الخميس، 22 سبتمبر 2011

بغاضة التسمية بقلم سمير عطاالله - النهار - 21 أيلول 2011



عام 2001، عبر روري ستيوارت (الآن نائب بريطاني) الاراضي الايرانية قاطعا 2000 ميل مع مرافقه الرسمي. اولا على بغل، ثم مشيا لأن المرافق تبرم، قائلا ان الناس تنظر الى البغالة على انهم مهربون، إما للأفيون من افغانستان وإما للبضائع المزورة من العراق. عندما وصل ستيوارت الى قرية "غوز هاسلي" على الحدود التركية، سأل عن معنى الاسم فقيل له "الفتاة ذات الصليب"، فأدرك ان القرية كانت ارمنية قبل مجازر القرن الماضي. ولما اقام فيها بضعة ايام رأى انها مؤلفة من الهويات الآتية: اكراد، فرس، اذريون – اتراك، ولور، يتوزعون على 60 منزلا.
"غوز هاسلي" هي صورة الشرق، هذه الفسيفساء المتناحرة، المتقاتلة، المتنازحة، المتجاورة والمتصالحة، على ارض تغيرت فوقها الامبراطوريات والموجات، اقامت فيها روما واليونان وفارس وبنو عثمان، وعصف بها هولاكو، وهزم فيها الافرنج. اللوحة على مدخل بيروت عند نهر الكلب، ليست سجل انتصارات لمن جاء ومن ذهب، بقدر ما هي تدوين لتواريخ بشر لا علاقة لنا بهم، الا من حيث اننا موقع جغرافي ممتاز. الى درجة لا تطاق.
فيما عدا ايسلندا، جزيرة السأم والبراكين، ورئيسة الوزراء التي قرع بابها رجل تعطلت سيارته فخرجت بالروب دو شامبر واصلحتها له، كل بلدات العالم مثل "غوز هاسلي" خليط انساب واعراق وموجات تهجير وهجرة. فالعالم الغربي، او العالم الاسلامي، او آسيا عبارة عن خلائط من الاقليات والاكثريات. ولو تنبه الاتراك في غمرة المجازر لكانوا غيروا اسم "غوز هاسلي"، وتأكدوا من الا تسكنها لاحقا مجموعة هويات عرقية ودينية وثقافية.
الديموقراطية ليست سحرا ولا بلسما ولا علاجا نهائيا لآفات البشر وغرائزهم ونوازعهم العدوانية. لكنها استطاعت، بعد حربين عالميتين، ان تحل بعض المشكلة. فقد انتهتا الى ان "الجنس الاري" ليس متفوقا على احد، والى ان امبراطور اليابان رجل يصاب بعسر الهضم، وليس إله الشمس. وكان يشوع بن نون قد اوقفها بيده، ثم تبين انها واقفة ونحن الذين نتحرك. وفي الاسبوع الماضي اعلن العلماء ان في هذا الكون العجيب شمسين لا شمسا واحدة، مرة يدعيها هيروهيتو، ومرة لويس الرابع عشر.
حلت الديموقراطية مشكلة التعدد والتنوع بعد الحربين على غرور التفوق وعجرفة التميز الفارغ. فأكبر علماء العصر، ليس ضابطا اشقر ازرق العينين في جيش هتلر بل انكليزي ولد غير قادر على الحركة. والمتفوقون في العلوم في جامعات اميركا صينيون. وفي الجامعات نفسها 800 الف هندي اسمر او احدق قليلا. لكن اهم مثلين على ذوبان عنصرية الاكثريات والاقليات، هما اميركا والهند. الاولى صار رئيسا عليها ابن كيني مسلم، والثانية وصل الى رئاستها رجل من طبقة "المنبوذين". وفقط للمناسبة، اكبر قوة صناعية في بريطانيا اليوم، هم الهنود. السلام على زمن الافيال والمهراجات.
في اميركا الوسطى، اغنى رجالها (ورجال العالم) ابن مهاجر لبناني. احتل الاسبان المكسيك بذبح خمسة ملايين انسان، واحتلها اللبنانيون بـ"الكشة".
معانا بكر، معانا خيطان، معانا كشاتبين!
يتساءل المرء في غمرة الحديث العارم هذه الايام عن السيوف التي تلمّع لـ"الاقلية المسيحية، كيف يمكن ان اكون اقلية مهددة في بلدي وارضي، فيما جاري وابن منطقتي، اغنى رجل في اميركا اللاتينية؟
اذا كنت سأظل ادعى "اقلية" فوق هذا التراب "فاللعنة عليه. سوف اذهب الى اي مكان آخر لا اعرف فيه بطائفتي ومنطقتي والزعيم الذي يشرفني بالركوب على كتفي. للبطرك ان يتخذ من المواقف ما يشاء. فلا شك في انه تحت سقف الفاتيكان. وللفاتيكان رؤية مشرقية، ليس حيال المسيحيين، بل حيال المسلمين. ولعلها ارقى وابقى من جميع العصبيات الصغيرة او من رؤية لبنان من اعالي الجرود. ولكن اذا كان البطرك الراعي ومن خلفه الفاتيكان، يريدان الدفاع عن حقوقي كـ"اقلية"، فسوف ابحث عن دين وبلاد لا اكون فيها اقلية ولا منبوذا. كالهند مثلا. وعندما يدافع بطرك الموارنة عن مستقبل الاقليات المسيحية، ارجو الا يحسب حسابي. فهذه ارضي، ولا منة الا لترابها. وقد سئمت، عذرا، الصكوك التي تعطى لي وشهادات الجدارة: زمنا من مصر، ومرة من العراق، وعهدا من منظمة التحرير، ومن سوريا، ومن محمود رياض، ومرة من مدير مكتب الامين العام بعدما ملّ الدكتور عمرو موسى المجيء وصار يبعث الينا مدير مكتبه، ضنا بالوقت.
لئلا يعتقد البطرك الراعي، او اي سيد ممن يقرأون هذه الخواطر، ان الموقف استجد بناء على تصريحاته في فرنسا، اعيد خلاصة ما كتبته قبل سنوات كثيرة في هذا المكان: في القمة الروحية في الكويت عام 1988، قلت للمفتي الراحل حسن خالد، في حضور الجميع: سماحتك قلت في عرمون، بداية الحرب، فليذهبوا الى روديسيا. نحن لسنا مستعمرين. نحن اهل ارض ولم نأت مع ريتشارد قلب الاسد او غودوفروا دو بويون. جذورنا في تكريت عند صلاح الدين، وفي تهامة، وفي تدمر. واما اننا من دين مختلف فالحكم بيننا هو "الكتاب" وليس روديسيا. فلنعِد قراءة القرآن.
في تلك القمة الروحية ايضا، قال لي البطريرك اغناطيوس هزيم ما ليس ينسى وما يجب ان يتذكره المدنيون والدينيون: "في معرض الصراع على القدس والجدل حولها، ينسون اننا اصحاب الجلجلة، وان عمر رفض الصلاة في كنيسة القيامة، او حتى في ساحتها، لئلا تحول بعده مسجدا. ينسى الجميع اننا اهل ارض في هذا الشرق المقدس".
لسنا اقليات. نحن مجموعات عربية صدف انها اعتنقت المسيحية قبل ظهور الاسلام. ولسنا طارئين بل من هذا الطين. ولسنا غرباء. ونرفض هذه التسمية من اين اتت، لا على سبيل الشفقة ولا على سبيل المنة ولا على سبيل الرعاية او الحماية!
هذا شرق هو شرق الاقليات وغربها، مثل "غوز هاسلي". مثل طهران. مثل اسطنبول. مثل الموصل. مثل حلب. مثل دبي. وارجو ان تكفوا عن تسميتي اقلية بين اربعة ملايين مواطن فيما ليس كارلوس غصن اقلية بين 170 مليون برازيلي. انا احب ان اتذكر دائما ان صلاح الدين كان كرديا، وطارق بن زياد كان بربريا. الاول هزم الصليبيين والثاني اتخذ الاندلس. ولم يدقق احد في هويتهما، لان العرب كانوا اكثر وحدة وكانوا اكثر سماحا.
الاقلية الوحيدة في الشرق اليوم هي تلك التي ترفع مُثُل صلاح الدين وقيمه. والباقي امة مهزومة مجرّحة ودامية تخرج الى استقبال احفاد ريتشارد وغودوفروا على انهم حرروها من ظلم الحاكم الوطني واذلاله. هتفت ليبيا للرئيسين الفرنسي والبريطاني، في يوم مرور 80 عاما على استشهاد عمر المختار على ايدي الفاشية الايطالية. كنت قلت الاسبوع الماضي اننا صرنا نشتهي العودة نصف قرن الى الوراء، لكن هذا حال الامة ايضا. هل رأيتها تخرج مصفقة لرجب طيب اردوغان؟ هل سمعت "مؤذن اسطنبول" يقول لمستقبليه من "الاخوان" ان لا ضير من العلمانية، فهذه بلاده تعمل بدستور علماني وحكومة اسلامية.
قبل ان يأتي اردوغان الى مصر محدثا عن العلمانية صدرت الشهر الماضي عن الازهر مذكرة تاريخية تدعو الى الدولة المدنية. فالخلاص من عنصرية الاكثريات والاقليات وهمجيتها، لا يكون الا بالمجتمع المتحضر ودولة المساواة. ولا يمكن ان يخرج شعب من كهفه، اذا كان منقسما الى مرضين: عقدة الاكثرية المتسلطة والعمياء، وعقدة الاقلية، الهزيلة والمتربصة، او التي كانت تسمى من قبل "البيئة الحاضنة"، دلالة على ان الخيانة والعمالة لا تخصبان الا عند الاقلية المسيحية وغيرها. لذلك اختار الراحل "ابو اياد" ان تمر طريق فلسطين من جونيه، على اساس ان المسابح هي العائق الوحيد في الزحف نحو القدس. نسي صديقنا الراحل في ذروة الزحف على الحاجز الاخير في وجه العودة، ان اول نذير الى اهل فلسطين خرج من تلك "البيئة الحاضنة". لم ارَ ندماً على وجه كما رأيت على وجه الراحل صلاح خلف عندما قلت له 1983، على شرفة جريدة "الانباء" في الكويت: ألم يكن افضل لك ولي، لو اننا لا نزال في لبنان؟
لم يفرحني ابدا ندم "ابو اياد". اللهم أبعد عنا الشعور الصغير بالشماتة. وانما كنت على اقتناع بأن هذا البلد الصغير قام من اجل ان يتسع للجميع، لا يخاف فيه احد ولا يتسلط فيه احد. رفض معمر القذافي عندما جاءنا الا ان يركب سيارة مكشوفة. ووضع في ما بعد ثمنين: واحدا لجثة العميل وواحدا لجثمان الشهيد. واللهم لا شماتة، اذا كان اليوم في سيارة مخبأة ومموهة ولها سقف مصفح. ليست هذه لعنة لبنان. هذه لعنة الظلم والقهر والغرور والعجرفة الخاوية مثل الطبول عندما تنفخت.
سمير عطاالله     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق