السبت، 2 أبريل 2011

الموارنة بقلم سجعان قزّي نائب رئيس حزب الكتائب



مـوارنـة وجـيـش ونـظـام

سجعان القزي
نـائب رئيس حزب الـكتائب اللبنانية

مجلة المسيرة في 27 شباط 2011

أنذكرُ؟ أتذكرون ذاك الدورَ الرائد والطليعي لموارنة لبنان؟ إن تذكَّرناه فلـنُـحْـيه، وإن نسيناه فلنصنـعْـه. في ما مضى، عواملُ متعدِّدة صنعت الدورَ السياسيَّ الأولَ للموارنةِ في لبنان، وأبرزها:
·  أولاً: شعَر الموارنةُ أن جبلَ لبنان هو ملاذُهم، وأن تضاريسَه الجغرافيةَ تشكل بحدِّ ذاتها استراتيجيةً دفاعيةً تحميهم. فأنشأوا فيه بُناهم التحتية ومؤسساتهم الروحية، وجعلوه قاعدةَ وجودِهم ومَـقـرَّ بطريركيتهم ومنطلَق إشعاعِهم. هكذا ابتدع الموارنةُ اللبنانيون معادلةً تكاملية بين التعلُّقِ بالأرض والإيمانِ بالدين، حتى بات الفصلُ بين جبل لبنان والموارنة انتهاكاً لخصوصيتهم وتعدياً على أمنهم وحريتهم ودينهم. ولو لم يتمسك الموارنة بهذه المعادلةِ منذ أواسط القرن السادس، لما نجحوا في تأسيس دولة لبنان الكبير في أوائل القرن العشرين.
·  ثانياً: تخطّى الموارنةُ النزاعَ مع الفتوحات الإسلامية، فحافظوا، رغم اضطهادهم، على انتمائِهم المشرقي الآرامي السرياني اللبناني. وإذ واصلوا خِدمةَ محيطِهم العربي والتجذُّرَ في الشرق، أقاموا علاقاتٍ لاهوتيةً وسياسية وأمنية بالغرب. وبعيداً عن المزايدات، وفّرت العلاقةُ بالغربِ المسيحيِّ حمايةً كِيانية للموارنة عبر تاريخهم القديم والحديث. وبالمناسبة، إن مسيحيّي الغرب هم على دينِ الشرق وليس مسيحيو الشرق من هم على دين الغرب. وما الفاتيكان سوى المقرِّ التاريخي البديل عن أورشليم، المقرِّ التاريخي الأصيل.
·  ثالثاً: اعتمد الموارنةُ نمطَ حياةٍ ارتكز على النقاوةِ الروحية وسياسةِ الإنجاب والانتشارِ الداخلي والعلم. النقاوةُ جعلتهم مثالاً وقدوة، الإنجاب وفّر لهم الأرجحيةَ العددية، الانتشاُرُ وسّع انتماءهم إلى كل لبنان، والعلم أهّـلَهم ليكونوا روَّادَ النهضةِ اللبنانية والعربية.
·  رابعاًً: نَـقَـل الموارنة إلى لبنان مفهومَ "الدولة ـ الأمة" بدل "الأمة الدولة". فالأولى رسَت على القانونِ وحقوقِ الإنسان وحقِّ الشعوب بتقرير مصيرها؛ والثانيةُ على الفتوحاتِ العسكرية ونُكرانِ الآخر ونَـبْـذِ المساواة بين المواطنين. وبَدت الدولة اللبنانية سنةَ 1920، التي رعى الفرنسيون والموارنة تنظيمَها، أوّلَ نَموذجٍ شرقيٍّ وعربي وآسيوي لدولة القانون. هذا يعني أن الميثاق الوطني الذي "أُقِـرَّ" سنةَ 1943، اصطفاه الموارنةُ لدى إنشاءِ دولة لبنان التي وحَّدت ديمقراطياً وتدريجاً حوالي عشرين طائفة مسيحية وإسلامية ويهودية. وحده هذا الإنجاز التاريخي والإنساني والاجتماعي، يكفي لأن يعترف باقي اللبنانيين للموارنة بدورٍ وطني خاص ورائد بِغضِّ النظر عن جداول العدد. فلو لم يُنشِئ الموارنة الدولةَ اللبنانية المستقلة، لما كان يوجد اليوم "مسلمون لبنانيون"، إذ كانت الدولة العربية الكبرى ضمَّتهم إليها وأعطتهم جنسيتها.
·  خامساً: التزمَ الموارنةُ مبدأ الصمود والصبر، والتموضعَ في مسيرةِ التاريخ لا في حركية "الواقع الآني". ساعدتهم هذه الاستراتيجية، المستقاةُ من روح الإنجيل، على تجاوز الصعوباتِ المرحلية والإيمان بالقيامة الوطنية أيضاً. وقد سعى الشعب الماروني المقاوِم دوماً إلى عدم التورّط، بالمقابل، بمغامراتٍ عسكرية انتحارية ضد أي قوة احتلال من زمن البيزنطيين والخلفاء الراشدين حتى العثمانيين. لكن ذلك لم يَردع الموارنةَ عن الاقتتال في ما بينهم على السلطة، وأي سلطة؟!

اليوم سقط مفهوم المـحَمـيَّـة الجغرافية الطبيعية، وضعُـفَت حماية الغرب لأقليات الشرق، وتغيّر نمط حياة الموارنة. بات صعباً على المارونية السياسية أن تحيا من دون مارونيةٍ أخلاقية، وصار قادةٌ موارنةٌ يريدون الهيمنةَ على الموارنةِ وسائر المسيحيين تعويضاً عن عجزِهم عن السيطرةِ على البلاد، فوقعوا في تجربةِ الغرورِ والشخْصَنة والنرجسيّـة والخِداع والعَجرفة والعنجهية والتفرّد والجهل وانفِصامِ الشخصية، فسيطرَ النَـزَقُ على قراراتِ بعضهم والـنَـزوةُ على خِياراتهم.
لم نضع، كموارنة، استراتيجيةَ حمايةٍ ذاتية. راهـنَّـا على الدولة فخَذلَتنا. ولما حاولنا استلحاقَ الأمر وانتظَمْنا في مقاومةٍ عسكرية دفاعاً عن حياتنا ومنعاً لإبادتنا، اُتهمنا زوراً بالتقسيم، ونحن صانِعوا الوحدة اللبنانية. خَجِلنا من تهمةِ الزور، أُحْرجنا، احْـمَرَّت خُدودُنا، وسلَّمنا سلاحَنا علَّ دولةً تقوم وتحمي الجميع، فقامت. قامت دولةٌ تضطهد المسيحيين وتَـقمع شبابهم وتَسجن قادتهم وتنفيهم. لو كان السلاح لا يزال معنا، أو لو كانت الدولةُ قويةً، أكان يجرؤ أحدٌ على رفعِ رأسِه وصوته وإصبعه بوجهنا؟

أظن أن الوقتَ حان لأن يُفكر الموارنةُ بشجاعة بمستقبلهم في لبنان والشرق: كيان 1920 غَرِق تحت موجِ العَدد، وصيغةُ 1943 سقطت تحت سيوفِ الأصولـيّـات بعد أن نزَفت تحت بنودِ اتفاق الطائف. حين كانت لدينا دولةٌ لم يعترف المسلمون بالوطن، وحين اعترفوا بالوطن وَجدنا الدولةَ تودِّع الموارنة. حين كان لدينا دستورٌ عَلماني متوازن يَسمح لللبنانيين أن يحكموا أنفسهَم من دون وصاية، بَحثنا عن وصاية، وحين طاب لنا طَعمُ الاستقلال وَجدنا دستوراً مُـمَـذْهَباً مُختلاً يستدعي وجودَ وصيٍّ ما.
الموارنة اليوم مُهدَّدون بقِلة العدد، بأنانيةِ سياسيِّيهم، بشَحِّ الموارِد المالية، بتَرنُّحِ دورِهم في الدولة، بانحسارِ انتشارِهم في لبنان، بضعفِ الدور الاجتماعي للكنيسة، بالأصوليةِ الإسلامية على أنواعها، بمشروعِ ولاية الفقيه، باختلافِ أنماط الحياة بين المكوّنات المجتمعية، بالتوطين الفِلسطيني، بوجود إسرائيل، بالهيمنة السورية، وبامتداد الثورات التائهة. ويشعُر الموارنةُ أن عليهم أن يختاروا بين ذِمـيّـةٍ داخلية أو وصايةٍ عربية أو حماية دولية، فيما المشروع المسيحي التاريخي هو نقيضُ الحالاتِ الثلاث. إنه يرتكز على وجودٍ مسيحي حر، في مجتمع تعدّدي، متكاملٍ وفي دولة مستقلة. فلا وجودُنا حرّ، ولا التعددية تكاملية ولا الدولة مستقلة.

لا نفضِّل إنشاءَ أمنٍ ذاتي. وليس لدينا ثقةٌ بقدرةِ المؤسساتِ العسكريةِ الشرعية على حمايتنا. إننا نثق بالجيش، لكن نراه لا يملك حريةَ التدخّلِ لوضع حدٍّ لفتنة داخلية. وذلك بحكم صيغتِه، وبفعل جدليةِ التناقضِ في السلطة السياسية الآمرة، وبسبب ملابسات إعادة تكوينه في التسعينات. هذا الشعور ليس تحليلاً أو هاجساً خيالياً، بل هو مبني على تجاربَ امتدت طَوال ستين عاماً: منذ سنة 1952 حتى 7 أيار 2008 مروراً بسنوات 1958 و 1973 و 1975، مع التوقّف عند حربِ الجبل وسقوطِ بيروت الغربية سنةَ 1984.
لو كان جيشُ بلادي قادراً على الحسم، لما أتت القوّات الأميركية سنةَ 1958 والسوريةُ سنةَ 1976 والدوليةُ سنتي 1978 و 2006 والمتعددةُ الجنسيات سنة 1982. لو كان جيش بلادي قادراً على الحسم، لما تفاقمت الحربُ بين اللبنانيين أنفسهم، وبين اللبنانيين والفلسطينيين، ولما فاضت دماء. خلافاً لواقع اليوم، كان جيشُ بلادي في السبعينات أقوى من كل الأطراف مجتمِعين. ولو تَوفَّر له القرارُ السياسي آنذاك لتمكَّن الجيش، ربما، من وأدِ الحرب ـ المؤامرة في مهدِها. لكن الانقسامَ الطائفي في الحكمِ وتدخّلَ قوى خارجية مثل سوريا والسعودية وغيرهِما، كما حصل في أيار سنة 1973، وإسرائيل في خريف سنة 1983، منعا الجيش اللبناني من الحسم.
قيادة الجيش بريئة من هذا الضعف. تشعُر، مثلنا، بالقهر والغبن. لا الوطنيةُ تَنقُصها ولا الشجاعة ولا الإرادة. لكن ضعفَ السلطة السياسية هو الذي يَجني على الجيش. إنها أزمةُ نظام لا أزمةُ جيش. والاستثناء الذي حصل في معركة مخيم نهر البارد سنة 2007، يؤكد هذا الواقع. فما كان الجيش ليخوضَ تلك المعركةَ البطولية ويحسمَها، بما تيسَّر له من سلاح، إلا لأن السلطةَ السياسية كانت موافِقةً والقيادةُ السُنية مقتنعة بالأمر.
هذا الواقع يجب أن يدفعَ بقيادةِ الجيش إلى رفع شكوى للقيادةِ السياسية مَفادها: أننا كمؤسسة عسكرية لا نقبل بأن نبنيَ جيشاً لا يحمي الناس، ولا نقبل التشكيكَ بدورنا ولا بتعطيله. نريد صيغةَ حكمٍ تؤمِّن للجيشِ قدرةَ التدخل. لا نقبل بعد اليوم ألّا نلبيَ حاجة المواطن إلى السلام. لا نقبل أن نخـيِّب أمل المواطن بنا. الشعب يحب جيشه لكنه تلوّع من "حياديته السلبية" إبّـان المحنِ السابقة. لذا، نرفض، كقيادة، استمرارَ أزمةِ المعاناة في الجيش وأزمةِ الثقة بينه وبين الشعب. نريد أن نكون عند حسن ظن الشعب. فنحن جيشُ شعبٍ ودولة، لا جيش طوائف وأحزاب ومناطق.

إن كنا كموارنةٍ نطرح هذه الإشكالية، فلإننا، مع سائر المسيحيين، مُهدَّدون أكثر من غيرنا بوجودنا وأمننا وحريتنا ودورنا الوطني، ولأننا عُـزَّلُ إلا من الإيمان والشجاعة والعزم على البقاء هنا.
لن نَهابُ الدعوةَ إلى تغييرِ هيكلية النظام المركزي للاتجاه نحو حالة دستورية أخرى تؤمِّن للمسيحيين ولسائرِ اللبنانيين مستقبلاً تَحدّه الحريةُ والأمن والاستقرار، لا الحروب والفتن والاضطراب الدائم. نريد أن نبقى هنا نُرى بالعين المجرَّدة ـ بكل المعاني ـ لا بالمِجْهر.
الموارنةُ اليوم، وهم يُحدِّقون بحاضرةِ الفاتيكان، حيث رُفع الستارُ عن تمثالِ شفيعهم مار مارون، يَرَون لبنانَ "صَفْدة" فارغةً من لؤلؤتها، وشجرةً من دون ثمارها، ووطناً من دون رسالته، ودولةً من دون هيبتها، وشرعيةً من دون قرارها، وقادةً من دون وِحدتهم، ومجتمعاً من دون رُقـيِّـه، وأجيالاً من دون آفاق. لكنهم مصممون على مواجهة هذه المرحلة مهما كبرت الصعاب. نحن لسنا أتباعَ من قال: بإيمانكم تنقلون البندقية من كتف إلى كتف، بل أتباعُ من قال: بإيمانكم تنقلون الجبال. سننقل الجبال إلا جبلَ لبنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق