الخميس، 10 فبراير 2011

الموارنة والكرسي الرسوليّ أو العلاقة البنّاءة بقلم الأباتي بولس نعمان

 09 / 02 / 2011
كنيسة مار شربل - عنّايا
من مدوّنة الأب جوزف

اليوم تفرح الكنيسة المارونية وتبتهج مع أبنائها، في لبنان وبلدان الانتشار، لمبادرة وضع تمثال القديس مارون في بهو كاتدرائية مار بطرس في روما، وتعتبر هذه المناسبة من عمل الروح أكثر منها من عمل الإنسان، لأنها تكلل علاقة دهرية بين الكنيسة المارونية وكنيسة مار بطرس، عمرها نحو ألف وست مئة سنة. هذه العلاقة التاريخية نوجزها في ثلاث مراحل أساسية. 

1 - مرحلة التأسيس: أو مرحلة التلاقي حول عقيدة موحدة، وقد تحققت في مجمع خلقيدونية السنة 451. خلال هذا المجمع، تم الاتفاق العقائدي بين الآباء الأنطاكيين برئاسة ثيودوريطس، أسقف قورش، ومؤرخ حياة القديس مارون، وبين البابا لاوون الكبير، من خلال رسالته الشهيرة إلى آباء المجمع. على إثر هذا المجمع، أسس الآباء الأنطاكيون، بسماح من الأمبراطور مرسيان، ديرا على اسم الناسك مارون القورشي، في منطقة أفاميا، من سوريا الثانية، وجمعوا فيه كل الرهبان النساك، تلامذة القديس مارون، وأوكلوا إليهم الدفاع عن العقيدة الخلقيدونية الكاثوليكية التي أثبتها المجمع المذكور. هذا الاتفاق، وما تبعه من صراع عقائدي وخلافات واضطهادات، دامت أكثر من مئتي سنة، هو الذي متّن العلاقات الطيبة بين كنيسة روما والموارنة، وهو الذي أكسب الموارنة، مع الزمن، صفة مهمة تقيهم التقوقع والانزواء، وتجنبهم التحجر، وتسمح لهم بالانفتاح على كل تقدم لاهوتي، وتطور حضاري واجتماعي في الغرب. وإثباتا لهذه العلاقات نورد بعض الوثائق – الرسائل، أهمها: رسالة من البابا لاوون الكبير إلى الأسقف توادوريطس، مباشرة بعد المجمع، يطلب منه فيها أن يثابر على الدفاع عن الكنيسة الكاثوليكية بالنشاط ونقاوة العقيدة نفسها "وأن يكون يده اليمنى في الشرق لاستئصال البدع والهرطقات، كما ذكر Le Nain de Tillemont في مذكراته". بعد هذا التاريخ يحصل الفتح العربي (624-640) وتنشأ الخلافات العقائدية والسياسية بينهم وبين اليعاقبة حول الإرادة الواحدة وحول الولاء لبيزنطيا وحضارتها، الأمر الذي جعل الاتصال بروما والقسطنطينية مستحيلا، فالتجأوا إلى جبال لبنان وأوديته، وندر ذكرهم في التواريخ حتى منتصف القرن العاشر، حين ذكرهم المسعودي في تاريخه، قال: "إن دير مارون والصوامع المحيطة به دمرت من جراء الغزوات العربية وظلم السلطان". ومنه نستخلص أنه لم يبق في سوريا بعد السنة 956، وهي سنة وفاة المسعودي، إلا جماعات صغيرة. أما المرحلة الثانية، فقد كان من المفترض أن تكون زمن الصليبيين، في ربيع السنة 1099، لكن الصليبيين كانت لهم أهداف أخرى غير مساعدة المسيحيين، ولم تكد تنتهي هذه الحقبة حتى بدأ عهد المماليك، وكان من أقتم العهود، عندها رجع الموارنة إلى جبالهم وحصونهم، وبدأوا بتنظيم مجتمعهم الداخلي روحيا واجتماعيا حتى الفتح العثماني السنة 1516، وتلزيم المقاطعات إلى الأمراء.

 2 - المرحلة الثانية: أو مرحلة بناء الإنسان، وقد تحققت في عهد الإمارة بواسطة الزيارات الرسولية المتعددة، وأهمها زيارتان: زيارة الأب يوحنا إليانو من قبل البابا غريغوريوس الثالث عشر السنة 1578، وزيارة الأب إيرونيموس دنرديني السنة 1596، ومع هاتين الزيارتين بدأت النهضة العلمية والاجتماعية، وتعددت البعثات المتبادلة ما بين الشرق والغرب، التي خلقت الجسر العظيم الذي عبر عليه لبنان وحده، من بين مجموعة الأقطار الشرقية، من مرحلة القرون الوسطى إلى مرحلة القرون الحديثة. من مرحلة النسخ والنساخ واحتكار العلم والكتاب إلى مرحلة الطباعة ونشر المعرفة والكتاب. وفي السنة 1584، تأسس المعهد الماروني في روما، وبفضل هذا المعهد وتلامذته، قامت نهضة علمية تعليمية في الشرق والغرب: من مطبعة دير قزحيا السنة 1584 إلى مدارس حلب، إلى مدرسة عين ورقة أم المدارس في لبنان، فكان لتلامذة هذه المدارس الفضل الأكبر في إنشاء المدارس في كل قرية ومدينة، وتحت كل سنديانة، وكان لهم الفضل في إدخال الطريقة العلمية لترتيب وتنظيم المكتبات، تشجيعا للبحوث، وقد احتلوا آنذاك مراكز علمية متعددة، في مختلف جامعات أوروبا، كجامعات باريس وإسبانيا وروما وفلورنسا. هذا التيار المزدوج الاتجاه أحكم الصلات، وقرب المسافات، ومزج الحضارات، ففتح أمام الغرب أبوابا واسعة على الشرق ولغاته وآدابه وعلومه وأديانه، وسمح للشرق بأن ينهض فكريا وعلميا واجتماعيا. وقد علمتنا التجارب أن لنا دورا أساسيا في نقل ومزج الحضارات، وإننا نجحنا كل مرة قصدنا بذاتنا الغرب، فاغترفنا من منابعه، وإننا أخطأنا كل مرة تخلينا عن دورنا هذا وأفسحنا له أو لغيره أن ينقل ما يشاء من حضارته إلينا.

 3 - المرحلة الثالثة: أو مرحلة لبنان الرسالة، بدأت هذه المرحلة مع البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي الذي وجهه إثر محنة لبنان الأخيرة، قال: "عندما دعوت، في 13 حزيران 1991، سينودس الأساقفة، إلى جمعية خاصة من أجل لبنان، كان وضع البلد مأسوياً..."، فالإرشاد إذا يعبر عن حالة القلق والمعاناة التي عاشها قداسته خلال محنة لبنان اللا متناهية. "لذا دعوت الكاثوليك المقيمين على أرضه إلى مسيرة صلاة وتوبة وتفكير عميق، لأن صحة لبنان وعافيته وعطاءه الإنساني هي من صحة وصدق الكاثوليك وشهادتهم والتزامهم الإنجيل". فالإرشاد هذا موجه أصلا إلى الكنيسة الكاثوليكية في لبنان والمسيحيين كافة، ولكنه يشمل أيضا المسلمين والدروز واللبنانيين عامة "لأن إعادة بناء لبنان لا تتحقق إلا بمشاركة ناشطة من الجميع". فلبنان بالنسبة إليه، هو بلد حضاري، أرض مقدسة، مجتمع تعددي، وهو أخيرا دعوة خاصة ورسالة حوار. هذه باختصار، بعض خطوط من صورة لبنان، كما وردت في الإرشاد الرسولي. صورة صاغها الحب والحقيقة: حب الأب الأقدس وحقيقة لبنان، لأنه ليس ثمة غير الحب والحقيقة، وبالتالي العلم المستوحى من الحماسة، قادرا على الولوج إلى أعماق الأمور، صورة عرف الأب الأقدس أن يخرجها إلى العلن في هذا الإرشاد، وكأنه نشيد أناشيد لبنان. هذه الصورة إذا قبل بها المحيط دعوة للبنان، يبلغ معها لبنان إلى مستوى الرسالة التي عناها البابا يوحنا بولس الثاني. 
الأباتي بولس نعمان \ النهار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق