الجمعة، 20 مايو 2011

هل يترحّمون على حسني مبارك؟ بقلم جان عزيز



لم يعد ميدان التحرير القاهري يقدر على تعداد صدماته والخيبات، علماً بأنّ الميدان نفسه لم يعد اليوم ـــــ كما لم يكن يوماً ـــــ ساحة لمصر وحدها، بل أصبح قلباً لمنطقة بأسرها، تُقدم حين يُقدم، وتُحجم حين يُحجم، وتأمل مع بشائر أمله وتيأس بنذر يأسه.
منذ اللحظات الأولى لما بعد «الثورة»، حاول الميدان امتصاص الصدمة البكر. حين منع يوسف القرضاوي وائل غنيم من الكلام في الساحة نفسها التي شهدت «تقية» الشيخ، وحمية الشاب. والاثنان رمزان بامتياز للحدث. الأول مرجع لفتاوى الصمت، والثاني محرّك لمفاتيح الاتصال والتواصل. فحين يقدر القرضاوي على إسكات غنيم في ميدان التحرير، يكون الزمن قد مُسخ، وراحت عقاربه تمشي إلى الوراء.
بعدها جاء الاستفتاء على الدستور صدمة جديدة لقوى مصر التغيير والتحديث والعصرنة والخروج إلى نور الغد. كأن المناخ العام قد بدأ يخيّم على أرض النيل، فراحت سمومه تهبّ في أكثر من مكان. حتى تعيين محافظ قبطي لم يمر من خرم العيون الضيقة لأناس القرون الماضية. ولم يمضِ وقت طويل حتى تأكد الاتجاه، فانفجرت في إمبابا مسخرة تلك السيدة. لحظات قليلة من النار المندلعة حقداً أمام الكنيسة، كانت كافية لتظهر هشاشة تلك الصور المركبة طيلة ثلاثة أسابيع، عن قرآن وإنجيل وكليشيهات علمانية مزعومة وأخوّة وشعارات ممجوجة. قبل 25 يناير، قيل إن نظام مبارك فجّر كنيسة القديسين. بعد ميدان التحرير كيف يمكن تفسير إحراق الكنيسة؟ أليس دليلاً على أن النظام لم يسقط، أو على أن مصدر العنف والحقد والقتل والحرق، أكثر جذورية وبنيوية من مجرد شخص وسلطة وحكم.
قبل أيام جاءت الصدمة الأخيرة: السلفيون يفرضون على زمن ما بعد الثورة، وعلى أزهر ما بعد الميدان، وعلى مصر ما بعد مبارك... يفرضون عليهم جميعاً قانوناً جديداً للأحوال الشخصية أكثر خضوعاً لمفاهيم الدين والشريعة والحرفية. السلفيون الذين لم يكونوا بين شبان الجدران في الميدان، والسلفيون الذين لم يسقطوا بسواطير البلطجية، والسلفيون الذين يغنّون للثورة ولم يهزجوا للتغيير ولم يرقصوا في عرس الفجر المصري الجديد، السلفيون أنفسهم فرضوا إلغاء القانون السابق، وبدء الإعداد لقانون جديد، يكون أكثر «حنبلية» في تطبيق الشريعة على حياة الشخص الإنساني، وعلى حياة المواطن المصري، في كل ما يتعلق بمسائل لصيقة الانبثاق بضميره الشخصي الحر، وبحقوقه الأصيلة وبكرامته الإنسانية الثابتة وغير القابلة للتنازل.
والمصادفة المفارقة في الحدث، أن القانون السابق الذي «يثور» ضده السلفيون معروف باسم قانون سوزان مبارك، فيما كانت سيدة مصر الأولى السابقة تخضع للمحاكمة على أيدي عسكر النظام الجديد ـــــ القديم. كأنما حدث الميدان التاريخي قد تحول في أسابيع إلى عملية تقاسم لتركة السلطة البائدة، لا غير ولا أكثر. تماماً وفق مقولة «حالكم في الجاهلية كحالكم في الإسلام»، أو أسوأ منها، أو أسوأ ممّا كان.
أين الكارثة في ذلك؟ أولاً أن تنحر ثورة رائعة بهذا الشكل. ثانياً، أن يسير الزمن المصري والمشرقي القهقرى، من قرون وسطى إلى قرون أسبق. ثالثاً والأهم، أن تكون الاستراتيجية الأساسية للمحافظين الجدد في جوهر فكرهم، قد نجحت، أو كادت تفعل. فمنذ سقوط جدار برلين، قيل في واشنطن إن «عدوّنا» السابق قد انهار نتيجة سياستنا الحِصارية عبر «الاحتواء المزدوج» لحدوده. وهي النظرية التي أسّست لمشروعي «مارشال» في غربي موسكو، و«منظمة المؤتمر الإسلامي» شرقيّها، بحيث يوضع المارد الأحمر بين فكي كماشة الليبرالية المسيحية في أوروبا الغربية، والأصولية الإسلامية في آسيا، حتى يختنق ويسقط. وبعد سقوط جدار برلين، قيل في واشنطن أيضاً إن «عدوّنا» الجديد ـــــ أي الإسلام الحركي السياسي ـــــ يجب أن يحاصَر وأن يعدَّ لانهياره. لكنه عدوّ من النوع الذي بلا حدود. وبالتالي، فأي احتواء مزدوج له لا يمكن أن يكون من خارجه، بل من الداخل. هكذا ولدت نظرية تفجير الإسلام ذاتياً، بصاعق أصوليته لا غير، وعلى خطّي تناقضه: خط الصراع المذهبي بين السنّة والشيعة، وخط الصراع العرقي بين عربي وغير عربي، ضمن إمبراطورية المارد المستيقظ من عتمة التاريخ. وقيل في واشنطن كذلك إن تلك النظرية كانت المكتوب المستور خلف كل الحروب الأميركية غير المفهومة للبعض، من كابول إلى بغداد، ومن استعداء طهران إلى دفع الاقتداء باسطنبول.
بعيد 25 يناير، بدا للجميع أن ثمة خياراً آخرَ لأناس هذه المنطقة. خيار أكثر إنسانية وعصرنة وحداثة وآنية واستقبالاً لزمن الما بعد، قبل أن يعود أهل الظلمة والظلم لخنقه، وقبل أن يغطّوا فعلتهم بمحاكمة أشخاص وتأبيد نظام. الذين يدركون سر حركة التاريخ، يخشون اليوم أن يفيق مصري في يوم قريب، مترحّماً على حسني مبارك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق