الجمعة، 28 يناير 2011

نظرة إلى الخصوصيّة اللبنانيّة بقلم الأديب أنطوان الدويهي


هذا هو لبنان

 نظرة إلى الخصوصية اللبنانية:
معنى التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة

مداخلة في مؤتمر " بيروت رائدة الحريات في الشرق "، الحركة الثقافية – انطلياس بالإشتراك مع وزارة الثقافة اللبنانية، بمناسبة إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009، مقر الحركة الثقافية – انطلياس، من 5 إلى 7 تشرين الثاني 2009 -



1 – الخصوصية اللبنانية؟ إنها، أولاً، معطى طبيعي، خصوصية طبيعية. يكفي أن ينظر المرء من الجو ليدرك ذلك بوضوح تام. جبل شاهق منتصب وحيداً بين صحارى المشرق والبحر المتوسط. لكن هناك معطيات طبيعية أخرى تميّز جبل لبنان وتعزّز خصوصيته. فليس هو بالمرتفع الأجرد ولا القاحل، بل جبل غني بالغابات والثلوج ومنابع المياه والأودية والسفوح والتلال الخضراء، تتوافر فيه الموارد والشروط والمناخات الملائمة للزراعة والحياة والدفاع عن الذات. ثم أنه، جغرافياً، جبل قائم مباشرة على شاطئ البحر، يفصله عنه شريط أرضي ضيّق. وهو، جغرافياً أيضاً، وفوق كل ذلك، يملك موقعاً مميزاً في آخر أراضي آسيا وأول المتوسط المفضي إلى أوروبا والغرب. هذه الخصوصية الطبيعية والجغرافية جعلت من جبل لبنان وشاطئه وسهله منذ اقدم الازمان، مساحة تلقٍّ واحتضان وتوليف خلاّق، ونقطة إلتقاء فريدة بين حضارات الشرق الأوسط ، وبينها وبين الحضارات الأوروبية. لو كان جبل لبنان قائماً في الداخل، على بعد عشرين أو ثلاثين كلم فقط عن البحر، لتغيّر كلّ شيء فيه وحوله، بشرياً وتاريخياً وثقافياً. ولو كان من الجبال القاحلة، لتغيّر كل شيء فيه وحوله أيضاً.

- 2 – في موازاة هذه الخصوصية الطبيعية والجغرافية، خصوصية المكان والموقع، يتمتع لبنان اليوم، رغم كل أزمته، ورغم صعوباته الأمنية وتناقضات مجتمعه، بخصوصية ثقافية فريدة. إنه مكان الحرية الأوحد في المشرق. إنه يحتضن ثقافة الحرية ونمط عيشها. ظاهرة نادرة الحدوث خارج المجتمعات الصناعية. وظاهرة تكاد لا تُصدّق وسط هذا المحيط المغلق من الأنظمة السلطوية والأمنية، أو بإختصار، وسط نظام الإستبداد الشرقيّ. إنها الأعجوبة المشرقية عينها. يكفي أن ننظر إلى أي جانب من حياتنا اليومية لندرك هذه الأعجوبة. أن تكون في الشرق، وترقد كل ليلة حراً منذ ولادتك وتنهض كل صباح حراً. تقرأ ما تريد، وتقتني من الكتب ما تريد، دون خوف. تعلن رأيك، قولاً وكتابة، دون تردد ولا خشية. تسافر وتعود إلى حيث تشاء، ومن حيث تشاء. تمارس العمل الذي تريد. تنقل إلى اولادك التربية التي تريد. تمارس حريتك الفكرية والدينية بلا نقصان. حركة ثقافية مثل هذه الحركة التي نحن الآن فيها، على سبيل المثال، لا يمكن أن توجد في غير المكان اللبناني، من هنا، من هذا الشاطئ، إلى أقاصي آسيا. جمهور مثل هذا الجمهور، المتعدد، المتنوّع، المتحاور، المالك حرية التفكير والرأي، غير المراقب، غير الخائف، لا وجود له في الشرق إلاّ في المكان اللبناني. أي مقهى تلج إليه وانت خارج من هنا، بجوه، وناسه، واحاديثه، وألوانه، يمكنك أن تجتاز أراضي الشرق كلها دون أن تجد مثيلاً له. والتفاصيل كثيرة والأمثلة لا تحصى، عن ثقافة الحرية اللبنانية ونمط عيشها.

- 3 – الخصوصية الطبيعية والجغرافية لجبل لبنان من جهة، وثقافة الحرية ونمط عيشها من جهة أخرى؟ هل هذه الثقافة هي نتاج هذه الطبيعة وهذه الجغرافيا؟ الأمر ليس بهذه السهولة وهو أكثر تعقيداً بكثير. فالحتمية الطبيعية والجغرافية لا تكفي وحدها لتفسير ثقافة الحرية في لبنان. هناك الفعل البشري أيضاً، القائم في الحاضر والمرسوم في التاريخ، وهناك الظروف والعوامل المختلفة. من هنا التساؤل حول معنى التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة. لماذا القرون الأربعة الأخيرة؟ لأنه منذ القرن السادس عشر حتى اليوم، ينطوي مسار الأحداث ومجرى التاريخ في المكان اللبناني على معنى واضح. ليس ذلك صدفة. بل لأن هذه القرون الأربعة تشكّل وحدة تاريخية. إنها مرحلة الأزمنة الحديثة. في الغرب، أوروبا الناهضة، الخارجة من القرون الوسطى إلى الحداثة. وفي الشرق، العصر العثماني الحالّ محل العصر المملوكي. وعلاقة كل ذلك بمجتمع جبل لبنان. ولماذا القرون الأربعة الأخيرة ايضاً؟ لأنه يتعذّر تماماً فهم الأزمة اللبنانية العميقة الراهنة، في إطار الحاضر، أو الماضي القريب. فالفكر السياسي السائد حالياً في لبنان لا يعود عادة في نظرته إلى الوراء لأبعد من ميثاق 1943، أو ربما في أفضل الأحوال، لظهور " لبنان الكبير " عام 1920. ووراء ذلك، غالباً ما يصبح هذا الفكر غارقاً في الضباب. لكن هذه العودة إلى الماضي المباشر لا تكفي قط لإدراك ما يحدث. فلفهم الأزمة اللبنانية الحاضرة، ولمحاولة إدراك مصيرها ومآلها، لا بد من البحث عن معنى التاريخ اللبناني على مدى الأزمنة الحديثة.

 - 4 - منذ أن تسلّم فخر الدين المعني الثاني الإمارة عام 1591، ومنذ قيام المعهد الماروني في روما عام 1584، حتى اليوم، كيف نفهم هذا التوالي الطويل والمعقّد من الأحداث، المتداخلة فيه العوامل المحلية بالعوامل الخارجية، الملتقية فيه الإنجازات بالإهتزازات والمآسي، الذي طالما شغل المنطقة والعالم؟ معظم المؤرخين يعرض الأحداث دون أن يبحث عن معناها. والذين بحثوا عن معنى الأحداث، يمكن أن نوزّع أراءهم على توجهات أساسية ثلاثة:
 1- النظر إلى احداث جبل لبنان ومحيطه المباشر من زاوية الصراع الإقليمي والدولي ، أو من زاوية الصراع مع الإستعمار.
 2- النظر إلى هذه الأحداث من زاوية علاقات التنافس والتوافق، السلم والفتنة، بين الطوائف اللبنانية نفسها.
 3- النظر إلى هذه الأحداث في ضوء مفهوم صراع الطبقات. مع أن هناك نسبة ما من الصحة في كل من هذه التوجهات، فهي لا تطال المعنى العميق للتاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة. إن التحليل الدقيق لمسار الأحداث في المكان اللبناني منذ أواخر القرن السادس عشر حتى اليوم يقود إلى الإستنتاج الرئيسي الآتي: إن المعنى الحقيقي للتاريخ اللبناني في الأزمنة الحديثة هو التوق الدائم، الثابت، إلى الإنعتاق من نظام الإستبداد الشرقي، وهو التوق إلى أفق وجوديّ مختلف، هو أفق الحرية، وهو أفق الحكم الذاتي والإستقلالية، وهو أفق الإنفتاح على العصر والحداثة والعالم، والبحث عن تحسين نوعية الحياة البشرية.

-5 – ما هي العوامل والمعطيات التي دعمت حركة الإفلات من نظام الإستبداد في المكان اللبناني؟ هذه العوامل مختلفة تماماً عن تلك التي أدّت إلى تكوّن ثقافة الحرية والديمقراطية وتطورها في أوروبا. المسار اللبناني لا ينطبق قط على النموذج التاريخي الأوروبي. المسار الأوروبي هو القاعدة في هذا المجال، والمسار اللبناني هو الإستثناء، أحد الإستثناءات النادرة خارج المجتمعات الأوروبية والصناعية. في الحالة الأوروبية تكوّنت ثقافة الحرية بفعل مسار تاريخي معروف انطلق مع النهضة الأوروبية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر التي أنهت القرون الوسطى وفتحت أبواب الأزمنة الحديثة. وقد أنبثقت عن ذلك تحولات كثيرة: الإنتقال من المحور الإلهي إلى المحور البشري ومن أولوية الحياة الأبدية إلى أولوية الحياة الأرضية، ظهور العقل النقدي الذي احتل هامشاً خاصاً به في موازاة الهامش الديني، بلورة مفهوم التقدم، ظهور البورجوازية التي سيكون لها دور أساسي في قلب الأوضاع، الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، حركة التنوير، إنفصال العلم عن الفلسفة وتكرّس المنهج والحقيقة العلميين، الثورة الفرنسية الكبرى التي أسقطت للمرة الأولى النظام القديم، الثورة الفردية التي حررت الأفراد من أطرهم المجتمعية التقليدية، وغير ذلك من الظواهر التي لم يعرفها المكان اللبناني. أما العوامل التي إنطلقت معها حركة الإفلات من الإستبداد الشرقي وحركة تكوّن ثقافة الحرية في المدى اللبناني فهي الآتية: إضافة إلى الخصوصية الطبيعية والجغرافية التي أرتكزت عليها هذه الحركة، هناك الفعل البشري، وهناك الظروف والعوامل التاريخية التي يمكن إختصارها على النحو الآتي:
1- تقاليد الحرية الجبلية القديمة المستندة الى طبيعة المكان – الحصن، والملازمة لنمط التوزّع السكاني – الجغرافي ولنمط التنظيم المجتمعي في جبل لبنان القديم، حيث تكثر القرى المكتفية ذاتياً وأمنياً، وتضعف البنية المركزية والسلطة الإقطاعية.
 2- التحالف الطويل الأمد بين قوتين رئيسيتين في مجتمع الجبل: الأمراء المعنيون ثم الشهابيون من جهة، والكنيسة المارونية من جهة أخرى.
 3- العلاقة الفريدة في الشرق بين الكنيسة المارونية وروما، التي فتحت مجتمع جبل لبنان على الغرب الأوروبي، أي على الحداثة، في وقت جد مبكر، قبل أكثر من قرنين على حملة بونابرت على مصر، في زمن أصبحت فيه أوروبا هي محرِّك التاريخ الجديد، ومصدر التقنيات والمعارف.
 4- الحكم الذاتي النسبي الذي تمتعت به إمارة الجبل، ثم المتصرفية على مدى٣00 عام.
 5- المعادلة الجديدة التي نشأت في المتوسط بين النفوذ الاوروبي الصاعد والنفوذ العثماني.
 6- تحوّل مجتمع جبل لبنان، ثم بيروت زمن النهضة، إلى مركز فريد للطباعة والتعليم والمنهجيات الجديدة في الشرق وتمتعهما بالإزدهار الاقتصادي والتجاري والعمراني والثقافي، على نحو عز نظيره في السلطنة العثمانية، وتحوّلهما جسر إتصال بين أوروبا والداخل المشرقي.
 7- التوازن بين الطوائف المقيمة في المدى اللبناني. ولولا هذا التوازن – الذي لا مجال للتعايش الحقيقي من دونه – لما تكرست ثقافة الحرية اللبنانية.

- 6 - لكن هذه الحركة، حركة الإنعتاق من نظام الإستبداد لم تكن يوماً بالأمر السهل. كانت هناك في مواجهتها على الدوام، حركة اخرى مناقضة لها، تعمل على دمج المكان اللبناني في هذا النظام. إن بنية التاريخ اللبناني في القرون الأربعة الأخيرة قائمة على الصراع بين هاتين الحركتين. فهذا الصراع هو معطى بنيوي ثابت نجده في اواخر القرن السادس عشر، كما في كل وقت، كما اليوم. وحركة الدمج في نظام الإسنبداد الشرقي ليست خارجية فقط، كانت لها دوماً ولا تزال امتدادات وقوى تعمل لها في الداخل. إن الصراع الطويل، المستمر بين هاتين الحركتين، حركة الإفلات وحركة الدمج، هو الذي يحكم القوى المجتمعية في المدى اللبناني، بثوابتها وتحولاتها. كل الخلافات والتجاذبات والتحالفات والتناقضات والأفعال وردود الأفعال، تندرج بصورة واعية أو لا واعية في الصراع بين هاتين الحركتين، في كل مراحل الماضي، واليوم ايضاً. فهذا الصراع هو الأساس. وتقلبات الزعماء والجماعات، والصداقات والعداوات الدائمة التحوّل، واحلام السلطة الشخصية، والأفكار، والمخططات الصغيرة والكبيرة، والمؤامرات، وأعمال العنف، إنما تصبّ من حيث يدري أصحابها أو لا يدرون، في هذا الصراع. لذلك في الماضي، كما اليوم، يمكن أن يندرج أشخاص ووراءهم جماعاتهم في موقع مناقض لحركة الإنعتاق التاريخية، بفعل أطماع السلطة، وبفعل المصالح الضيّقة، وردود الفعل والأحقاد، وتصفية الحسابات، فيستقوون بحركة الدمج في نظام الإستبداد ويقوّونها، وهم يدرون أو لا يدرون. كما يمكن أن يحدث العكس. فيكفي إغتيال كبير من هنا، وشهوة سلطة شخصية من هناك، ومخاوف أمنية من هنالك، حتى تنتقل أحياناً جماعات واسعة من موقع إلى آخر ضمن هذا الصراع نفسه. فكل هذه الأحداث التي لا حصر لها هي بطبيعتها متقلبة، متغيّرة، عابرة. اما المستمر والثابت فهو الصراع البنيوي بين الحركتين: حركة الإنعتاق، وحركة الدمج.

 - 7 – إلى أين هذا الصراع؟ إن حركة الإفلات من نظام الإستبداد نحو أفق وجودي مختلف، التي نشأت وتطورت في المدى اللبناني، هي حركة بالغة الصعوبة. لأنها فريدة، ومعزولة، ولا حليف لها في محيطها. لا حليف حقيقياً لها لا في الماضي ولا في الحاضر. ولأنها حركة تتوق إلى نظام الحريات، والتعدد والإعتراف بالآخر، والإنفتاح، والحداثة، في محيط سلطوي أمني، لم تتغيّر نظرته إلى السلطة وإلى الإنسان في جوهرها، منذ القرن السادس عشر. ولقد مرّت عليه ثقافة الحداثة، أقلّه حتى الآن، مرور الكرام. وقيام الكيان العبري في فلسطين في العام 1948 زاد مصاعب الحركة اللبنانية تعقيداً. أدّى إلى سدّ المنفذ اللبناني على فلسطين، فأصبح المنفذ السوري يتحكّم وحده بلبنان على مدى حدوده البرية الشمالية والشرقية. كما أدّى إلى تواجد مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية، وما نتج عنه من مشكلات ومآسٍ. وفوق كل ذلك تكنّ إسرائيل لأسباب عديدة، على المدى الإستراتيجي، العداوة للخصوصية اللبنانية، وتلتقي موضوعياً بصورة أو بأخرى مع كل من يعادي هذه الخصوصية. لكن رغم كل هذه الصعوبات، ما يعزز الثقة بالحركة اللبنانية أنها تستند، اولاً، إلى معطيات راسخة، طبيعية وجغرافية وتاريخية وثقافية وإنسانية. وما يعزز الثقة بالحركة اللبنانية انها عرفت في الماضي البعيد والقريب، ظروفاً هائلة الصعوبة والخطورة، كانت تبدو معها في كل مرة على وشك الإنهيار التام. لكن في كل مرة كانت تتجاوز مأزقها بسحر ساحر، وتنطلق من جديد. من كان يراهن على قيامة هذه الحركة، على سبيل المثال لا الحصر، في العام 1613 المأسوي الذي عرف بِ " عام حافظ " نسبة إلى والي دمشق الذي اجتاح إمارة الجبل بمؤازرة العديد من القوى المحليّة المناوئة لفخر الدين المعني الثاني؟ ومن كان يراهن على قيامة هذه الحركة في العام 1635 حين انتهى حكم فخر الدين بإعدامه في اسطنبول بعد أن كان سبقه إلى الموت قتلاً مجمل أفراد عائلته؟ ومن كان يراهن على قيامة هذه الحركة بعد الصراع الداخلي العميق بين المكوّنين الأساسيين لإمارة الجبل، والذي انتهى إلى مذابح 1860 المروّعة بمباركة العثمانيين؟ ومن كان يراهن على قيامتها في الأعوام 1915 – 1918 المرعبة حيث ادّى الحصار التركي لجبل لبنان إلى إبادة ثلث سكانه لتدفيعهم ثمن هذه الحركة نفسها؟ ومن كان يراهن على قيامتها في العام 2000 حين باتت هيمنة النظام السوري على لبنان شبه مطلقة بموافقة أميركية واوروبية؟ ومع ذلك، في كلّ مرة كانت هذه الحركة تنطلق بصورة مدهشة من جديد.

 - 8 – ومن يراهن اليوم على هذه الحركة، حيث تقوم على أرض لبنان دولتان تتنازعان السيطرة عليه أو تحاولان التوافق على حكمه، دولة لبنان ودولة حزب الله، وحيث الحكومة والسلطات والمؤسسات والأجهزة التابعة لها تبدو شبه مشلولة، وحيث التهديدات الإسرائيلية، والإختلالات الأمنية، والتدخلات الخارجية؟ هل يمكن الجمع في المدى اللبناني بين نظام الحريات من جهة، والأمن والاستقرار من جهة أخرى؟ هذا هو السؤال. ان النظام الأمني يوفّر الإستقرار، لكنه يقضي على الحريات، ويحوّل لبنان مكاناً مشابهاً لأنظمة محيطه. حينئذٍ تكون انتصرت حركة الدمج على حركة الإنعتاق، ونكون فقدنا روحنا. أما نظام الحريات القائم وسط هذا المحيط الأمني الراسخ، فهو مغامرة محفوفة بالمصاعب. لأن نظام الحريات يسهل إختراقه من كل هذه الأنظمة التي لا تستثمر إلا في الأمن ولا تراهن إلا على الأمن. لذلك، بقدر ما تنتشر ثقافة الحرية في محيط لبنان، بقدر ما يستقر لبنان. لكن ذلك لن يحدث قريباً. تقول لنا الأنظمة الأمنية المحيطة بنا: لن ندعكم تتمتعون بالحرية والأمن والاستقرار معاً. فعليكم الإختيار.

أما نحن، اهل لبنان، فلّم نستطع التخلي يوماً عن حلم الحرية ولن نستطيع التخلّي عنه ابداً. وما يعزز الثقة بهذا الحلم انه تمكّن من تحقيق ثقافة الحرية ونمط الحياة المنبثق عنها في المدى اللبناني تحقيقاً فعلياً. فهما مكسبنا الكبير، الملموس، الحي، منذ أجيال عدّة. وهما أيضاً سلاحنا الأمضى. لأن من عرفهما لا يعود يستطيع التخلّي عنهما، مهما بلغت التضحيات. هذا هو سر الصمود اللبناني في الداخل، في أحلك الأوقات. وهذا هو جانب كبير من سر تعلّق المغتربين اللبنانيين بوطنهم. وهذا هو سر السحر الخفي الذي تحدثه صورة الحياة اللبنانية في كل أنحاء الشرق. وما يعزز الثقة أيضاً بحلم الحرية اللبناني، هو أنه طريق المستقبل وطريق النهضة. ليس للبنان فقط، بل لكل المنطقة ايضاً. فنظام الإستبداد يُرعب مواطنيه، ويُسَطِّح نفوسهم، ويجعلهم متشابهين، ويجعلهم عاجزين عن تكوين الرأي وعن أخذ المبادرة. فهو يقضي على القدرات الخلاّقة في المجتمع، ويُهَجِّر الأدمغة بلا عودة، ويلغي قيم المعرفة والخبرة والنزاهة ليُحِّل مكانها معياراً واحداً لتسلّم المناصب وللترقّي الإجتماعي، هو معيار الخضوع الكامل للسلطان. هكذا، يحكم نظام الاستبداد على مجتمعاته وشعوبه بالجمود، ويضعهم خارج مسار التاريخ. أما نظام الحريات، فهو وحده الذي يُفَتِّح الطاقات ويُفَجّر القدرات الخلاّقة في كل المجالات، ويولي المجتمع حركيته وديناميكيته، وهو الذي يعلي شأن المعرفة والعلم والإختصاص، وهو الذي ينفتح على العصر والحداثة ويتفاعل معهما، وهو الذي يوفِّر للمجتمع الازدهار الإقتصادي والقوة الثقافية والحضارية، وهو الذي يرفع نوعية الحياة البشرية، وهو الذي يؤنسن الشعوب والمجتمعات ويضعها في قلب حركة التاريخ. حلم الحرية اللبناني؟ اجل. هو شرف هذا الشرق وهو مستقبله.

هناك تعليق واحد: