.
الموارنة شعب بالمعنى الحسي الملموس والمحدد، شعب تاريخي، نحن تماماً كالفرنسيين والالمان والعرب، من هنا الصعوبة في التحديد والمجاهرة في مجال تاريخي وحضاري يشكل التحديد بالنسبة اليه تحدياً كبيراً، لانه يريد الجميع في سلته وتحت رايته، وما عدا ذلك فيعتبر تحدياً وخروجاً عن المسموح به والمألوف هذا ان لم يكن عدواً من الواجب اقتلاعه. ان كلمة شعب لا تعني مطلقاً اننا عرق واحد ومميز، انما تعني ثلاثة مضامين (ارض – رسالة – وجماعة ذات نسق واحد) ومن هذه العناصر نستطيع الاحاطة بالظاهرة المارونية الفريدة، اضافة الى تحديدات أرست شخصيتها وعمق ممارساتها السياسية والثقافية والفلسفية، وهذه التحديدات تستند بدورها الى عناصر منها: العيش فوق ارض واحدة، وانتماء الى ثقافة خاصة وارتباط بالكثلكة وهو خيار اساسي رافق المارونية منذ نشأتها. هذه العوامل والعناصر نستطيع من خلالها تحديد الهوية المارونية واطلاق تسمية "ماروني" على كل من يشارك ويشترك في هذا النسق ويخضع لهذه العوامل. ان الوعي الماروني متجذر في كل فرد من افراد شعبنا. وهو منطلق اساس نترجم من خلاله تصرفاتنا، وهو وعي مطلق يقوم اولاً على الدور والرسالة الدينية التي نحملها في اعماق هذا الوعي. هذه الرسالة هي التي تعزز هويتنا كشعب، وحين نتكلم على "المارونية" لا يعني هذا خروجاً على تاريخنا الطويل واختصاره على فترة سياسية زمنية، بل في اللحظة التي توصل الموارنة فيها الى ممارسة حقهم في السياسة والحكم تحددت هويتهم كجماعة دينية لها توجهاتها ونسقها وعناصرها، ولها نظامها وهويتها الدينية السابقة لكل تنظيم سياسي آخر، وهم لا يتنكرون لذلك ولا يستطيعون تجاوز هذه التحديات والخطوط، وبالرغم من علمانية بعض زعمائهم فإنهم لا يستطيعون الخروج عن انتمائهم الى كنيستهم ومعتقدهم وتوجهاتهم الدينية والثقافية لانها وحدها تعطيهم الشرعية.

الارض
ترسخت المارونية ثقافة وفناً وليتورجية وسياسة، فوق ارض لبنان الوعرة والضيقة، فشكلت هذه الارض لهم مذبحاً قدّموا عليه قرابينهم ونذورهم وعشورهم، وتربّع على عرش هذه التقدمات كهنتهم واحبارهم، وبذلك ارتبطت طقوسهم وعاداتهم وحياتهم بهذه الصخور والاودية والقمم، ومارسوا فوقها لعبتهم القاسية اي استنباط ما امكن من زرع وضرع، لقد اكتملت شخصيتهم في ربوع هذه المساحة الضيقة وفي باطنها ادخلوا رفات ابائهم واجدادهم، وعند تخومها وحدودها مارسوا لعبة الفروسية والجهاد، وعلى هذه الارض ولد قديسون وانبياء ومشاغبون، وفي كل زمان واجه الموارنة امبراطوريات مسيحية ومسلمة حاولت تدجينهم بل موتهم. لقد تحولت ارضهم مقابر جماعية بفعل اضطهادات ومجاعات ومجازر مورست عليهم بحجة وبدون حجة بذنب وبدون ذنب. لقد ارتبطت حياة الموارنة ارتباطاً وجودياً عميقاً بأرض لبنان، كلنا يحمل هذا الوشم، يقول اندريه ماليرو: "ليس هناك اعظم من ان يكتشف انسان جذوره الثقافية" نحن نفاخر بكل ثقافة انسانية لانها ملك الجميع وكذلك نفاخر بالحضارات جميعها، لكن هناك خصوصيات اجمع الجميع على الحفاظ عليها لانها تنوّع غني يرفد الانسانية بهذه التنوعات وهذه الفرادة.
ميزة المارونية ايضاً انها منذ انطلاقتها لم تحصر توجهاتها في طرف واحد، فالديني عندها لا يستطيع مواجهة كامل قدرنا الصعب والمعقد لذلك شكّل الجناح السياسي مصدر قوة لا يستهان بها ومصدر تنوّع في التحالفات والمواجهات التي لا بد منها.

نوعان من التجربة والتحديات
شهدت المارونية خلال تاريخها الطويل توجهات تراوحت بين الاصولية المتزمتة، التي تحاول العودة الى الجذور والعيش على نمط الاباء والاجداد، واقتطاع جزء من الارض للعيش فيه بعد اختبارات قاسية مع الآخرين، وبعد نكران الجميل بالرغم من حسن ضيافتهم ولياقتهم وحبهم للآخرين. هؤلاء لم يشكلوا اكثرية الموارنة، لكنهم شكلوا دينامية خاصة وتوجهاً عزز شخصية الموارنة وكانوا على الدوام ازمة ضميرية ومصيرية. اما القسم الآخر فحاول من خلال تحالفات سياسية وحضارية ان يخرج الموارنة من ضيق مساحتهم ليجعل منهم لاعبا في تطور الاحداث، وهذا التوجه شكل ايضاً ازمة معقدة لافتقاده معرفة حقيقية بالآخرين، ولعدم معرفة المدى السياسي الذي يأخذهم اليه. ان شغف الموارنة بالارض يشابه شغف الشعوب كلها ويتجاوزهم من خلال وعي عميق بأن الله قد وضعهم في هذه البقعة ليحملوا نعمة الصليب والآلام، وارضهم الباقية هي آخر ما تبقى لهم من موطن ارضي، ولو ملكوا العالم بأسره، فهل ارتباطهم وتعلقهم بالارض يتوافق والمعطيات الجديدة للعالم المعاصر؟ ان البعد الديني للموارنة يفرض نفسه مباشرة على الواقع السياسي والاجتماعي والحضاري، لكنه واقع مأزوم بفعل الصراع الداخلي الدائر في قلب الشعب الماروني حول خيارات معاصرة وتحالفات سياسية مستجدة، لقد اصبح النقاش ايديولوجياً وصراعاً بين مدرستين، لان الواقع الاجتماعي السياسي والواقع الدولي يعطي الموارنة وضعاً هشاً، بل يأخذ لبنان الى مواجهات لا يستطيع احد التكهن بنتائجها. وانه واقع مستجد دخل عليه لاعبون بحجم الموارنة واكبر، بحجم لبنان وأوسع.
السؤال المطروح، اين جوهر المارونية؟ وما هي حظوظها في القيامة؟ كيف في استطاعتنا ان نكون امناء على الينابيع الايمانية دون معرفة مسبقة منا بواقع الامور وتشعباتها وصعوباتها؟ ولكن حين يسأل الماروني هل موارنة واشنطن او باريس او سان باولو.. اقل واكثر هشاشة في واقعهم ومستقبل عيالهم من موارنة لبنان؟ وحدها العناصر المجتمعة التي تقودها العقلانية تتلمس في الديني والثقافي والسياسي شخصيتها الاجتماعية. هذا المركب يشرح لنا تنوعات الاسئلة التي يطرحها الموارنة على انفسهم، سؤال ما زال يثير فينا الحماسة التي تبقى صمام امان نستطيع بها متابعة سيرنا بالرغم من حاضرنا المأزوم والصعب.

الجمعة، 28 يناير 2011

المسيحيّون أمام لحظة الحقيقة بقلم دنيز عطاالله

الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

التلطي السياسي خلف «الكتلتين» السنية والشيعية غير كاف للإيحاء بالفاعلية
المسيحيون أمام لحظة الحقيقة: هل من رؤية أو استراتيجية؟
جريدة السفير 19/ 1/ 2011
***
يوم أعلن عن استقالة الحكومة من الرابية لم ينطل على أحد الدور المضخّم الذي أُعطي لـ«التيار الوطني الحر» وزعيمه ميشال عون. ومع ذلك، فقد لاقت الخطوة استحسانا لجهة إضفاء الطابع السياسي البحت على المواجهة التي يخوضها «حزب الله» وحلفاؤه في الداخل والخارج، في وجه المحكمة الدولية. فلا أحد يرغب في أن تتحول المواجهة الى فتنة شيعية - سنية قد يُعرف من أين تبدأ، لكن الاكيد أن أحدا لا يعرف أين تنتهي. وقابلت «كتلة المستقبل» الموضوع بالمثل، في الليلة نفسها، فاختارت الاحتماء خلف لافتة «قوى 14 آذار» وتفعيلها لتخوض عبرها مواجهتها دفاعا عن المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي.

تواطأ الطرفان (السني والشيعي )، إيجابا، على تحميل المواجهة أبعادا سياسية قد تعكس خلافات جوهرية في النظرة الى لبنان ودوره ومستقبله، لكنها تبقى ضمن إطار الخلاف السياسي. على هذا الاساس يُفترض أن يملك الطرفان المتواجهان رؤية لما يريدانه وما يرفضانه، وحدا أدنى من خارطة طريق للوصول الى ما يطمحان اليه.
لكن هل يعرف الشركاء المسيحيون في المقلبين ماذا يريدون؟ هل لديهم أجندة وأولويات تكتيكية؟ هل يملكون رؤية استراتيجية؟ هل هم شركاء في التفكير والتخطيط والتنفيذ؟ هل لديهم هواجس؟ الى أي حد يشاركون في القرار؟ هل ينظرون فقط الى مصالحهم كأفراد أو أحزاب في هذا التحالف أو ذاك؟ أين «لبنانهم» الذي جاهد من سبقهم الى خلقه، ولو وهماً، في الوجدان؟ واذا كان صراع الطائفتين الكبيرتين السنية والشيعية يأخذ، في أحد وجوهه، صراع نفوذ وسلطة وإقليم وخيارات في البلد وعليه فأي صراع يخوضه المسيحيون خلف هاتين الطائفتين أو في مقدمتهما؟

يدافع الفريقان عن خياراتهما السياسية ويكرران تقريبا كلاما مشابها.
فحلفاء «حزب الله» في «التيار الحر» و«المردة» يعتبرون أنهم يجسدون «عقلانية مسيحيي هذا الشرق ورسالتهم في الوقت نفسه. فنحن من دعاة التعايش والانفتاح على محيطنا العربي والشــراكة الكاملة مع اللبناني المسلم من منطلق الندية والوطنــية». ويؤكــدون «نحن شركاء كاملون في فريقنا. والنقــاش داخل هذا الفــريق جدي وصريح. نختلف ونتفق كأي مجموعات حرة مســتقلة برأيها، مدركة لخياراتها. لكننا نتفــق على الاستراتيجــية وعلى رؤيتنا للبنان المستقل البعيد عن الفساد والرهانــات الخارجية».
بدورهم، مسيحيو «14 آذار» يعتبرون «ان أهم إنجاز حققته «14 آذار» انها جعلت المسلم اللبناني ينخرط في فكرة المسيحيين عن لبنان. فيصبح لبنان اولا بالنسبة اليهم ويتم تكريس المناصفة كواحدا من بنود الشراكة الفعلية والعملية. ونحن وشركاؤنا لا نملك أي مشروع خارج الدولة اللبنانية ومؤسساتها. ولا نملك أي التزامات خارجية تتعارض مع مصلحة لبنان ودوره ومفهومنا لهذا الدور».
لكن ماذا عن اليوم؟ كيف سيتصرف كل من الفريقين في هذه الازمة؟ هل يملك أي منهما تصورا أو طرحا جامعا قد يلتقي عنده الطرفان؟ تتكرر الإجابات نفسها عند الطرفين وان بلغة مختلفة. لكن خلاصتها أنهما يخوضان المواجهة حتى نهايتها، كل فريق في معسكره ومزايد عليه. ووسط هذه الاجواء تأتي استقالة البطريرك نصر الله صفير لترخي بظلالها على الواقع المسيحي المأزوم. وقع الاستقالة ثقيل على مسيحيي 14 آذار. وهم يفكرون في حركة شعبية ما لتثني البطريرك عن موقفه، خصوصا في هذه الفترة. لكن البطريرك مصّر. وهو ما يريح المعارضة المسيحية التي تراهن على أن «أي بطريرك جديد، حتى لو كان قريبا من عقلية صفير، سيكون أكثر إنصافا معنا، أقله في المرحلة الأولى». ومع ذلك فإن استقالة صفير لا تلغي تأثيره على الأحداث اليوم، كما لا تلغي أهمية رأي الكنيسة في أداء السياسيين المسيحيين. في الخطوط العريضة، يجمع الاساقفة الموارنة على انتقاد سلوكيات السياسيين المسيحيين. لكن عند الدخول في التفاصيل، تتوزع ميولهم بين فريق وآخر وان كان الأساقفة الذين يشــاركــون البطــريرك الهــوى السياسي هم الأغلبية.
ويسأل أحد الأساقفة المرشحين لـ«كرسي انطاكية وسائر المشرق»: «لماذا يعجز المسيحيون عن التوافق على حد أدنى من صورة البلد الذي يريدونه، ولماذا نشعر أن كل فريق منهم يريد أن يلغي الآخر». وحول إمكان التحرك المسيحي على الأرض، يستهجن الأسقف هذا الكلام معلقا أن البلد «لا يحتمل أي خضات أمنية. الاعتراض في الشارع يكون ضد حكومة أو سلطة قائمة. اليوم البلد مشلول والحكومة مستقيلة. في وجه من سيكون التحرك؟ المجتمع الدولي؟ ما هذه المغامرات غير المحسوبة؟ ليتعظ المسيحيون من أخطائهم وليسهموا في إيجاد قواسم مشتركة يلتقي عليها الجميع مسيحيين ومسلمين. عندها يكونون رسل محبة وشهودا للحق والخميرة، التي على قلتها، تخمّر العجين. وكل ما سوى ذلك من تحريض هنا لفريق وتحريض مقابل هناك لا يؤدي إلا للقضاء على ما تبقى من أمل في قلوب الشباب وإيمان بوطنهم».

مشاركة المغتربين في الحكومة الجديدة بقلم صباح نصر

 للبنان طاقات اغترابية مهمة جدا قد تفوق طاقات اللبنانيين المقيمين.
حديثا ذكر غبطة البطريرك صفير ان عدد المغتربين والمتحدرين من اصل لبناني هو نحو عشرة ملايين، اي نحو ثلاثة اضعاف عدد المقيمين في الوطن الام.
والكثير من المغتربين لم ينسوا لبنان ابدا، اذ انهم يترددون الى الوطن لتفقد املاكهم او لزيارة الاهل والاقارب، وهم يستمتعون دائما بجمال لبنان طبيعة ومناخا وضيافة اهله، ومنهم من يتمنى البقاء وعدم العودة الى دنيا الاغتراب. ومن دون شك ان الآلاف من اللبنانيين المغتربين يحظون باحترام وتقدير بالغين اينما حلوا، اذ انهم يتمتعون بمراكز مرموقة، فمنهم رجال اعمال اثرياء جدا واصحاب شركات عالمية، توظف مئات الاشخاص، ومنهم اطباء ومهندسون واداريون وسياسيون ومخترعون وصحافيون وكتاب، واساتذة جامعات، وغير ذلك.
وقلما تزور مدينة في العالم لا تجد فيها لبنانيين مغتربين مبدعين في مراكز قيادية مهمة. عندما كنا طلابا في جامعة كولومبيا في نيويورك كان هناك رؤساء عدد من الدوائر، من اللبنانيين او من اصل لبناني في هذه الجامعة العريقة، وفي البرلمان البرازيلي عشرات النواب وفي الولايات المتحدة ايضا عدد من المسؤولين في مختلف المجالات، منهم في البرلمان وفي مجلس الشيوخ... الخ.
واللبنانيون دائما يقدرون ويثمنون، بل يتغنون بالطاقة الاغترابية الكبرى التي يتمتع بها وطنهم الصغير، التي يعتمدون عليها دائما. ويبدو ان الحكم في لبنان اليوم في حاجة الى دماء جديدة، اذ انه في حالة تشتت وضياع، وكأنه باستمرار يعيد نفسه واقتناعاته وارتباطاته. وقد آن للبنانيين ان توجد في حكومة بلدهم اوجه جديدة ليست موصومة بالفساد و"اللعب على الحبلين" وبيع الوطن "بثلاثين من الفضة"، كما آن لهم ان يعيشوا بكرامة واطمئنان، وان ينعموا بضمانات اجتماعية، خصوصا بضمان للمسنين يشمل الطبابة وتأمين الدواء مجانا.
نعم... هنالك عدد كبير من المغتربين والمهاجرين القادرين والمتفوقين في مختلف المجالات يتوقون للعودة الى بلدهم الام للمساهمة في نموه وازدهاره واستقراره، فلماذا لا يسعى المسؤولون الشرفاء خاصة فخامة الرئيس لتحقيق ذلك؟ كلما فتحنا جريدة نقرأ عن نبوغ وابداع لبنانيين في دنيا الاغتراب، ونتمنى، بصمت، لو ان هؤلاء يعودون الى ارض الوطن للمساهمة في تطويره وحل مشكلاته واعلاء شأنه. ان العالم في تطور مستمر، كما هو الحال في الدول المتقدمة المستقرة التي تركز اولا وقبل كل شيء على كرامة المواطنين وضمان حياتهم وخدمتهم، جميع المواطنين، دون استثناء.
ان المغتربين اللبنانيين في تلك البلدان يلمسون ذلك لمس اليد، وحسبنا انهم يعيشونه من يوم الى يوم. مرة ثانية... حبذا لو يبادر قادتنا المخلصون باستدعاء بعض المغتربين المبدعين للمشاركة في الحكم في بلدهم الام، خاصة ونحن على مشارف تأليف حكومة جديدة. ان المغتربين اللبنانيين في العالم هم ثروة وطنية عظمى... فمتى يستغلها الوطن؟

الحريّات الدينيّة وبناء الكنائس في الخليج


الحريات الدينية وبناء الكنائس تتطوّر في الخليج تشهد الحريات الدينية في منطقة الخليج المعروفة تاريخياً بمجتمعاتها "التقليدية المحافظة"، تطوراً كبيراً منذ سنوات عدة، مما ساهم في زيادة أعداد المسيحيين في دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء السعودية التي ما زالت تحظر ممارسة أي شعائر دينية غير الاسلام على أراضيها. كذلك، انتشرت أماكن العبادة والكنائس بشكل غير مسبوق في دول الخليج، وأخذ المسيحيون من كل الطوائف يتجمعون في تلك الاماكن ويقيمون صلواتهم بحرية وبشكل علني.

الفنادق والمجمعات التجارية ومراكز التسوق الحديثة في الخليج أصبحت تتعامل مع تزايد أعداد المسيحيين بواقعية غير معتادة، حيث تقوم في كل عيد ميلاد والاعياد الاخرى، يحتفل بها المسيحيون بتزيين متاجرها بزينة وعبارات وصور خاصة بهم وبطقوسهم. معلوم ان ملايين الاجانب في الخليج يضمّون جاليات مسيحية كبيرة يصل تعدادها الى مئات الآلاف من أبرزها الآسيوية، ثم الاوروبية، تليها الاميركية. هذه الايام، تكون نحو سنة وثلاثة أشهر قد انقضت على افتتاح أول كنيسة في قطر خاصة بالكاثوليك تدعى "سيدة وردية"، في حين ينتظر افتتاح أربع كنائس جديدة خلال الفترة المقبلة لطوائف مسيحية أخرى بينها واحدة للطائفة الارثوذكسية وأخرى للانجليكانية وثالثة للبروتستانت.
يرى عدد من القساوسة ورجال الدين المسيحيين أن بناء هذه الكنيسة في قطر وغيرها في الخليج إنما يعكس تفهم حكومات المنطقة لأهمية التقارب وحرية العبادة. القس توم فينيراسيون المسؤول عن كنيسة "سيدة وردية" التي تتبع النيابة الرسولية في أبو ظبي يرى أن السماح ببناء كنائس في قطر والخليج إنما يعكس تجسيداً فعلياً لحوار الاديان وجدية هذا الحوار وعمق مضمونه. يضيف فينيراسيون إن بناء الكنيسة الكاثوليكية في قطر وغيرها في منطقة الخليج يترجم الحوار عملياً لا نظرياً، ويؤكد بالواقع كيفية العيش المشترك وتفهم الآخر. وأكد فينيراسيون أن الدستور القطري كفل للجميع حرية العبادة واحترام الاديان السموية، لافتاً ان الكنيسة للصلاة ممارسة العبادة فقط، وليس لها أية أهداف تبشيرية أخرى. حسب فينيراسيون، فإن أعداد المسيحيين في قطر يفوق الآن 100 ألف مسيحي، ويقول إن أعداداً كبيرة من العاملين في هذه البلاد، يعيشون من دون عائلاتهم حيث يمرون بظروف، فيجدون في هذه الكنيسة راحتهم وصفاء نفوسهم. قدّرت تكاليف بناء اول كنيسة في قطر بنحو 20 مليون دولار، في حين لا تعلو الكنيسة من الخارج اي صلبان، وذلك بناء على اتفاق مع السلطات القطرية خشية ان يثير ذلك حساسيات في المجتمع القطري الذي ما زال متمسكا بشدة بعاداته وتقاليده المحافظة على غرار المجتمعات الخليجية الاخرى.
يشرف على ادارة الكنيسة وتمويل انشطتها المطران الاسقف بول هندر المسؤول عن ادارة وتمويل جميع الكنائس في منطقة الخليج. المسيحيون في الخليج حسب احصائيات حديثة، يصل تعداد الجاليات المسيحية في منطقة الخليج الى اكثر من 1,6 مليون شخص، وتختلف نسب وجودهم من دولة الى اخرى، فهناك دول يوجد فيها مسيحيون بنسبة 0,05% واخرى بنسبة 10,5%، وأغلبهم وافدون لا ينتمون الى دول مجلس التعاون حيث وفدوا الى دول الخليج من اجل العمل، ومعظمهم من آسيا، وخصوصا الهند والفيليبين، فضلا عن دول عربية اخرى مثل لبنان وسوريا ومصر، اضافة الى الوافدين من الدول الغربية.

يبلغ عدد المسيحيين في دولة الامارات العربية المتحدة قرابة 500 الف من مجمل عدد السكان، وهم يتمتعون بالحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم الدينية في الكنائس التي بنيت على اراض قدمت لهم هبة من شيوخ وامراء المنطقة على غرار الكنائس التي يجري بناؤها في قطر.
يعيش في البحرين حوالي 70 الف مسيحي، يمثلون 5% من تعداد السكان، وتمثلهم طوائف الاقباط الارثوذكس والارثوذكس السريان والارثوذكس مالانكارا.
يصل عدد المسيحيين في سلطنة عمان الى نحو 65 الفاً يمثلون ما نسبته 2,5% من عدد السكان، واغلبيتهم ينتمون للكنيسة الارثوذكسية، فضلا عن وجود اعداد اخرى من الطوائف البروتستانتية الانكليكانية الذين يتمركزون في مسقط.
في الكويت، يبلغ عدد المسيحيين قرابة 400 الف، غالبيتهم كاثوليك واقباط، وتضم الطائفة الاولى 100 الف مسيحي، فيما يصل تعداد الثانية الى 90 الفا، ويتوزع الباقون على الارثوذكس السريان ومالانكارا.
في السعودية، يمثل عدد المسيحيين فيها 4% من عدد السكان، اي قرابة 1,5 مليون مسيحي.

نظرة إلى الخصوصيّة اللبنانيّة بقلم الأديب أنطوان الدويهي


هذا هو لبنان

 نظرة إلى الخصوصية اللبنانية:
معنى التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة

مداخلة في مؤتمر " بيروت رائدة الحريات في الشرق "، الحركة الثقافية – انطلياس بالإشتراك مع وزارة الثقافة اللبنانية، بمناسبة إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009، مقر الحركة الثقافية – انطلياس، من 5 إلى 7 تشرين الثاني 2009 -



1 – الخصوصية اللبنانية؟ إنها، أولاً، معطى طبيعي، خصوصية طبيعية. يكفي أن ينظر المرء من الجو ليدرك ذلك بوضوح تام. جبل شاهق منتصب وحيداً بين صحارى المشرق والبحر المتوسط. لكن هناك معطيات طبيعية أخرى تميّز جبل لبنان وتعزّز خصوصيته. فليس هو بالمرتفع الأجرد ولا القاحل، بل جبل غني بالغابات والثلوج ومنابع المياه والأودية والسفوح والتلال الخضراء، تتوافر فيه الموارد والشروط والمناخات الملائمة للزراعة والحياة والدفاع عن الذات. ثم أنه، جغرافياً، جبل قائم مباشرة على شاطئ البحر، يفصله عنه شريط أرضي ضيّق. وهو، جغرافياً أيضاً، وفوق كل ذلك، يملك موقعاً مميزاً في آخر أراضي آسيا وأول المتوسط المفضي إلى أوروبا والغرب. هذه الخصوصية الطبيعية والجغرافية جعلت من جبل لبنان وشاطئه وسهله منذ اقدم الازمان، مساحة تلقٍّ واحتضان وتوليف خلاّق، ونقطة إلتقاء فريدة بين حضارات الشرق الأوسط ، وبينها وبين الحضارات الأوروبية. لو كان جبل لبنان قائماً في الداخل، على بعد عشرين أو ثلاثين كلم فقط عن البحر، لتغيّر كلّ شيء فيه وحوله، بشرياً وتاريخياً وثقافياً. ولو كان من الجبال القاحلة، لتغيّر كل شيء فيه وحوله أيضاً.

- 2 – في موازاة هذه الخصوصية الطبيعية والجغرافية، خصوصية المكان والموقع، يتمتع لبنان اليوم، رغم كل أزمته، ورغم صعوباته الأمنية وتناقضات مجتمعه، بخصوصية ثقافية فريدة. إنه مكان الحرية الأوحد في المشرق. إنه يحتضن ثقافة الحرية ونمط عيشها. ظاهرة نادرة الحدوث خارج المجتمعات الصناعية. وظاهرة تكاد لا تُصدّق وسط هذا المحيط المغلق من الأنظمة السلطوية والأمنية، أو بإختصار، وسط نظام الإستبداد الشرقيّ. إنها الأعجوبة المشرقية عينها. يكفي أن ننظر إلى أي جانب من حياتنا اليومية لندرك هذه الأعجوبة. أن تكون في الشرق، وترقد كل ليلة حراً منذ ولادتك وتنهض كل صباح حراً. تقرأ ما تريد، وتقتني من الكتب ما تريد، دون خوف. تعلن رأيك، قولاً وكتابة، دون تردد ولا خشية. تسافر وتعود إلى حيث تشاء، ومن حيث تشاء. تمارس العمل الذي تريد. تنقل إلى اولادك التربية التي تريد. تمارس حريتك الفكرية والدينية بلا نقصان. حركة ثقافية مثل هذه الحركة التي نحن الآن فيها، على سبيل المثال، لا يمكن أن توجد في غير المكان اللبناني، من هنا، من هذا الشاطئ، إلى أقاصي آسيا. جمهور مثل هذا الجمهور، المتعدد، المتنوّع، المتحاور، المالك حرية التفكير والرأي، غير المراقب، غير الخائف، لا وجود له في الشرق إلاّ في المكان اللبناني. أي مقهى تلج إليه وانت خارج من هنا، بجوه، وناسه، واحاديثه، وألوانه، يمكنك أن تجتاز أراضي الشرق كلها دون أن تجد مثيلاً له. والتفاصيل كثيرة والأمثلة لا تحصى، عن ثقافة الحرية اللبنانية ونمط عيشها.

- 3 – الخصوصية الطبيعية والجغرافية لجبل لبنان من جهة، وثقافة الحرية ونمط عيشها من جهة أخرى؟ هل هذه الثقافة هي نتاج هذه الطبيعة وهذه الجغرافيا؟ الأمر ليس بهذه السهولة وهو أكثر تعقيداً بكثير. فالحتمية الطبيعية والجغرافية لا تكفي وحدها لتفسير ثقافة الحرية في لبنان. هناك الفعل البشري أيضاً، القائم في الحاضر والمرسوم في التاريخ، وهناك الظروف والعوامل المختلفة. من هنا التساؤل حول معنى التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة. لماذا القرون الأربعة الأخيرة؟ لأنه منذ القرن السادس عشر حتى اليوم، ينطوي مسار الأحداث ومجرى التاريخ في المكان اللبناني على معنى واضح. ليس ذلك صدفة. بل لأن هذه القرون الأربعة تشكّل وحدة تاريخية. إنها مرحلة الأزمنة الحديثة. في الغرب، أوروبا الناهضة، الخارجة من القرون الوسطى إلى الحداثة. وفي الشرق، العصر العثماني الحالّ محل العصر المملوكي. وعلاقة كل ذلك بمجتمع جبل لبنان. ولماذا القرون الأربعة الأخيرة ايضاً؟ لأنه يتعذّر تماماً فهم الأزمة اللبنانية العميقة الراهنة، في إطار الحاضر، أو الماضي القريب. فالفكر السياسي السائد حالياً في لبنان لا يعود عادة في نظرته إلى الوراء لأبعد من ميثاق 1943، أو ربما في أفضل الأحوال، لظهور " لبنان الكبير " عام 1920. ووراء ذلك، غالباً ما يصبح هذا الفكر غارقاً في الضباب. لكن هذه العودة إلى الماضي المباشر لا تكفي قط لإدراك ما يحدث. فلفهم الأزمة اللبنانية الحاضرة، ولمحاولة إدراك مصيرها ومآلها، لا بد من البحث عن معنى التاريخ اللبناني على مدى الأزمنة الحديثة.

 - 4 - منذ أن تسلّم فخر الدين المعني الثاني الإمارة عام 1591، ومنذ قيام المعهد الماروني في روما عام 1584، حتى اليوم، كيف نفهم هذا التوالي الطويل والمعقّد من الأحداث، المتداخلة فيه العوامل المحلية بالعوامل الخارجية، الملتقية فيه الإنجازات بالإهتزازات والمآسي، الذي طالما شغل المنطقة والعالم؟ معظم المؤرخين يعرض الأحداث دون أن يبحث عن معناها. والذين بحثوا عن معنى الأحداث، يمكن أن نوزّع أراءهم على توجهات أساسية ثلاثة:
 1- النظر إلى احداث جبل لبنان ومحيطه المباشر من زاوية الصراع الإقليمي والدولي ، أو من زاوية الصراع مع الإستعمار.
 2- النظر إلى هذه الأحداث من زاوية علاقات التنافس والتوافق، السلم والفتنة، بين الطوائف اللبنانية نفسها.
 3- النظر إلى هذه الأحداث في ضوء مفهوم صراع الطبقات. مع أن هناك نسبة ما من الصحة في كل من هذه التوجهات، فهي لا تطال المعنى العميق للتاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة. إن التحليل الدقيق لمسار الأحداث في المكان اللبناني منذ أواخر القرن السادس عشر حتى اليوم يقود إلى الإستنتاج الرئيسي الآتي: إن المعنى الحقيقي للتاريخ اللبناني في الأزمنة الحديثة هو التوق الدائم، الثابت، إلى الإنعتاق من نظام الإستبداد الشرقي، وهو التوق إلى أفق وجوديّ مختلف، هو أفق الحرية، وهو أفق الحكم الذاتي والإستقلالية، وهو أفق الإنفتاح على العصر والحداثة والعالم، والبحث عن تحسين نوعية الحياة البشرية.

-5 – ما هي العوامل والمعطيات التي دعمت حركة الإفلات من نظام الإستبداد في المكان اللبناني؟ هذه العوامل مختلفة تماماً عن تلك التي أدّت إلى تكوّن ثقافة الحرية والديمقراطية وتطورها في أوروبا. المسار اللبناني لا ينطبق قط على النموذج التاريخي الأوروبي. المسار الأوروبي هو القاعدة في هذا المجال، والمسار اللبناني هو الإستثناء، أحد الإستثناءات النادرة خارج المجتمعات الأوروبية والصناعية. في الحالة الأوروبية تكوّنت ثقافة الحرية بفعل مسار تاريخي معروف انطلق مع النهضة الأوروبية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر التي أنهت القرون الوسطى وفتحت أبواب الأزمنة الحديثة. وقد أنبثقت عن ذلك تحولات كثيرة: الإنتقال من المحور الإلهي إلى المحور البشري ومن أولوية الحياة الأبدية إلى أولوية الحياة الأرضية، ظهور العقل النقدي الذي احتل هامشاً خاصاً به في موازاة الهامش الديني، بلورة مفهوم التقدم، ظهور البورجوازية التي سيكون لها دور أساسي في قلب الأوضاع، الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، حركة التنوير، إنفصال العلم عن الفلسفة وتكرّس المنهج والحقيقة العلميين، الثورة الفرنسية الكبرى التي أسقطت للمرة الأولى النظام القديم، الثورة الفردية التي حررت الأفراد من أطرهم المجتمعية التقليدية، وغير ذلك من الظواهر التي لم يعرفها المكان اللبناني. أما العوامل التي إنطلقت معها حركة الإفلات من الإستبداد الشرقي وحركة تكوّن ثقافة الحرية في المدى اللبناني فهي الآتية: إضافة إلى الخصوصية الطبيعية والجغرافية التي أرتكزت عليها هذه الحركة، هناك الفعل البشري، وهناك الظروف والعوامل التاريخية التي يمكن إختصارها على النحو الآتي:
1- تقاليد الحرية الجبلية القديمة المستندة الى طبيعة المكان – الحصن، والملازمة لنمط التوزّع السكاني – الجغرافي ولنمط التنظيم المجتمعي في جبل لبنان القديم، حيث تكثر القرى المكتفية ذاتياً وأمنياً، وتضعف البنية المركزية والسلطة الإقطاعية.
 2- التحالف الطويل الأمد بين قوتين رئيسيتين في مجتمع الجبل: الأمراء المعنيون ثم الشهابيون من جهة، والكنيسة المارونية من جهة أخرى.
 3- العلاقة الفريدة في الشرق بين الكنيسة المارونية وروما، التي فتحت مجتمع جبل لبنان على الغرب الأوروبي، أي على الحداثة، في وقت جد مبكر، قبل أكثر من قرنين على حملة بونابرت على مصر، في زمن أصبحت فيه أوروبا هي محرِّك التاريخ الجديد، ومصدر التقنيات والمعارف.
 4- الحكم الذاتي النسبي الذي تمتعت به إمارة الجبل، ثم المتصرفية على مدى٣00 عام.
 5- المعادلة الجديدة التي نشأت في المتوسط بين النفوذ الاوروبي الصاعد والنفوذ العثماني.
 6- تحوّل مجتمع جبل لبنان، ثم بيروت زمن النهضة، إلى مركز فريد للطباعة والتعليم والمنهجيات الجديدة في الشرق وتمتعهما بالإزدهار الاقتصادي والتجاري والعمراني والثقافي، على نحو عز نظيره في السلطنة العثمانية، وتحوّلهما جسر إتصال بين أوروبا والداخل المشرقي.
 7- التوازن بين الطوائف المقيمة في المدى اللبناني. ولولا هذا التوازن – الذي لا مجال للتعايش الحقيقي من دونه – لما تكرست ثقافة الحرية اللبنانية.

- 6 - لكن هذه الحركة، حركة الإنعتاق من نظام الإستبداد لم تكن يوماً بالأمر السهل. كانت هناك في مواجهتها على الدوام، حركة اخرى مناقضة لها، تعمل على دمج المكان اللبناني في هذا النظام. إن بنية التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة قائمة على الصراع بين هاتين الحركتين. فهذا الصراع هو معطى بنيوي ثابت نجده في اواخر القرن السادس عشر، كما في كل وقت، كما اليوم. وحركة الدمج في نظام الإسنبداد الشرقي ليست خارجية فقط، كانت لها دوماً ولا تزال امتدادات وقوى تعمل لها في الداخل. إن الصراع الطويل، المستمر بين هاتين الحركتين، حركة الإفلات وحركة الدمج، هو الذي يحكم القوى المجتمعية في المدى اللبناني، بثوابتها وتحولاتها. كل الخلافات والتجاذبات والتحالفات والتناقضات والأفعال وردود الأفعال، تندرج بصورة واعية أو لا واعية في الصراع بين هاتين الحركتين، في كل مراحل الماضي، واليوم ايضاً. فهذا الصراع هو الأساس. وتقلبات الزعماء والجماعات، والصداقات والعداوات الدائمة التحوّل، واحلام السلطة الشخصية، والأفكار، والمخططات الصغيرة والكبيرة، والمؤامرات، وأعمال العنف، إنما تصبّ من حيث يدري أصحابها أو لا يدرون، في هذا الصراع. لذلك في الماضي، كما اليوم، يمكن أن يندرج أشخاص ووراءهم جماعاتهم في موقع مناقض لحركة الإنعتاق التاريخية، بفعل أطماع السلطة، وبفعل المصالح الضيّقة، وردود الفعل والأحقاد، وتصفية الحسابات، فيستقوون بحركة الدمج في نظام الإستبداد ويقوّونها، وهم يدرون أو لا يدرون. كما يمكن أن يحدث العكس. فيكفي إغتيال كبير من هنا، وشهوة سلطة شخصية من هناك، ومخاوف أمنية من هنالك، حتى تنتقل أحياناً جماعات واسعة من موقع إلى آخر ضمن هذا الصراع نفسه. فكل هذه الأحداث التي لا حصر لها هي بطبيعتها متقلبة، متغيّرة، عابرة. اما المستمر والثابت فهو الصراع البنيوي بين الحركتين: حركة الإنعتاق، وحركة الدمج.

 - 7 – إلى أين هذا الصراع؟ إن حركة الإفلات من نظام الإستبداد نحو أفق وجودي مختلف، التي نشأت وتطورت في المدى اللبناني، هي حركة بالغة الصعوبة. لأنها فريدة، ومعزولة، ولا حليف لها في محيطها. لا حليف حقيقياً لها لا في الماضي ولا في الحاضر. ولأنها حركة تتوق إلى نظام الحريات، والتعدد والإعتراف بالآخر، والإنفتاح، والحداثة، في محيط سلطوي أمني، لم تتغيّر نظرته إلى السلطة وإلى الإنسان في جوهرها، منذ القرن السادس عشر. ولقد مرّت عليه ثقافة الحداثة، أقلّه حتى الآن، مرور الكرام. وقيام الكيان العبري في فلسطين في العام 1948 زاد مصاعب الحركة اللبنانية تعقيداً. أدّى إلى سدّ المنفذ اللبناني على فلسطين، فأصبح المنفذ السوري يتحكّم وحده بلبنان على مدى حدوده البرية الشمالية والشرقية. كما أدّى إلى تواجد مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية، وما نتج عنه من مشكلات ومآسٍ. وفوق كل ذلك تكنّ إسرائيل لأسباب عديدة، على المدى الإستراتيجي، العداوة للخصوصية اللبنانية، وتلتقي موضوعياً بصورة أو بأخرى مع كل من يعادي هذه الخصوصية. لكن رغم كل هذه الصعوبات، ما يعزز الثقة بالحركة اللبنانية أنها تستند، اولاً، إلى معطيات راسخة، طبيعية وجغرافية وتاريخية وثقافية وإنسانية. وما يعزز الثقة بالحركة اللبنانية انها عرفت في الماضي البعيد والقريب، ظروفاً هائلة الصعوبة والخطورة، كانت تبدو معها في كل مرة على وشك الإنهيار التام. لكن في كل مرة كانت تتجاوز مأزقها بسحر ساحر، وتنطلق من جديد. من كان يراهن على قيامة هذه الحركة، على سبيل المثال لا الحصر، في العام 1613 المأسوي الذي عرف بِ " عام حافظ " نسبة إلى والي دمشق الذي اجتاح إمارة الجبل بمؤازرة العديد من القوى المحليّة المناوئة لفخر الدين المعني الثاني؟ ومن كان يراهن على قيامة هذه الحركة في العام 1635 حين انتهى حكم فخر الدين بإعدامه في اسطنبول بعد أن كان سبقه إلى الموت قتلاً مجمل أفراد عائلته؟ ومن كان يراهن على قيامة هذه الحركة بعد الصراع الداخلي العميق بين المكوّنين الأساسيين لإمارة الجبل، والذي انتهى إلى مذابح 1860 المروّعة بمباركة العثمانيين؟ ومن كان يراهن على قيامتها في الأعوام 1915 – 1918 المرعبة حيث ادّى الحصار التركي لجبل لبنان إلى إبادة ثلث سكانه لتدفيعهم ثمن هذه الحركة نفسها؟ ومن كان يراهن على قيامتها في العام 2000 حين باتت هيمنة النظام السوري على لبنان شبه مطلقة بموافقة أميركية واوروبية؟ ومع ذلك، في كلّ مرة كانت هذه الحركة تنطلق بصورة مدهشة من جديد.

 - 8 – ومن يراهن اليوم على هذه الحركة، حيث تقوم على أرض لبنان دولتان تتنازعان السيطرة عليه أو تحاولان التوافق على حكمه، دولة لبنان ودولة حزب الله، وحيث الحكومة والسلطات والمؤسسات والأجهزة التابعة لها تبدو شبه مشلولة، وحيث التهديدات الإسرائيلية، والإختلالات الأمنية، والتدخلات الخارجية؟ هل يمكن الجمع في المدى اللبناني بين نظام الحريات من جهة، والأمن والاستقرار من جهة أخرى؟ هذا هو السؤال. ان النظام الأمني يوفّر الإستقرار، لكنه يقضي على الحريات، ويحوّل لبنان مكاناً مشابهاً لأنظمة محيطه. حينئذٍ تكون انتصرت حركة الدمج على حركة الإنعتاق، ونكون فقدنا روحنا. أما نظام الحريات القائم وسط هذا المحيط الأمني الراسخ، فهو مغامرة محفوفة بالمصاعب. لأن نظام الحريات يسهل إختراقه من كل هذه الأنظمة التي لا تستثمر إلا في الأمن ولا تراهن إلا على الأمن. لذلك، بقدر ما تنتشر ثقافة الحرية في محيط لبنان، بقدر ما يستقر لبنان. لكن ذلك لن يحدث قريباً. تقول لنا الأنظمة الأمنية المحيطة بنا: لن ندعكم تتمتعون بالحرية والأمن والاستقرار معاً. فعليكم الإختيار.

أما نحن، اهل لبنان، فلّم نستطع التخلي يوماً عن حلم الحرية ولن نستطيع التخلّي عنه ابداً. وما يعزز الثقة بهذا الحلم انه تمكّن من تحقيق ثقافة الحرية ونمط الحياة المنبثق عنها في المدى اللبناني تحقيقاً فعلياً. فهما مكسبنا الكبير، الملموس، الحي، منذ أجيال عدّة. وهما أيضاً سلاحنا الأمضى. لأن من عرفهما لا يعود يستطيع التخلّي عنهما، مهما بلغت التضحيات. هذا هو سر الصمود اللبناني في الداخل، في أحلك الأوقات. وهذا هو جانب كبير من سر تعلّق المغتربين اللبنانيين بوطنهم. وهذا هو سر السحر الخفي الذي تحدثه صورة الحياة اللبنانية في كل أنحاء الشرق. وما يعزز الثقة أيضاً بحلم الحرية اللبناني، هو أنه طريق المستقبل وطريق النهضة. ليس للبنان فقط، بل لكل المنطقة ايضاً. فنظام الإستبداد يُرعب مواطنيه، ويُسَطِّح نفوسهم، ويجعلهم متشابهين، ويجعلهم عاجزين عن تكوين الرأي وعن أخذ المبادرة. فهو يقضي على القدرات الخلاّقة في المجتمع، ويُهَجِّر الأدمغة بلا عودة، ويلغي قيم المعرفة والخبرة والنزاهة ليُحِّل مكانها معياراً واحداً لتسلّم المناصب وللترقّي الإجتماعي، هو معيار الخضوع الكامل للسلطان. هكذا، يحكم نظام الاستبداد على مجتمعاته وشعوبه بالجمود، ويضعهم خارج مسار التاريخ. أما نظام الحريات، فهو وحده الذي يُفَتِّح الطاقات ويُفَجّر القدرات الخلاّقة في كل المجالات، ويولي المجتمع حركيته وديناميكيته، وهو الذي يعلي شأن المعرفة والعلم والإختصاص، وهو الذي ينفتح على العصر والحداثة ويتفاعل معهما، وهو الذي يوفِّر للمجتمع الازدهار الإقتصادي والقوة الثقافية والحضارية، وهو الذي يرفع نوعية الحياة البشرية، وهو الذي يؤنسن الشعوب والمجتمعات ويضعها في قلب حركة التاريخ. حلم الحرية اللبناني؟ اجل. هو شرف هذا الشرق وهو مستقبله.

الأربعاء، 26 يناير 2011

المسوّدة الأولى للتفاوض أخرجت الحريري للصحافيّة هيام القصيفي


سيدة حريصا
المسوّدة الأولى للتفاوض أخرجت الحريري والحكومة / العامل الأصولي يلجم الشارع و"14 آذار" تقوّم أخطاءها

تعاملت الدول الغربية وكذلك وسائل الاعلام الغربية على تنوعها، مع الرئيس نجيب ميقاتي على انه الرئيس الموالي لـ"حزب الله"، ومع الحكومة الجديدة المفترضة على انها حكومة "حزب الله". وكذلك تعاملت معها قوى 14 آذار. لكن السؤال اين سوريا من هذا التكليف ومن التشكيلة الحكومية المرتقبة؟ وما هي تداعيات التصويت الطائفي الذي حصل خلافا لما قاله النائب وليد جنبلاط من قصر بعبدا ان ما حصل ليس اصطفافا طائفيا؟
 بعدما مرّت عاصفة التكليف الحكومي، انصرفت القوى السياسية الى درس هادىء لما انتجته عطلة الاسبوع الفائت، حيث كان وزير الخارجية الايراني بالوكالة علي صالحي في دمشق يتابع من كثب مجريات التدخل السوري المباشر في تسمية رئيس الحكومة الجديد. والمراجعة، بحسب هؤلاء، حيوية نظرا الى انها ستكون تعبيرا عما تنتجه المرحلة المقبلة سواء عبر تشكيلة الحكومة او حتى درس تداعيات العلاقة مع المجتمع العربي والدولي. وبحسب معلومات عدد من المتابعين السياسيين فإن اسباب عدم تكليف الرئيس عمر كرامي بتشكيل الحكومة، تتعدى عملية البوانتاج التي اجريت ولم يحظ على اساسها بأصوات كل كتلة "جبهة النضال الوطني" المستعادة. وتؤكد هذه المصادر ان دمشق لم تجر اساسا اي اتصال بكرامي من قريب أو من بعيد. وكل ما في الامر اقتصر على تسمية النائب سليمان فرنجيه له، في ما عدّ إيحاءً سوريا وقبولا به، الا ان الامر لم يكن على هذا النحو، اذ ان دمشق كانت تعد طبخة مختلفة.
طرح اسم ميقاتي قبل ثلاثة اشهر، في عز المفاوضات التي كانت تدور بين سوريا والسعودية. وتقول اوساط في المعارضة ان ميقاتي فوتح بالامر وابدى قبوله" تحت مظلة الرعاية السعودية – السورية". وتزامن قبول ميقاتي في تلك المرحلة مع وضع مسودة تفاهم جرى تداولها وتقضي بقبول الرياض خروج الرئيس سعد الحريري من الحكم لمرحلة انتقالية، في مقابل الحفاظ على طاقمه الامني والاداري في السلطة، اي بمعنى ادق ابقاء المدير العام للامن العام اشرف ريفي ورئيس شعبة المعلومات العقيد وسام الحسن في موقعيهما، وعدم المس بالطاقم الاداري في بعض المواقع الحساسة. توسعت المسودة لاحقاً وتشعبت وتغير بند خروج الحريري من الحكم، لتنتهي الامور الى ما آلت اليه في الايام الاخيرة.
وفي اعتقاد مصادر سياسية مواكبة ان ما جرى في اليومين الماضيين هو عودة الى المسودة الاساسية التي ارادت دمشق تسويقها مع بعض الدوائر السعودية عبرطرح ميقاتي مجددا، وهذا ما جعل النائبين محمد الصفدي ونعمة طعمه العائدين من الرياض يؤيدان ميقاتي، بينما كانت المعارضة المسيحية و"حزب الله" يتحدثان عن تسمية كرامي، من دون ان يعني ذلك ان دمشق تريد تطبيق كل بنود الورقة الاولى للمفاوضات. فمنذ عام 2005، كان لـ"حزب الله" موقف في المعادلة اللبنانية لا يتقاطع دوما مع ما تريده القيادة السورية. دخل الحزب السلطة، حين خرجت دمشق منها، والعودة السورية الى السلطة اللبنانية اليوم، فيها مجازفة ترخي بثقلها بقوة على الحزب والعماد ميشال عون معا. فسوريا اليوم حولت انظار المجتمع الدولي في اتجاه دور "حزب الله" منفردا في قلب الاكثرية واخراج الحريري من السلطة، في حين عادت رقما صعبا في المعادلة اللبنانية، وصاحبة قرار مؤثر في رسم خريطة الطريق اللبنانية. ضغطت سوريا على جنبلاط، ونواب "اللقاء الديموقراطي" السابق والحالي سمعوا من جنبلاط عشية الاستشارات، على ما يروون، كلاما لم يسبق ان سمعوه منه. وضغطت ايضا على رئيس الجمهورية مرتين، في تأجيل الاستشارات الاولى، حين لم تكن طبخة ميقاتي قد نضجت بعد مع فرنسا وقطر، وفي السير بحكومة يعرف مسبقا انها ستكون من لون واحد، واضعة اياه في مواجهة لها معناها المستقبلي مع قوى 14 آذار.
وفي موازاة الضغط اللبناني، وسعت دمشق اطار اتصالاتها واقنعت فرنسا، للمرة الالف، بجدوى الانتقال من مرحلة الى اخرى، عبر تغيير رئيس الحكومة، ووقفت قطر الى جانبها، في مواجهة تحرك اميركي بدا قويا في اولى مراحله، وانعكس تشددا في بعض الدوائر السعودية عبر عنه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل.من هنا لا يمكن ان يمحى كلام الفيصل بسهولة، فحديثه عن التقسيم، لا يمر مرور الكرام في بلد عاد ليخضع مجددا للنفوذ السوري.
التصويت الطائفي والتقسيم الفعلي الذي حصل كمَنَ في المشهد الطائفي الذي عبّر عنه اصطفاف عاكَسَ ما قاله جنبلاط، وسيترك اثره في وقت قريب على العلاقة بين المجموعات اللبنانية.
- فمن بين 64 نائبا مسيحيا، سمّى 34 الحريري.
ومن بين 34 نائبا مارونيا سمى 14 نائبا الحريري (وحده النائب ايلي عون خرج عن اجماع نواب 14 آذار الموارنة) في مقابل 20 نائبا سمّوا ميقاتي.
وسمى 12 نائبا ارثوذكسيا الحريري في مقابل اثنين لميقاتي،
وسمى ستة نواب كاثوليك ميقاتي في مقابل اثنين للحريري.
وسمت الاقليات والانجيليون الحريري.
وانقسم الارمن بين 4 للحريري (واحد ارمن كاثوليك و3 ارمن ارثوذكس) و2 ارمن ارثوذكس لميقاتي.
- اما السنة فسموا الحريري بغالبيتهم اي 21 من اصل 27 نائبا.
- وبطبيعة الحال لم يسم النواب الشيعة الحريري ولم يحصل سوى على ثلاثة أصوات من اصل 27 نائبا.
- اما الدروز فللمرة الاولى بعد الطائف، و... الدوحة، لا يسمي الزعيم الدرزي الحريري (الاب والابن) ويكتفي نائب واحد هو مروان حماده بتأييده في مقابل سبعة أصوات درزية لميقاتي.
- وسمى العلويون الحريري.
وهذا يعني ان الانقسام الطائفي عكس نفسه في المشاورات اما الشارع فله حسابات اخرى. وقد تمكن الطرف الشيعي للمرة الاولى منذ عام 2005 من كسر الوحدة السنية حول مشروع سعد الحريري، سواء عبر دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة او الحريري نفسه. وليس تفصيلا سحب ميقاتي والنائب محمد الصفدي من الدائرة السنية المتحالفة مع الحريري ولا حتى تحديهما قرار مجلس المفتين. ولعل هذا الامر احد اوراق "حزب الله" المستقبلية، ولا سيما ان ميقاتي والصفدي جاءا ايضا بدعم سوري لمواجهة زعامة الحريري الاب في الانتخابات المفصلية عام 2000. مشاورات التأليف كل هذه العناصر ستترك اثرها بطبيعة الحال في مشاورات التأليف. وتكمل سوريا، وفقا لما سبق، استكمال عملية تسللها الى لبنان عبر الحكومة.
ولذا ستكون رياح التأليف محكومة بطريقة تعامل المجتمع الدولي والانظمة العربية معها، ومدى الضغط الذي تمارسه على دمشق. وعلى رغم ان المرحلة هي للمواجهة فثمة انطباع ان الحكومة يمكن ان تكون نصف سياسية ونصف تكنوقراط. اذ لا يمكن العماد عون مثلا ان يقبل بحكومة تكنوقراط كاملة في حين يعتبر انه دفع ثمنا باهظا في تصديه للحريري وكان رأس حربة في اعلان المواجهة معه. ولا يمكن في المقابل توسيع مشاركة "حزب الله" وتقديمه الى المجتمع الدولي قابضاً على زمام السلطة، قاطعا الطريق امام دمشق لمزيد من سبل التفاوض.
لذا ترجح المصادر المتابعة تطعيم الحكومة بعناصر سياسية من فريقي عون والرئيس نبيه بري مع لحظ حصة ضيقة لرئيس الجمهورية لا تعادل حكما ما اعطاه اياه اتفاق الدوحة. اما حصة جنبلاط فليست مدار بحث جدي حتى اليوم تبعا لما ينقل عن عدم رغبته في المشاركة. ولأن ثمة اجماعا على اعتبار الحكومة المرتقبة حكومة انتقالية وتقطيعا للوقت، فان المنتظر من بيانها الوزاري تثبيت المعارضة ما حصلت عليه من البيان الوزاري لحكومة الحريري لجهة الوضع الداخلي والمقاومة وابقاء ما يتعلق بالقرارات الدولية والمحكمة ضبابيا في انتظار مزيد من المشاورات الاقليمية واتضاح الرؤية الدولية لهذا الشق من المفاوضات.

اما فريق 14 آذارفقد تتاح له الفرصة لمراجعة الاخطاء التي طبعت المرحلة السابقة. وقد بدأت فعلا بعض المراجعات بصوت عال تتردد اصداؤها ككلام على بعض المحيطين بالحريري الذين ساهموا في ارتكاب الاخطاء في حق بعض القيادات، وصولا الى مراجعة نقدية للحوار الذي ساقه الحريري مع سوريا من دون مراجعة حلفائه، وفي مقدمهم المسيحيون الذين قدموا له دعما غير مسبوق خلافا لحلفائه السنة والدروز. وثمة اعتراف بأن قوى 14 آذار لم تقرأ بدقة موقف سوريا واعطتها تبعا لذلك فرصة طويلة في الافادة من استقالة وزراء المعارضة ومن ثم تأجيل الاستشارات، وتجيير ذلك لقلب موازين القوى. وهنا تكمن قدرة هذه القوى على ادارة لعبة المعارضة. فاستخدام الشارع سيف ذو حدين، ويجب التعامل معه بدقة بالغة لان ثمة خشية مستمرة من تسلل اصولي (شمالي)، ابدته امس مصادر امنية، وهذا التسلل لا علاقة له بالحريري ولا بالاكثرية، بل بحسابات تتصل باستنساخ النموذج البغدادي، من غير ان ننسى ان اي تحرك فلسطيني يصب في خانة افتعال مشكلات في بؤر معروفة، ولحسابات معروفة ايضاً لا تتقاطع مع الحريري او 14 آذار.
هيام القصيفي hiyam.kossayfi@annahar.com.lb

ابتزاز الفاتيكان للصحافيّ راجح الخوري


الصحافيّ راجح الخوري
 إنها قمة الوقاحة الصهيونية. لكن ليس مقبولا ان يقوم البابا بينيديكتوس السادس عشر بإدارة خده الأيسر للذين صفعوا المسيح وصلبوه وابتزوا المسيحية على امتداد التاريخ. إنها الوقاحة فعلا. فقبل اسابيع كان المسؤولون الاسرائيليون يفاخرون تقريبا بفصول المحرقة التي نفذوها ضد اهالي غزة، وها هم الحاخامون يشنون الآن هجوما شرسا على الفاتيكان والبابا، وصل الى حد محاولة فرض رأيهم حتى على الثقافة الكاثوليكية! ليس قليلا ان ينبري حاخامون من اسرائيل لمطالبة البابا صراحة بان يجعل من دراسة المحرقة النازية موضوعا مقررا في المدارس الكاثوليكية قائلين ان هذا سيساعد على اخماد مشاعر معاداة السامية المحتملة لدى الاجيال المقبلة.
❑ ❑ ❑
واذا كان الفاتيكان قد اعتذر في السابق من اليهود بعد حملة شرسة شنتها الصهيونية على قاعدة ان النازية هي احدى افرازات الحضارة الغربية ذات الجذور المسيحية، فان ذلك لم يرضِ على ما يبدو هؤلاء الذين يعطون انفسهم حق الحكم على الاجيال القادمة مفترضين وزاعمين طبعا، ان هذه الاجيال سترضع مشاعر العداء للسامية مع الحليب! النازية ليست بنت الكنيسة، كما تريد الصهيونية ان تقول دائما. والفاتيكان لا يستطيع ولا يفترض ان يدير الخد الايسر لهؤلاء الحاخامين الذين دأبوا على صفعه على خده الايمن. واذا كان احد الاساقفة (ريتشارد وليامسون) قد قال ان هناك مبالغة في تصوير حجم المحرقة النازية ضد اليهود، فان الفاتيكان اتخذ المواقف والاجراءات التي اوضحت الامر. فليس هناك في الاساس من ينكر حصول المحرقة وما انطوت عليه من العار. ولكن الحاخامين والصهاينة لا يكتفون بل يواصلون الابتزاز وخصوصا مع البابا بينيديكتوس الالماني الاصل. وقد روّجوا تكرارا انه كان عضوا ايام فتوته الاولى في احدى الحركات الكشفية النازية.
❑ ❑ ❑
ولم يطلب كبير حاخامي حيفا ياشوف كوهين ان يكون موضوع المحرقة مقررا ضمن مناهج دراسية في المدارس الكاثوليكية في كل انحاء العالم فحسب، بل طالب الفاتيكان ايضا بان يتخذ موقفا قويا ضد مشروع الاعلان الختامي لمؤتمر الامم المتحدة المناهض للعنصرية الذي سيعقد الشهر المقبل، ويرى البعض انه معاد لإسرائيل، انطلاقا من الفكرة التي تساوي بين الصهيونية والعنصرية. ومن المؤكد ان البابا بينيديكتوس الذي سيقوم بجولة في الاردن وفلسطين المحتلة، سيزور متحف "يادفاشيم" الذي اقيم لتخليد ذكرى المحرقة النازية، وهو ما يفترض ان يوقف حملة الابتزاز الراهنة التي تشن ضد الفاتيكان. ولكن الصهاينة الذين يحرصون دائما على تأثيم الوجدان المسيحي والعالمي انطلاقا من وقائع الهولوكوست الذي نفذه الرايخ الثالث ضد اليهود ولا يتردد المرء في ادانته بقوة، لا يقفون عند حد وهم يشهرون تهمة "اللاسامية" في وجه الدول والمجتمعات والافراد، رغم انهم حققوا نظرية احد جدودهم وهو سيغموند فرويد اهم علماء النفس الذي قال: "ان الضحية تتوق دائما الى لعب دور الجلاد". لا بل انهم تفوّقوا على جلاديهم واثبتوا انهم نازيو العصر في غزة وقبلها في قانا ثم في الجنوب وكل لبنان. اذا استمر الرضوخ لمسلسل ابتزازهم الذي لا ينتهي فقد نجدهم يطالبون غدا بتغيير وقائع الانجيل وصلب السيد المسيح بحجة ان هذا يمكن ان ينهي المشاعر المعادية للسامية.
راجح الخوري rajeh.khoury@annahar.com.lb

الحريريّ كمعارض للصحافيّ ساطع نور الدين

بيروت
 الغضب كتعبير عن شعور إنساني يختلف كثيراً عن الاحتجاج كتعبير عن موقف سياسي. لم يكن الغاضبون السنة الذين خرجوا الى الشوارع أمس لإبداء استيائهم من القهر الذي يتعرضون له، يؤسسون لانقلاب مضاد لذلك الذي نفذه حزب الله، لكنهم أرسوا قدرا كبيرا من التوازن المطلوب والمرغوب في الشارع وفي العلاقة مع الشيعة، التي كانت تقتصر حتى الآن على تبادل الطعنات الحادة، وفي النظرة إلى هوية لبنان وموقعه ودوره المثير للجدل منذ أن كان. حتى أمس كان السنة ينظرون شزرا إلى الشيعة. اختيار الغضب شعارا وسلوكا لم يكن عفويا. وهو في المناسبة يشكل سابقة تاريخية بالنسبة الى الطائفة السنية التي لم تشعر يوما انها تخرج من السلطة او تخرج عليها، حتى في ذرى الحرب الاهلية والصراع مع المارونية السياسية، التي أورثت طبائعها وتقاليدها لشيعية سياسية أشد بؤسا وخطورة. وهو في الجوهر يعني أن ثمة طائفة معارضة تولد من جديد في لبنان، وهي ستأخذ الوقت الكافي لبلورة خطابها وتحديد جدول اعمالها، وخطتها للعودة الحتمية والمظفرة الى الحكم، بعد ارتكاب القدر المسموح به من الاخطاء التي ارتكبتها بقية الطوائف. لكن فسحة السنة لن تكون طويلة او سهلة، او خالية من المخاطر. فالطائفة الغاضبة اكبر من ان تعارض بطريقة سلمية وأصغر من ان تحكم بطريقة سوية. وما يمكن ان يخرج من صفوفها لا يمكن ان يظل هادئا او سياسيا، وهو سيأخذ في طريقه، او سيستهدف أولا قياداتها ورموزها الحالية التي سمحت بقهرها وإذلالها، قبل ان ينتقل الى مواجهة الطوائف الاخرى.. إذا لم تتسم تلك القيادات بالحكمة والقدرة على استيعاب الغضب الشعبي ونقله من الشارع الى القنوات السياسية والدستورية. وهي لعبة خطرة جدا، لأنها سنية بالتحديد، ومن السهل أن تندرج في موجات مشابهة تسود العالمين العربي والاسلامي وتستهدف الغزو الاجنبي بقدر ما تستهدف الأقلية الشيعية، ولا تعود مجرد صراع على السلطة وعلى حق الغالبية النيابية والشعبية في اختيار ممثليها على رأس الحكومة وفي مقاعدها.. ولا تبقى مجرد رد على إقالة الرئيس سعد الحريري، الذي يفترض ان يستنتج ان رسالة الشارع قد وصلت الى من يعنيهم الامر، ولم يبق سوى ترجمتها الى برنامج للمعارضة الجديدة التي يمكنه ان يقودها الآن، ويعود بواسطتها غدا الى الحكم، مرفوعا على الاكتاف، كما جرى مع والده الراحل رفيق الحريري، الذي لم يزده البقاء خارج السرايا الحكومية الا قوة وشعبية. اما اذا أساء الحريري الابن التقدير مرة اخرى وقرر المضي قدما في تطوير الغضب الشعبي وتحويله الى احتجاج سياسي، فإن خسارته ستكون اكبر من الحكم، وخسارة السنة ستكون اكبر من السلطة، وخسارة البلد ستكون أخطر من الامن، الذي لا يقاس الا بموازين قوى مختلة.. ما جرى أمس كان كافيا لفرض توازن سياسي ومذهبي ضروري. غداً هو يوم آخر. أو هكذا يجب أن يكون.
جريدة السفير 26 كانون الثاني 2011

الثلاثاء، 25 يناير 2011

السلطة جمرة حارقة للصحافيّ ساطع نور الدين



الصحافيّ ساطع نور الدين

حزب الله يحكم لبنان. هو الذي يسقط الحكومات وهو الذي يشكلها. الانتقال إلى هذا الدور ليس عابراً ولا تفصيلاً. ولا يعزى فقط إلى حاجة المقاومة للدفاع عن نفسها، ولا ينسب فقط إلى رغبتها في تغليب هوية لبنانية متنازع عليها. هو يؤسس لتحول جذري في التركيبة اللبنانية، وتطور تاريخي في علاقة الطائفة الشيعية مع الدولة والكيان، وتدهور تاريخي أيضا في علاقة بقية الطوائف، لا سيما الطائفة السنية، مع ذلك الكيان وتلك الدولة اللذين ورثتهما من المسيحيين ولم تستطع المحافظة عليهما في شكلهما التقليدي، التأسيسي الأول. ومهما كان صوت حلفاء الداخل مدوياً وصوت حلفاء الخارج خافتاً، فإنه انقلاب شيعي لا لبس فيه، وسيكون له صدى عميق في وعي وجدان الشيعة الحافل بذكريات الاضطهاد والحرمان والحداد، وفي نظرتهم الى المستقبل اللبناني الذي لن تظل فيه المواجهة مع إسرائيل الناظم الوحيد للحكم، ولا المعيار الوحيد للوطنية اللبنانية.. وهي في الأصل لم تكن مبنية على التناقض الجوهري مع المشروع الصهيوني، برغم بعض النظريات المسيحية القديمة التي سقطت من ذاكرة المسيحيين منذ زمن بعيد، ولم تسجل في ذاكرة المسلمين في أي يوم من الأيام. حتى ما قبل إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، كان حزب الله يستهوي صفة المعارضة مع أنه كان شريكاً فاعلاً في الحكم، حصل قبل عامين على حق النقض بالثلث المعطل. ها هو اليوم يرتقي إلى مرتبة الحاكم الأوحد والمسؤول الأول الذي ستلقى على عاتقه للمرة الأولى في تجربته أعباء السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية، والأهم من ذلك السياسة الخارجية التي طالما كانت مكمن لبنان الدائم ومقتل اللبنانيين الأكيد ومصدر حروبهم الأهلية التي لا تنتهي. يمكن، بل يرجح أن يختار الحزب البقاء خارج الحكومة المقبلة، وأن يوزع حقائبها الشيعية على آخرين من غير الحزبيين، لكنه لن ينجو من الحساب ولا من العقاب اللاحق لأي حاكم... خصوصا إذا كان معارضوه يشكلون جبهة محلية وإقليمية ودولية متراصة، تتمتع بغالبية ساحقة وبغلبة حاسمة على الشريكين السوري والإيراني، اللذين لا بد أنهما يدركان أكثر من حليفهما اللبناني خطورة الخضوع لامتحان السلطة اللبنانية المتقلبة في هذه المرحلة بالذات. إطلاق صفة الحاكم على حزب الله، من الان فصاعدا، قد لا يكون تحضيرا لانقلاب مضاد. ربما كان هذا هو المرغوب من قبل خصومه المحليين والخارجيين الذين يقدرون أن السلطة جمرة حارقة، ويؤكدون أنها لن تلغي المحكمة الدولية بل هي ستكسبها زخما إضافيا، ويجزمون في أن الحكومة المقبلة لن تكون قادرة على الصمود في وجه الأحكام الأولى المرتقب صدورها من لاهاي خلال الأشهر القليلة المقبلة. لعل لدى الحزب تصوراً جديداً عن حكم لبنان، وفكرة مبتكرة عن طريقة إدارته، والأهم من كل ذلك، صيغة سحرية لإبطال المحكمة الدولية، التي كان يمكن استردادها بسهولة فائقة وبغير مثل هذا الأسلوب الانقلابي، وتفادي الكثير من الأضرار المعنوية والسياسية الفادحة، لا بالمقاومة وحدها بل بالبلد بأسره. امتحان السلطة بدأ للتو.
صحيفة السفير - الثلاثاء 25 كانون الثاني 2011 

بناء الكنائس في دار الإسلام للمطران جورج خضر

المطران جورج خضر
 سأرى الى هذه المسألة في جانبيها النظري والعملي منذ بدء ظهور الإسلام. جاء في التنزيل: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً" (سورة الحج، ٤٠). يقول الله هنا ان البيع وهي الكنائس يذكر فيها اسم الله. هذا موقف من المعابد المسيحية ودي. عند الفتح لدينا العهود العمرية التي تنهى عن هدم الكنائس في الكلام الآتي: "هذا ما أعلن عبد الله عمر، أمير المؤمنين، اهل ايلياء (هذه كانت التسمية الرومانية للقدس)، من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها. انه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم. ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا شيء من أموالهم. ولا يضار أحد منهم...". وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين. وهذا طبعا يتمشى مع اعتبار التنويع الديني قصدا من مقاصد الله: "ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة" (هود، ١١٨) بحيث لم يشأ الوحي أن ينصهر الموحدون في ملة واحدة على قول الوحي: "ورضيت لكم الإسلام دينا". وقبل نزول هذه الاية لم ترد كلمة الإسلام مرة واحدة بمعنى ان اهل الاسلام هم حصرا الذين اتبعوا رسالة محمد. واذا كان اليهود والنصارى يصلون على طريقتهم فهذا يفترض اماكن تجمع لهم للصلاة. وفي حال اعتبر عمر ان العهد الذي اعطاه اهل ايلياء عهد الله أفهم من هذا انه لا يتبدل بتبدل الأزمان.
فيما كنت اتأمل في هذا سمعت منذ ايام معدودات ان دولة المغرب تمنع بناء كنيسة فلم أفهم القصد من ذلك اذ ليس في هذا البلد الطيب شقيق مواطن مسيحي واحد. من يخشى المغرب في حالة الفراغ الكامل من المسيحيين؟ المملكة العربية السعودية تحرم تحريما قاطعا بناء كنائس ربما استنادا الى حديث شريف مفاده ان لا تجتمع ديانتان في الجزيرة. ولست اظن ان المملكة تمنح جنسيتها لغير مسلم. فالمنع يقع تاليا على المسيحيين الأجانب الذين يقصدون المملكة للارتزاق. غير ان دولة الإمارات تشاد فيها كنائس بمعرفة السلطات وإذنها. وبهذا تكون اجتمعت غير ديانة في جزيرة العرب.
في هذا الاتساق نشرت "لجنة العمل ضد عدم التسامح في البلدان الاسلامية" في 17 كانون الثاني 1997 في باريس لصالح المسيحيين المميز ضدهم (وهذا تعبيرها) في المملكة العربية السعودية طالبين من السلطات منحهم الحق لممارسة دينية موافقة لإيمانهم الحق في المجمعات للصلاة. بعد هذا التداخل نشر الشيخ أبو بكر جابر (أو الجابر) رئيس قسم الدعوة الاسلامية (انقل عن الفرنسية) في جامعة المدينة في "لوموند" (20 /8/ 87) ردا أهم ما ورد فيه ان المملكة العربية السعودية ككل يعتبرها الاسلام مسجدا لا يمكن ان تجتمع فيه ديانتان. في زمن هذه المناقشة الصحافية كان في المملكة ثلاثمئة ألف مسيحي من العرب والهنود وغيرهم قصدوا ذلك البلد للارتزاق وربما بلغوا اليوم عددا أعظم من هذا. فالمنع من صلاة الجماعة يقع على هؤلاء وهم يتوقون ان يقتربوا الى الله حسبما يعرفون وتعرف السلطات هناك ان لا خطر منهم على الاسلام اذ "لا ردة في الاسلام". أليس من الممكن في احترام متبادل بين السعوديين والأجانب ان يسمح لهؤلاء بما هو الحد الأدنى من الاعتراف بحريتهم، ان يسمح بدعوة قس أو بضعة قسوس لإقامة الصلاة في أيام الآحاد او أقله بدعوتهم مرة أو مرتين في السنة أي في الميلاد والفصح لإقامة الصلاة للمسيحيين وذلك بتخصيص قاعات لهم في المناسبات؟ هذا لا يكون الا اعترافا رمزيا بوجود انسانية كامل الاعتراف بها في هؤلاء المهاجرين ويكون هذا تطبيقا للقاعدة القرآنية: "لا اكراه في الدين".
أما في مصر فالمسيحيون كانوا يصلون حتى فترة قصيرة متى شاء لهم رئيس جمهوريتهم ان يصلوا. يشيدون معابدهم ويرسمونها اذا أراد ومتى أراد. والآن انتقلت المشيئة في كل محافظة الى المحافظ أعني المشيئة المطلقة بلا شرط ولا معيار قانوني ولا سؤال عن حاجة أصحاب الاستدعاء وعددهم. السيد المحافظ مرجع نفسه. ونفسه مرجعها مزاجه. كل جزئية في حالة الكنيسة بأمر السلطة فالترميم قد تقتضيه حالة البناء وقد يسقط على رؤوس العباد. من الترميم المطلوب مثلا ابدال حنفية ماء معطلة بحنفية جديدة. هذا يتطلب استئذانا. للدولة المصرية الحق في اتخاذ الاسلام دينا لها ولكن هذا الدين هو يقول انه لا يقيد الآخرين بحيث يبيح لهم حق العبادة ويعتبر ان الاختلاف والتعدد مشيئة الله. أنا لا أود ان اتكلم هنا على الديموقراطية وحقوق الإنسان. هذه لغة غريبة احترمها. اني أريد ان أخاطب دولة اسلامية لشعب عزيز وشقيق من ضمن المنطق الاسلامي، من سورة الحج، من ايام فجر الاسلام كما سماه احمد أمين كان أعظم سماحة من أيامنا هذه. أنا في إطار التعامل المسيحي - الاسلامي أتحدث انطلاقًا من لغة الاسلام.
لقد فهمت دولة الامارات وربما دولة البحرين ان الاعتراف بالضيف هو أولا الاعتراف بحريته ان يصلي حسب قلبه.
صحيفة النهار