الخميس، 17 فبراير 2011

مواصفات البطريرك بقلم الخوري اسكندر الهاشم


القدّيس نعمة الله الحردينيّ


لا تحسد البطريركية المارونية على موقعها الصعب، ولا يحسد البطريرك على حكم الموارنة وقياداتهم، واللحظة التاريخية حرجة ومعقدة، والشعب صعب المراس، والمنطقة على بركان، والسياسة الدولية في مأزق خطر. لبنان القابع على مفترق طرق، تولد الازمات فيه وتتشعب سنة بعد سنة لتصبح التشعبات هي الازمة بعينها، فمن صراع مسيحي مسلم داخلي الى صراع في قلب الاسلام وفي قلب المسيحية، الى انشقاق داخلي بين توجهين ومسارين لا يمكن مقاربتهما، إلا من خلال صراع دولي واقليمي يدور علناً وفي الخفاء وينعكس سلباً على واقع الوطن الصغير.
1- البطريرك القائد
في زمن توسعت فيه الديموقراطية لتشمل نواحي الحياة، اصبح من الصعب على البطريرك ان يواجه هذه العاصفة الهوجاء التي دمرت أسساً متعددة كانت لحقب طويلة مدماكاً ظاهراً في بناء لبنة العائلة والقرية والمجتمع. هذه الحرية المتفلتة من كل قيد ورسن والتي اصبحت مأزقاً جديداً يضاف الى المآزق السياسية والاقتصادية والدينية. هذه الحرية التي مزقت جهاز المناعة عند العائلة والتي ادخلت اليها قسراً كل جديد في الارض بدون استئذان عبر التلفاز والانترنت والاقمار. بحيث لم يعد سهلاً غربلتها والتمسك بالجيد منها ونبذ الرديء. هذه الحرية التي هي لب صناعة الانسان وجوهر كرامته اضحت كما هي اليوم حرية محرجة، اخرجت الجميع من عباءة المقدس واحترام القيم لتضعهم كأسنان المشط سواسية. هذا الامر المستجد لا احد يدرك نتائجه وما فيها من سلبيات وايجابيات، لكننا نعرف أمراً واحداً ان السلطة لم تعد كما كانت، لقد فقدت زهوها وطلتها ومجدها وهذا في المطلق أمر حسن وجيد، لأن أحداً لم يولد عبداً للآخر، ولكن النظام الكوني وروح الانتظام يتطلبان تراتبية وهرمية ولا يمكن تجاوزها بدون ان يترتب على ذلك خلل عضوي في مسار الجماعة والمجتمع.
2- هل البطريرك شيخ طاعن في السن
ليس البطريرك حكماً طاعناً في السن، أشيب الرأس يحمل عصا الرعاية، محدودب الظهر يمشي وئيداً هرماً لا يحسن تسلق القمم والنزول الى الاعماق والابحار في زمن الصراعات. لم يعد البطريرك وحيداً أباً دهرياً على صورة آدم وهارون وابرهيم وموسى في زمن العمل الجماعي المبرمج والمدروس والمنظم بحيث تتحول البطريركية فيه خلية نحل تطل على العالم الذي اصبح اليوم قرية كونية صغيرة تتعرف بسهولة الى عدد ابنائها المقيمين والمغتربين المؤمنين والملحدين، الاغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الجهال والعقال، وتعرف كيف تحرك طاقاتهم وتدخل واقعهم لتستنهض الهمم وتحرك المشاعر وتبلسم الجراح وتقف مع المرضى والمعوقين والفقراء. لم يعد البطريرك مدبراً وحيداً لطائفته، وسلطاناً لا يقاوم على عرش الكنيسة، بل راعياً تسانده اجواق من الرعاة الساهرين على قطعاتهم يصحون مع انبلاج الفجر للصلاة ثم بدء العمل.
3- البطريرك منهض للدين والدنيا
لا يمكن لبطريرك ان يبقى غريباً عن نقاشات عصره وثروة زمانه الفكرية والفلسفية والاخلاقية فهو بطريرك سيد مجبول بالحكمة والقامة والنعمة روحي وانساني لا يهمه الجاه بقدر ما تهمه الثقافة ولا يهمه المال بقدر ما يهمه العطاء، ومن منبره الطالع من ألفي سنة يجب أن يسمع العالم كلمة تهز مضامينها قلبه وعقله، والا يتصرف على هواه بل ينطلق من اقتناعات سامية وراسخة، بأنه مرسل ورسول ومبشر وراع ومعلم يهب نفسه للحقيقة وصون الحق والعدل ويسعى الى حمل التاريخ على كتفيه ليسير وسط العالم عمود نار يهز بحضوره الاقربين والابعدين فلا مسايرة ولا مكابرة ولا سبات عميق، بل مسكون بالله وخدمة شعبه لا ينام ومن حوله اطفال يبكون من الجوع ورجال أذلتهم الحاجة، هو المطالب بحقوقهم والراعي لمصالحهم لا يحابي الوجوه ولا يخضع لتهديد ولا ينام على ضيم قطيعه، طليعي في كل شيء، حساس الى حدود القداسة، أب حافظ لعائلته ومعلم يتكلم بصوت معلمه الالهي، بطريرك يسهم في نقاش عالمي ومحلي يطال مناحي الحياة كلها الدينية والسياسية والاخلاقية والاقتصادية، بطريرك مستشاروه لا يصفقون ولا يقبل منهم التصفيق، معاونوه يسهرون على خدمة سيدهم وصون كرامته والسهر على قول الحقيقة، سفراء الى أبنائهم والى الآخرين، ميزتهم الوحيدة التواضع والأناة والحلم وليس عبادة المال والسلطة والتسلط.
4- بطريرك لبنان 
وانطاكية وسائر المشرق

نحن في قلب المشرق، ومن أبنائه الخلص ولو جار الزمان علينا وتنكر لنا إخوة فيه، نبقى على الدوام طليعة المدافعين عن حق الانسان وحريته نقف في الطليعة مدافعين عن قضايا الانسان وكرامته واسهاماتنا لا تنطلق من اننا أقلية وفئة صغيرة، بل تنطلق من قناعة راسخة اننا من أبناء هذا البيت ومن صناع تاريخه. مجالنا الحيوي يتعدى كيان لبنان الى انطاكية وكل امكنة الشرق مواعيدنا مع الاقليات والاكثرية لنقاشات هادئة تنطلق من هاجسنا على مصير الانسان ومصير الحضارة.
 -5بطريرك الفقراء والعمال والمزارعين
حاجتنا الى الفقراء والعمال والمزارعين أكبر بكثير من حاجتنا الى الاغنياء والمترفين والساهرين للصبح، لأن هؤلاء هم الخمير في العجين يحملون الله على وجوههم وفي أيديهم، هؤلاء هم أبناؤنا واخوتنا تماما كما هم أغنياؤنا. لا يمكن للكنيسة ان تتنكر لفقرائها وبسطائها وعمالها، انهم الاقرب الى قلبها لأنهم الاكثر حاجة الى رعايتها والاهتمام بشؤونهم. هذا هو النبل وهذه هي الكرامة الكهنوتية، نحن نخرج من رحم الفقراء، ثم نتعالى عليهم، نحن نخرج من بيوت العمال والفلاحين والفقراء وهم وحدهم يمدون الكنيسة بالدعوات النقية والتقية، ثم ننسلخ عنهم ونعقد الصلح مع الاغنياء والتجار والرؤساء وننسى أننا منهم خرجنا وان لهم علينا حقا في صون كرامتهم والسهر على مصالحهم.
 -6بطريرك الاعمار والاصلاح ونهضة الريف
لا قيامة للبنان والموارنة بدون قيامة الريف. ففي هذا الريف نشأت الكنيسة ونشأ الموارنة، وفي هذا الريف الصلب والصعب واجه الانسان مصيره وفي هذا الريف كان خزان الرجال يزرعون الارض بدفء أيديهم ويخرجون الريف من الصمت لتطلع من أيديهم حكايات الجمال والخصب والصلاة فلا مستقبل بدون قرانا نعيد الحياة اليها، وعلى البطريرك ان يكون سندا للريف يحسن فن الزراعة والعمارة يدرك محاسن الجمال وروعة الارض وبهاءها يستنهض الهمم لعودة اعمار هذه القرى واصلاح تربتها وبساتينها التي أصبحت بورا وعليه أن يعيد الى شعبه ثقافة التواضع والاكتفاء الذاتي، ثقافة احترام الفلاح والعامل عبر اصلاحات وطنية تحترم حق هؤلاء. لم يعد عندنا مزارع او عامل وطني. من واجب الكنيسة وعلى رأسها بطريركها ايلاء الريف أهمية قصوى والضغط على أصحاب القرار لتشجيع الاستثمارات وتحسين وسائل الاتصال وحض مؤسساتنا التربوية والصحية والاقتصادية على اعتبار الريف ارضا منكوبة من الواجب تأهيلها وايلاؤها ما تستحق من رعاية واهتمام.
 -7بطريرك الحرية والشجاعة
في ضجيج الايام وصخب الظروف، تبقى الرجال هي الاساس في وصل ما انقطع ووضع أسس القيادة والريادة، المسيحية تؤمن بالشخصانية وهذه هي فلسفتها المفضلة، القيادة لا تنفصل عن الشخص ولو كان العمل جماعيا يبقى القائد هو المحرك والموجه والملهم. يقول احدهم "قائد بطل على جيش وعل خير من جيش بطل وقائده وعل". فالقيادة تمرس واختبار في الممانعة والقائد يسير بشعبه بصلابة الايمان وصلابة الحقيقة لا يهادن ولا يجادل ولا يماحك، لأنه مفتون بسلام شعبه وحرية أمته، وخير خرافه، يسلك امامهم مسلك العظيم الوفي، الصالح، المحب، الصبور، الصامت على جراحه الشخصية من أجل وحدة أبنائه يحمل في صدره وقلبه وضميره وجع شعبه بحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم لا يؤثر فيه اطراء او تبجيل او تمجيد، ينعش الامل في قلوب أبنائه ولا يمكنه ان يظهر ضعفه ومخاوفه امام شعبه لئلا تنهار عزائمه، عليه المضي في التفاؤل حتى في أحرج الاوقات وأدق الظروف، لانه يعرف ان الله هو من يقود التاريخ ويطبع محطاته الكبرى، وان الله لا يمكن أن يسمح بموت البريء وظلم المظلوم وسرقة اليتيم والارملة او هدم حضارة الحرية. على البطريرك ان يكون أولا وأخيرا رجلا في كل الظروف والمفارق والاوقات.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق