الجمعة، 13 مايو 2011

موقعة السيّد وصفعة المطران بقلم نصري الصايغ / السفير



المطران غريغوار حدّاد
السيّد هاني فحص

لم يكن  لديه ما يدافع به عن نفسه. رجل دين، يتقن الصمت والعزلة والتأمل. إذا نطق همس، وإذا مشى خلته ظلاً خفيفاً، وإذا صلّى، التهم الفقراء كلامه كالخبز.

لم يكن لديه ما يدافع به عن جسده، عندما أقدم واحد من رعاع الدين واعتدى عليه، وهو يهمّ بدخول ستديوهات «تيلي لوميير».

هو رجل دين، يدعى المطران غريغوار حداد، الذي أفضت به جرأته على الاختلاف، وتشبثه بالمحرومين، إلى ترك سدّة المطرانية، بكل ما فيها ومن فيها... يوم ضاقت الكنيسة عليه، خرج إلى الله، فتعرّف عليه المساكين، وعقد عهده الكهنوتي على خدمة الناس. فالله، أكثر كثافة وحضوراً مع الفقراء. المكان الأكثر قداسة، هو الإنسان.
هذا الرجل، اعتدى عليه واحد «رعاعي»، ما ارتجفت يده. قبضته من تعصب وزغل. إيمانه لوثة تكفير. حاضنه عفن متراكم. وما يدافع عنه، عمى في العقل ورمد في الروح.
يومها... لم ينشق حجاب الهيكل... ولا خرجت مظاهرة استنكار. كأننا في وطن يليق فقط، بمن يدمّره ويُحتقر البشر فيه ويقيم للعهر صلواته وابتهالاته، سياسة ومروقاً في الأخلاق والقيم.
تذكرت هذه الحادثة، عندما علمت أن منزل السيد هاني فحص، وعائلته، تعرّضوا لقبضات الرعاع وعصيِّهم وغليظ قولهم. وتذكرت ان أوجه الشبه كثيرة. الأول اختلف معه أهل النفوذ والسطوة في دينه وطائفته، والثاني اختلف معه أهل الحظوة والمقام في مذهبه وسياساته.
وما تحرّك لنصرته غير قلة قليلة. علماً، ان الرجل عَلَمٌ بارز بين أعلام، سيّد في القلم وفي اللغة، ملتزم بالحرية إيماناً، وبالاختلاف نهجاً وبالاحترام سلوكاً. يقيم في أمكنته العصية على الآخرين، يكابد استقلالية، في أزمنة الاستتباع السهل. يعتزل، ولا ينعزل، يجتهد في التواصل، فبينه وبين الآخر، جسور بناها ومشاها، فكان محلّ قبول من الأبعدين والأبعدين، فلمَ تخلَّف الأقربون؟
تذكّرت الرجلين معاً، وشعرت أن انحطاطاً أصاب بلاداً ومؤسسات ومذاهب، إذ، لا يعقل، ان يصاب غريغوار حداد، ولا تثور براءة، ولا تصيح نخبة ولا يتحرك جيل. وإذ، لا يعقل، ان يعتدى على منزل السيد هاني فحص وآل بيته، ولا ترتج بيوت ولا تصدع أقوال ولا يندى جبين.
أنحن ما زلنا على شفير القيم؟ هل انحدرنا إلى أسفل السافلين؟ هل دخلنا الجاهلية الحديثة، حيث لفتوى القبائل سيادة على مقامات العقل والفضيلة والاحترام؟
لا مبالغة البتة، ان بلاداً يعتدى فيها على قديس علماني برتبة مطران ديني متحرر ومبدع وخلاق ومختلف، ويعتدى فيه أيضاً على سيد ديني ومدني له حضور مميز ومختلف، وخارج عن سياقات الالتحاق، ومتحصّن بحرية الرأي والمعتقد.. يخشى عليه من الظلامية السياسية، وهي أشدّ فتكاً، عندما تقترن بالظلامية المذهبية. 
ليس مسموحاً البتة أن ترتفع يد على مواطن عادي. نحن اليوم في زمن الثورة الديموقراطية العربية، في ربيع الحرية، في مرحلة أفول الدكتاتوريات المعتدية والسلطات السافلة. نحن اليوم، نستعيد كراماتنا كمواطنين، وطئتنا أنظمة الاستبداد وداست على حرياتنا ومعتقداتنا ومصالحنا وحقوقنا... فليس مسموحاً أن لا نقتدي بمن حوّل الساحات برلمانات شعبية، تحاسب السلطات وتدينها وتزيلها إن استطاعت، وليس مسموحاً كذلك، أن نستهين بأي إهانة لمواطن... شبعنا ظلماً وخوفاً ومهانة، غصباً عنا. وأن من لا زال يتجرأ على كرامات البشر، أن يكفّ يده ويصون لسانه ويرعوي.
إذا كانت إهانة مواطن عادي جريمة، فكيف الاعتداء على مقامات فكرية وثقافية ومدنية ودينية، جريمتها أنها ليست من «رفاق القطعان»؟
غريغوار حداد، المطران الأحمر. لم تطقه طائفته. رذلته. عزلته. فانتمى إلى بيت المسيح في قانا حيث كسر الخبز ورفع الكأس وبارك قائلاً: خذوا فكلوا... خذوا واشربوا.. ولكم تغذّت أجساد ولكم سكرت نفوس!
ولقد كان السيد هاني فحص، ولا زال، علامة صارخة في البرية اللبنانية، صاحب طريقة، لا يطلب من أحد أن يحتذيها، فلكل طريقته وخياراته. يتعاطى السياسة بحرفة المثقف، ويختار المواقع بمعرفته التامة للنواقص، كبيرها وصغيرها. السيد هاني، هل لهذا السبب، استحق العقاب نبذاً وغمزاً وحطاً فتجرأ الرعاع على استعمال القبضات؟ ماذا يضير المذاهب والطوائف إذا اختلف بعضها مع أكثرها؟ ألم تنته محاكم التفتيش؟ ألم نؤمن أن أمهاتنا ولدتنا أحراراً؟ أما بلغنا سن الرشد السياسي، حيث الخلاف يحلّ بالتي هي أحسن، وتعالوا إلى كلمة سواء... ولو على تباين وتعارض. فما نلتقي عليه، أبلغ مما نختلف فيه؟
سيُقال: المشكلة مشكلة عقار.
إن تصغير المشكلة إلى هذا الدرك، يدلّ على خبث. المشكلة أن القلوب المليانة، معبأة بغريزة الالتحاق. ولا يستوي عندهم من التحق ومن تحرر. تلك ضريبة الحرية. ولكنها ضريبة خسيسة.
أشد ما يؤلم، ظلمُ ذوي القربى.
وأبلغ ما يواسي، ان يشعر من أُلحق به ظلم، أنه ليس وحيداً. لا تتركوهما وحيدين

nsayeghassafir.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق