الخميس، 20 أكتوبر 2011

الكاردينال صفير: الموارنة لن يكونوا بخير







جريدة الأخبار - 20 تشرين الأوّل 2011
تكاد التصريحات اليومية للبطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي تنسي اللبنانيين سلفه البطريرك نصرالله صفير، الذي كان مالئ لبنان وشاغل اللبنانيين. أين صار؟ وماذا يقول؟ فتح لنا صفير باب مقر إقامته وصولاً الى غرفة نومه، كما فتح قلبه في المقابلة الآتية التي تتراءى كخلاصة من الوصايا

كتب غسان سعود
يفتح الباب حاملاً كتاباً باللغة الإيطالية. خفّت لحيته البيضاء، وتلاشت ملامح حاجبيه. يبتسم. حتى حين تغيب البسمة حيناً من عينيه، تبقى فوق شفتيه. تقلص قامته السياسية والدينية يزيد من قصر قامته الجسدية. يبدد، بثانيتين فقط، بصباح الخير من شفتيه، آلاف الانطباعات والأحكام المسبقة. يكفي أن يردد «وصلت إلى خريف العمر» ليبدو البطريرك المتقاعد ككل مسنّ تلتقيه سواء في عائلتك يلاعب الأطفال أو قرب المنزل يخبر عن بطولات الشباب أو في حديقة الصنائع يطعم الحمام. «ننتظر اليوم الذي يأخذنا الله إليه. هذا مصير كل حي. كانت الإستقالة من طبيعة الأمور. رأيت أن من واجبي أن ألقي المسؤولية على غيري».
يُسمي الكاردينال الموت أبدية. يُدخل زواره إلى «كوريدور» ضيق، ينتظر فيه القضاء. يعتذر عن انقطاع الكهرباء، فيمازحه الزميل جان عون: «حتى الكهرباء يريدون قطعها عنك يا سيدنا». يلتقط البطريرك السادس والسبعون للكنيسة المارونية النكتة، لكنه لا يعلق. يفضل مرات كثيرة خلال الحديث أن لا يسمع، أو أن لا يتذكر. والأكيد أيضاً أن ذاكرته فقدت بعض رشاقتها. يكاد أن يمر عامان على تجاوزه التسعين. تخبر الشاميات الضائعة بين تجاعيد تتضاعف فوق وجهه، كم كانت طويلة تلك السنوات. تظهر على وجه صفير السنوات وفي خطواته البطيئة، كأنه ينقل مع كل خطوة عشرات السنين. وفي ما يخص الرشاقة، أوقفه العمر عن هوايته المفضلة: رياضة المشي. فافتقدته هذا الصيف، لأول مرة منذ ثلاثة عقود، أحراج الوادي المقدس المحيط بالديمان. آلات الرياضة المنزلية الخاصة تركها في مكان إقامته السابق. هو، بالمناسبة، لم ينته من ترتيب أشيائه في المسكن الجديد.

بعضها لا يزال موضباً في زوايا الغرفة. تجد في الغرفة الرئيسية عدة كومبيوترات، وIpad. تعرّف البطريرك قبل سنوات على العالم الالكتروني لكنه يكتفي اليوم من الكومبيوتر بملفات الطباعة. على طاولته، عدة كتب فرنسية وإيطالية وأخرى عربية مثل تاريخ بجة وبيبليوغرافيا المؤلفين الموارنة. يصر بداية على أن الكتاب المقدس هو أهم الكتب التي قرأها، لكن، وبعد إلحاح، يعتبر كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع أحد أهم الكتب التي يتوجب على الشباب قراءتها. حين يفاجأ بسؤال لم يكن يتوقعه، كتأثير دراسته الفلسفة مثلاً على تفكيره، تشتد ملامحه ويسارع إلى السؤال: شو عرّفك إنت؟. تعتقده غاضباً فيما هو سعيد، يتهيأ للتهرب من الجواب. لا يتجاوز جوابه الكلمتين، مهما بلغت أهمية السؤال.
هل يندم لعدم وجود أحفاد يلهو وإياهم في هذا الخريف؟ لا يستفز السؤال تفكيره ولو ثانيتين؛ يسارع إلى الإجابة: «لا أبداً. اخترت طريقي». ابن مارون نخول صفير وحنة فارس فهد، خيّب أمل والديه اللذين حاولا ترغيبه بالحياة الطبيعية ولا سيما الزواج خصوصاً أنه الشاب الوحيد إلى جانب ست فتيات. رفض، أصر على الاقتداء بابن عمته منصور صفير الذي كان كاهناً في كنيسة مار جرجس في بيروت. حين يُسأل صفير عمّن أثر في حياته، يكتفي بذكر ابن عمته ووالديه. ويحرص على الإشارة إلى أن والدته كانت كوالده «من عائلة منيحة». لا يتذكر حادثة عائلية مميزة، ولا يزيد حنانه لواحد منهما على الآخر. أصدقاء طفولته كتبوا أكثر من مرة عن «ضحكة نصري» وعن «الشاب الذي ينال تقدير الرؤساء والمربين وثقتهم مع أنه لم يكن هيّناً»، وعن «حبه للمزاح والضروب رغم اقتصار مشاركته فيها على التخطيط دون التنفيذ». للبطريرك الكثير الكثير من الذكريات في دير مار عبدا حيث عاش خمس سنوات بين 1932 و1937: «كنا نذهب إلى الينابيع للغسيل، كنّا نشارك في قطاف الزيتون. كان السقف يدلف في الشتاء. هناك في مدرسة هرهريا تعلمنا السريانية، ودرسنا في «الأرجوزة» قواعد اللغة العربية بشعر نظمه ناصيف اليازجي. هناك قرأ البطريرك قصة عنترة وسيف بن ذي يزن و... مجلة «المكشوف».

يستيقظ البطريرك عند الخامسة صباحاً. سريره فردي صغير، يحرص على ترتيبه بنفسه ويرفض، التزاماً بتوصيات والدته، الجلوس عليه حتى ولو بهدف التصوير. فالسرير للنوم والكنبة للجلوس. يمكن هنا التعميم. بالنسبة لصفير لكل كلمة معنى واحد وغاية محددة. بعد نداء المطارنة الشهير عام 2000، كان جواب البطريرك لكل المستنكرين، هو سؤاله إياهم: ماذا تعني عبارة لبنان دولة حرة سيدة مستقلة؟ كان يَسأل أيضاً: كيف تكون العلاقة «ندية» بين دولتين. وكيف نكون شعباً واحداً في «دولتين». كل ذلك وفق قاعدة «السرير ننام فيه والكنبة نجلس عليها». على يسار السرير، شبّاك، تظلله ستارة مغلقة غالباً، يطل على مطبخ البطريركية. قبالته مرآة كبيرة: حين يفتح البطريرك عينيه في الصباح، يرى نفسه. على يمين السرير، راديو مع مكبري صوت. أية موسيقى يسمع؟ لا شيء محدداً، كل ما تعرضه الإذاعات يسمع. في سياق الحوار لاحقاً، سيظهر البطريرك ما يشبه اللامبالاة بما يحصل حوله أو يقدم له: يسمع موسيقى الإذاعات وإذا لم تعجبه أغنية، يطفئ الراديو. يحلق حين يقرر الشماس المكلف الاهتمام به ذلك، وتكون الحلاقة على ذوق الشماس. يأكل ما تطبخه البطريركية ولم يبال بتغير الطباخة مع تغير البطريرك. إلى مائدة الغداء يلتقي غالباً البطريرك بشارة الراعي «حين يكون هنا». ويستقبل «إذا زارني أحدهم». مع ملاحظته أن «لي زواري وللراعي زواره». تجدر الإشارة هنا إلى أن البطريرك المتقاعد يتحدث بمحبة عن الراعي قلّ مثلها بين سلف وخلف في أي منصب كان.
يستيقظ ليصلي أو «لأتأمل» نحو ساعتين، يتوجه بعدها إلى الترويقة التي تتألف غالباً من لبنة وزيتون وبعض المربى، ثم يستقبل الزوار أو يكتفي بالقراءة والكتابة. لا يفضل قديساً على آخر. لا بل، يضحكه السؤال. يردد عشرات المرات في الحديث عبارة «يا أطيعة!». «يا أطيعة» رداً على التقاط الزميل هيثم الموسوي عشرات الصور. «يا أطيعة» تعليقاً على معرفة الزميل جان عون بخبايا البطريركية. «يا أطيعة» جدية أكثر هذه المرة بعد اكتشاف كتاب للنائب السابق ناصر قنديل عن العلاقات اللبنانية – السورية في مكتبة البطريرك. و«يا أطيعة» لاستغراب «الأخبار» وجود علم فلسطين، وحده دون سائر الأعلام، في مكتب البطريرك الداخلي.
في دفتر المعمودية، سماه أهله أنطونيوس تيمناً بـ «شفيع الأمور الضائعة». أما هو فاختار مار بطرس حين رسم بطريركاً ليكون الصخرة. ولاحقاً قضى خمسة وعشرين عاماً محاولاً أن يكون تلك الصخرة. حين يسأل البطريرك عن البطريرك ورئيس الجمهورية المفضلين بالنسبة إليه، لا يتردد في تسمية البطريركين الحويك وعريضة، الأول لمناداته بالاستقلال اللبناني رغم المشانق العثمانية، والآخر لأنه «بطل الاستقلال ولم شمل الطائفة المارونية». ومن رؤساء الجمهورية، هناك رئيس الاستقلال بشارة الخوري ورئيس المؤسساتية فؤاد شهاب. يقود كل ذلك إلى الحديث عمّا ميز عهده البطريركيّ من مطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال لهذا اللبنان على طريقة سلفيه المذكورين. «يا أطيعة» مجدداً. ويتابع البطريرك: «الإنسان مفطور على الحرية. ربنا خلقنا أحراراً. لا يمكن أن تستقيم الأمور في بلد مستعبد لغيره. أنا كنت ضد الاحتلال السوري، على سن الرمح». ويكمل سائلاً: «إذا البطرك لم يأخذ هذا الموقف، من يأخذه؟». يروي البطريرك في إحدى أوراق مذكراته أنه زار الرئيس سليمان فرنجية في 20 كانون الأول 1975 مبعوثاً من البطريرك خريش. وفي سياق الحديث قال صفير لفرنجية إن «حالة التوتر طالت والناس يشكون». فأجابه فرنجية: «في الدول العربية مسيحيون كثيرون ولا رأي لهم فيها. أما في لبنان فلهم رأي وهذا ما يميزهم عن سواهم. ولهذا جاء الموارنة من سوريا واعتصموا بهذه الجبال ليحافظوا على حريتهم. غبطته المسؤول الأول عن حريتهم أما أنا فلم يبق لي إلا بضعة أشهر وبعدها أذهب إلى بيتي وسأعرف كيف سأنظم حياتي على ذوقي. ولكن ليست القضية متعلقة بي وحدي وإنما بالموارنة والمسيحيين على وجه الإجمال».

يعرّج البطريرك على انقسام الموارنة بشأن أدائه في البطريركية. ويذكر نفسه بما لم يستطع تجاوزه بعد رغم مرور 22 عاماً: «جُو (جاؤوا ـــ يقصد المتظاهرين العونيين) عِتبوا، واضطريت انتقل من بكركي إلى الكرسي البطريركي في الديمان». تحولت تلك الحادثة إلى جرح شخصي؟ لا يؤكد ولا ينفي، يقول: لم يفهموا علينا. وسمير جعجع، لماذا يحظى دون غيره من الزعماء المسيحيين بهذه المحبة وهذا الاهتمام البطريركيين؟ مرة أخرى، لا يؤكد ولا ينفي. يقول: «لأن عنده مسؤولية وطنية أخذها على عاتقه. رغم كل الصعوبات، يجمع الشباب وينفخ فيهم روح الحرية التي ساهمت في تحرير البلد». أما العماد ميشال عون فينفي بغضه له، مردداً: «أنا أحب كل الناس وأريد لهم الخير».
لا يسقط البطريرك مباشرة في امتحان الاختيار بين الطائفة الشيعية والطائفة السنية كحليف للمسيحيين. يشدد على وجوب أن يكون المسيحيون مع الإثنين. و«أنا ما بفضلش أحد على آخر. لكن في ناس ينحازون لطرف خارجي. موقفي يتحدد بحسب موقفهم من لبنان». يقول إن ليس له أن يعطي أبناء الطائفة الشيعية نصائح، لكنه يعتقد أن عدد هؤلاء كثر وباتت لهم كلمتهم. من هنا ينصحهم أن يكونوا للبنان أكثر مما هم لدول أخرى، وأن يبحثوا عن مصلحة وطنهم قبل البحث عن مصالح سواه.
يخرج إلى الشرفة الواسعة، تطل على شاطئ الزوق. يعيش البطريرك أيامه الأخيرة بين مدخنتي الزوق. ينظر إلى البحر، مشيراً بإصبعه إلى سفينتين، مردداً: هاك البوابير...
من «صباح الخير» إلى «الله يوفقكم» يبدو البطريرك تعباً، قلقاً، مهموماً وغير مرتاح. تسأله عن وضع الموارنة من بعده فتنكشف بعض أسرار هذا الوجوم: «لن يكونوا بخير، ولا سيما إذا استمروا كما هم اليوم، منقسمين على كل شيء».

لا مذكرات شخصية والصحة بألف خير
يقول البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير إنه نشر نحو عشرين كتاباً، يتضمن بعضها عظاته الأسبوعية التي كان يلقيها في الصرح البطريركي، وبعضها الآخر أخبار رحلاته وزياراته الخارجية. وهو يؤكد أنه لا ينوي أن يكتب أكثر. وبشكل أكثر وضوحاً: لا نية لدى البطريرك لكتابة مذكرات شخصية. وهو، في هذا السياق، يكتفي بما كتبه عنه الزميلان أنطوان سعد وجورج عرب. بعد التقاعد اختار صفير البقاء في الصرح البطريركي في بكركي. ولكن، عملياً، هذا كان خياره الوحيد. فالمنزل الذي ورثه من والديه في بلدة ريفون، حوّله مستوصفاً خاصاً. لا يملك البطريرك شيئاً من حطام الدنيا. تمر إحدى قريباته عليه كل بضعة أيام لتأخذ ثيابه تغسلها وتكويها، فيما تهتم البطريركية بحاجاته الصغيرة. هو بالمناسبة لا يتناول دواء: «الصحة بألف خير».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق