الاثنين، 3 أكتوبر 2011


صورة صفير أعطت للرداء الأحمر صبغة معينة... سرعان ما غيرتها روما
«١٤ آذار» لا تبلع حرفاً من حروف الراعي... وتراهن على معجزة



لم تصدّق آذان مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار، ما تلفّظ به البطريرك بشارة الراعي أمام الإليزيه، من مواقف بدت للوهلة الأولى، «انقلابية». اعتقدت شخصيات هذا المعسكر، التي تحفظ طريق بكركي عن ظهر قلب، وتعرف عدد شجراته، أن سيّد الصرح، لم يحضر جيدا لزيارته ولم يستشر بعض الفرنكوفونيين السياسيين وربما ارتبك أمام مستوضحيه الأجانب، وتلعثم لسانه، فنطق بغير ما اعتاد هؤلاء على سماعه من صاحب الجبة الحمراء. راحوا يعدّون للعشرة، وينتظرون عودة البطريرك «الجوّال»، على أمل اقتناص توضيح ما، يدوّزن الخطاب الباريسيّ، ويعيد أيديهم إلى الماء الباردة.
لكن، كما في العاصمة الفرنسية، كذلك على الأراضي اللبنانية: لم يجد الراعي سبباً كي يغسل يديه مما بعثره لسانه في السماء الباريسية. وما روّج له مسيحيو الرابع عشر من آّذار من «مشاريع توضيحات» أرادوها للحفاظ على ماء الوجه، بقي سراباً. لا بل تحوّلت الجولات الرعوية الرابطة بين بعلبك والجنوب، إلى منبر متنقّل يكرس الخطاب البطريركي في حلّته الجديدة... وزاد الطين بلة بعض ما تسرب من مداخلته أمام مجمع الكرادلة في روما، في جلسة مغلقة سرب محضرها السري الى بيروت، حتى خال البعض أن من يتحدث هو أحد قادة مسيحيي 8 آذار لكن بفارق أنه يرتدي جبة حمراء ويتحدث باسم البابوية.
مواقف فوق العادة أطلقها الراعي تتكرر اليوم على ألسنة الآذاريين، ليس من باب إبداء الإعجاب، وإنما من باب التعجّب. يحاولون فكفكة شيفرتها، لقراءة خلفياتها ومراميها: «سأكون الصدى للإمام المغيب موسى الصدر». «زيارة تحية لكل التضحيات التي قدمتموها وعلى كل الألم الذي احتملتموه». «إنني جئت كبطريرك لأقول لكم لولاكم ولولا صمودكم لما كنا معكم اليوم»... صوت بطريركي جديد صدح في «بريّة المقاومة»، قلب كل المفاهيم التي كرّسها سلفه لأكثر من عقدين من الزمن.
يدورون حول كلمات «سيدنا» دورات كاملة، يفندونها، يحاولون التحايل على تعابيرها، لكن من دون جدوى: سيّد بكركي صار في موقع آخر. لقد ذهب بعيداً، لدرجة يعجز فيها هؤلاء عن مسايرته ولو حتى بالشكل. عاصفة من التساؤلات اجتاحت مسيحيي المعارضة بحثاً عن إجابات تروي غليلهم: هل هي زلّة لسان رفض الراعي تصحيحها؟ هل هو تأثير بعض حلقته الضيّقة؟ أين هو الفاتيكان من «الانقلاب الأحمر»؟
اشتغلت كل الحواس عند قياديي هذا الفريق، واستنفرت كل قنوات الاتصال المحلية والخارجية بحثاً عن سيناريوهات تروي غليلهم. تغريهم العودة إلى أرشيف «سيدنا» كي لا يصدقوا ما يقرأونه نقلاً عن صاحب الغبطة. يقول أحدهم: المطران الراعي هو واحد من صقور الكنيسة. إليه كنا نلتجئ لتصليب البيان الشهري للأساقفة. هو من دفع بكركي للوقوف بوجه مشاريع القوانين المطالبة بالحقوق الإنسانية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين يوم حاول فارس سعيد وسمير فرنجية جرّ البطريرك نصر الله بطرس صفير إلى موقف مؤيد لتلك الاقتراحات. هو من وقف في صفّ الخطاب السياديّ ودافع عنه بشراسة... ألم يتهكم وليد جنبلاط يوم كان يضع شال ثورة الأرز على كتفيه على مطران جبيل وتوابعها، وقال لمنتقدي البطريرك صفير:«هل تريدون أن تأتوا ببشارة الراعي بطريركا للموارنة»؟ فما الذي جرى؟
بتقدير الآذاريين، فإن البطريرك الجديد لم يخرج عن خط 14 آذار، بقدر ما هو اخترق الخط الأزرق لبكركي الذي ثبّته سلفه منذ نداء المطارنة الأول في أيلول العام 2000. وإذا كان بعض مكونات هذا الفريق، قادرا على إيجاد أرضية مشتركة مع الراعي، في مقاربة الملف السوري تحديداً، فإن ثمة اجماعاً في الصف الآذاري على نبذ كل ما أتى على لسان البطريرك في مسألة سلاح «حزب الله».
وتجد بين الآذاريين من يتفهّم هواجس الراعي من المشهد السوري، يجارونه في الجوهر في مسألة الخوف من الأصوليات، ويشاطرونه التساؤلات حول هوية الثورات العربية وثوارها وبدائل الأنظمة القائمة، وإن كانوا يأخذون عليه أسلوبه «الخشبيّ» في التعبير. فالكتائب على سبيل المثال، تدعم حرية الشعوب في تقرير مصيرها، لكنها تفضّل عدم التدخل في شؤون الغير... لكن «المصيبة» وقعت عندما سمع مسيحيو المعارضة بطريركهم يبارك سلاح «حزب الله» ويمنحه كل الذرائع الممكنة كي يبقى حياً يرزق. قرر نقل بارودة بكركي من كتف الخصومة إلى كتف المزايدة على «أهل السلاح».
وما رفع من مسنوب التوتر لدى هذا الفريق، أن سيّد الصرح لم يتزحزح قيد أنملة عما أرساه في العاصمة الفرنسية. وما كان يؤمل منه أن يكون توضيحاً... صار من ثوابت بكركي. لا بل بات الراعي ثلاث ليال في الجنوب من دون أن يحمّل كلامه هواجس مسيحيي المنطقة، أو أن يتطرق إلى مشاكلهم، لا من قريب أو من بعيد.
مذكرات بحث وتحرّ سطرها الفريق المعارض بحثاً عن إجابات شافية. على ألسنتهم الكثير من الروايات البوليسية التي تفسّر الانتفاضة البطريركية على موروثاتها: يسألون عن قصاصة ورق حملت ملاحظات سياسية كان البطريرك الراعي قد دوّنها قبل أن تطأ قدماه مطار شارل ديغول، كان يفترض أن تتوّج خطابه الباريسي عن الربيع العربي. يقولون إن بشخصيات قريبة من سوريا ومن قوى الثامن من آذار أثرت على خطابه ودفعته إلى الارتجال. ويتحدثون عن قطبة مخفية حيكت بباريس وسبّبت «الدعسة الناقصة»... ويذهبون إلى حدّ «تبرئة» الفاتيكان من «دم» الخطاب البطريركي.
هنا، يحلو لهم أن ينسفوا كلّ النظريات القائلة ان عاصمة الكثلكة تقف وراء الكنيسة المارونية في «ثورتها». يجزمون بأن الفاتيكان غير راض عن أداء سيّد بكركي. يتحدثون عن استدعاء فوري للقاصد الرسولي في لبنان من إجازته المرضية، للعودة إلى مقر عمله فوراً، لإصلاح ما أفسده الكلام البطريركي، وذلك على أثر استنفار دولي قادته كل من واشنطن وباريس لدى الدوائر البابوية لاستيضاح أسباب «النقلة» السياسية. لكن من يسمع خطاب السفير البابوي في بيروت يجد أن الراعي يقول كلاما أقل بكثير مما يررده ممثل الكرسي الرسولي.
بتقدير البــعض في فريق 14 آذار، فإن زيارة البطريرك إلى فرنسا كانت منسّقة مع الفاتيـــكان، لكن رجل الكنيـــسة المارونـــية الأول ذهب بعيداً جداً في مواقفه، إن كان في الموضـــوع السوري أو في ملف السلاح. بحسب معطياتهم فإن الفاتيـــكان لا يقف في صـــفّ الثوار الســـوريين، لكنه ايضاً لا يريد أن يكون ملكياً أكـــثر من الملك، كما يفضّل أن يــنأى البطريرك بنفسه عن مسألة سلاح «حزب الله»، فلا يخوض غــمارها لا سلباً ولا إيجاباً.
حتى اللحظة، لم تبلور قوى 14 آذار، بجناحها المسيحي، «خطة هجومية» لاستعادة «قلعة بكركي». النقاش لا يزال قائماً بين قياداتها، والاجتماع الذي عقد مساء الثلاثاء الماضي في بيت سعد الحريري في وادي ايو جميل، لم يوفّر هذه القضية. العتب يطغى على ما عداه. يطالبون بحقهم من المعطيات التي دفعت «أبا الكنيسة» إلى وضع الموارنة بمواجهة العالم العربي وثوراته، كي يعذروه بالحد الأدنى.
وثمة رأيان يتجاذبان هذه المسألة: أحدهما يدعو إلى الردّ بالمباشر على سيّد الصرح، على طريقة ما يقال داخل الجدران الأربعة يرد عليه داخل الجدران الأربعة، وما يطلق في الهواء يردّ عليه في الهواء... والآخر يفضّل تجنّب المواجهة مع الكنيسة ورأسها، ويدعو إلى حمل الملاحظات إلى الصالون البطريركي لوضعها أمام صاحب الدار. ولهذا سقطت فكرة صياغة «بيان مضاد» لـ«لخطاب الأحمر».
ومن باريس إلى الولايات المتحدة الأميركية التي قرر الراعي حذف عاصمتها من روزنامة رحلته، جولة جديدة ستوضع تحت مجهر «خرافة» الذين تبادلوا المواقع، فصار الملاصقون لبكركي من أشد معارضيها... ومن أبعدتهم خلافات الماضي، من كبار زوارها. قبلها كان نداء الأساقفة الموارنة موضع تقويم «أهل البيت»، إذ قرأ «الآذاريون» بين سطوره خوفاً من تفسّخ «الصف الكهونتي»، علماً بأنهـــم يجزمـــون بأن البطريرك خاض «معركة» مع الأســـاقفة لصياغة هذا البيان، نظراً للمعارضة التي نشأت بوجـــهه على طاولة «رفاقه». فيما يبدو أن الرئيـــس أمين الجميل، الذي يوصف بأنه من أكثـــر المقربـــين لسيّد الصرح، كان أول من ردّ على «النداء» لافتـــاً إلى أنه «لا مجال للمقارنة بين نداء المطارنـــة الموارنة بالأمس وبين نداءاتهم السابقة»، فيما تـــبرع نجـــله سامي في اليوم التالي للرد على فريق 14 آذار مدافـــعا عن مواقف بكركي وسيدها، داعيا من يريد أن يطرح ملاحظاته على مرجعية عمرها 1500 سنة الى أن يقولها وجها لوجه.
...
وبانتظار ما سيبوح به البطريرك الراعي على أرض «العم سام»، بدت وظيفة مؤتمر «الربيع العربي» ودور المسيحيين فيه، في 23 الجاري، في دير سيدة فتقا، بحضور أكثر من 600 شخـــصية اسلامية ومسيحية، من «المجرّة الآذارية»، محاولة تقديـــم مقاربة لبنانية مناقضة لتلك التي رددها الراعي في باريـــس وبيروت، ولو أن منظمي المؤتمر هالهم أن يوضـــعوا وجها لوجه بوجه الراعي، فكان أن أوضحـــوا، لكـــن «خلاصة المؤتمر تُقرأ من هوية منظّــميه»، لا سيما «الأمانة العامة».
ومن اللافـــت للانتـــباه أن الراعي لم يأبه لمؤتمر سيدة الجبل عندما قيل له حقيقة أهدافه. وهو تشاور، قبيل سفره الى الولايـــات المتحدة، في الأمر تفصيليا مع رئيس الجمهـــورية ميـــشال سليمان الذي شجعه على المضي في خياراته، مؤكدا لـــه أن بكركي ستبقى ركنا اساسيا من أركان البنيان الوطني وهو سيكون معنيا بحماية الخيارات التي تحمي المسيحيين وكل اللبنانيين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق