الأحد، 30 يناير 2011

سأحدّثك عن الموارنة بقلم الخوري اسكندر الهاشم


الصرح البطريركي المارونيّ في بكركي


انت مخطئ ان حسبت ان الموارنة مسيحيون فقط، فهم اقل من ذلك او اكثر بقليل، لانهم شعب عتيق متأصل في الحرية، متجذر في الوفاء وحسبه انه باق على العهد والامانة لتاريخه الملتصق بالتراب والسراب. يبني الماروني بيته وفي لحظة لا تخالها ولا تتوقعها، يهدم منزله ثم يتوارى الى غير رجعة لان السماء لحافه والارض فراشه، والصحراء تقيمه عدداً والبحر يغريه، كطائر لا يستقر له قرار.
 انت مخطئ ان توهمت يوماً ان الماروني سيتخلى عن مقاومته وشجاعته وتهوره، فهي خصال ترسخت فيه منذ ولادته ونشأته، لقد تمرّس في القتال ضد الطبيعة وضد الغزاة، ولم يسلم هو من مواجهة ذاته حين تغيب عن نظره مخاطر الخارج، وفي كل ذلك يبقى الماروني شاذاً عن القاعدة، فهو مسيحي بالفطرة والممارسة، وهو متمرد لا تنسجم افكاره احياناً مع الوداعة المسيحية ومحبة الاعداء، لانه اختبر صعوبة تطبيقها وقساوة الايام وتقلبات الدهر، وفي صراعه هذا يبقى معدنه طيباً لانه ينسى الغدر والخيانة ونكران الجميل، ويعاود اختباراته جيلاً بعد جيل في محاولة يائسة منه لقبوله ابناً شرعياً في هذه البقعة من العالم.
انت مخطئ ان اعتقدت انك تستطيع تدجينه، وادخاله في صلب الحداثة فجذوره الضاربة في التاريخ وحكايات عجائزه وكباره، نسيج معقد يدخل الى شرايينه وخلاياه وهو لا يقبل بديلاً من اودية نساكه وجروده الجدباء حيث لا ضرع فيها ولا زرع، ولو تملكته المدنية حتى اخمص قدميه. انه يهوى التمثّل بالاجداد والعيش في تاريخية موغلة في التحديات والصراعات ينقلها الى ابنائه من بعده، بالرغم من ابتكاره العيش مع الآخرين كل الآخرين الآتين على احصنة الفتح او الهاربين من الظلم او الطالعين من براكين الشرق المتحركة انه شخصية معقدة تكتنر ارث الفارين من وجه العدالة ووجه الله، الهاربين من الظلم الساهرين على صون الكرامة الفردية، الاصيلين في المقاومة الشرسة مقاومة القهر والظلم، الساهرين على عيالهم من الرحيل والمجازر والاستعباد. انه المهاجر والمقيم، المقاوم والمصلي، الغني والفقير، اليأس والفرح. انه صورة آدم الخاطئ والتائه والعاري يشده الحنين الى افياء السنديان والملول، ويشده السفر لانه بحّار يخوض غمار المياه وحيداً فلا الشرق يقبله ولا الغرب يأخذه على محمل الجد. انه ملاك تسحره كلمات القداسة والوداعة والخير، وهو شيطان ممسوس بالفخر والفروسية، وهو مغامر بطبعه لا تغريه المساومة ولا ترضيه انصاف الحلول.
مواجهة الماروني مأساة في حد ذاتها، لم يخرج من جدليتها وجدتها، ولم ير آفاق النور وطلوع الفجر منذ قرون، ومن عدمية هذا الصراع وهذه الملاحقة الشرسة تأصلت طباعه وترسخت، في العناد المقدس، وتأسست شخصيته الفريدة وبذلك نستطيع ان نسمي مجموع هذه الطبائع والخصال انتروبولوجيا جديدة طبعت الماروني وأرست وجدانه وأسست كيانه على مرتكزات أهمها.

قبيلة تنتمي الى المسيح
بعد قرون طويلة شهدنا خلالها مواجهات وعواصف اتت من الداخل والخارج معاً، وبعد ازمنة تخللتها نكبات وانتصارات، وبعد ترحال واستقرار وفقر وغنى، بعد موت وحياة ما زلنا بقية شعب يعاند الوجود ويواجه الايام، وما زلنا نتساءل ما هو الماروني؟ مما يتشكل؟ وما هي اهدافه وغاياته من الوجود والمواجهات؟
من هم هؤلاء الموارنة، والكثرة منهم خارج جذورهم ومياههم وتربتهم يهيمون في اقطار الارض كلها، وقلة منهم ما زالت على قيد الحياة هنا تواجه وتعاند وتمانع، تذهب عبر خيالها الى البعيد، الى الجذور الآتية من المؤسس، الى مسار اشتهر به الاجداد من خلال رؤية مثلثة، رؤية الله بينهم وامامهم، يعاين اعمالهم وتصرفاتهم رؤية الارض كملجأ ومعين ومعجن يرفدهم بالقوت الحلال. هؤلاء طبيعتهم اجتمعت فيها عوامل الفقر والشجاعة والمواجهات وقد شكلتهم على ما هم عليه من اضطراب وقلق وفرادة ادت الى خلق رؤوس حامية منعت منهم التنظيم ومهارة العمل المشترك. هذه القبيلة المنتمية الى المسيح المتمثلة بالسيد الصغير "مارون" المدافعة عن الكنيسة الجامعة في شرق انفصل المسيحيون عنه واقاموا لهم كنائس محلية مرتبطة بالملوك او التوجهات الثقافية والعرقية، وفي مشرق انتصر الاسلام فيه على المسيحية وما زال يحاصرها ويحشرها في الأزقة والحارات.

انهم شعب
الموارنة هم شعب وهذا هو فارق اساسي عن المسيحيين الآخرين المنتمين الى امم واعراق.
الموارنة شعب بالمعنى الحسي الملموس والمحدد، شعب تاريخي، نحن تماماً كالفرنسيين والالمان والعرب، من هنا الصعوبة في التحديد والمجاهرة في مجال تاريخي وحضاري يشكل التحديد بالنسبة اليه تحدياً كبيراً، لانه يريد الجميع في سلته وتحت رايته، وما عدا ذلك فيعتبر تحدياً وخروجاً عن المسموح به والمألوف هذا ان لم يكن عدواً من الواجب اقتلاعه. ان كلمة شعب لا تعني مطلقاً اننا عرق واحد ومميز، انما تعني ثلاثة مضامين (ارض – رسالة – وجماعة ذات نسق واحد) ومن هذه العناصر نستطيع الاحاطة بالظاهرة المارونية الفريدة، اضافة الى تحديدات أرست شخصيتها وعمق ممارساتها السياسية والثقافية والفلسفية، وهذه التحديدات تستند بدورها الى عناصر منها: العيش فوق ارض واحدة، وانتماء الى ثقافة خاصة وارتباط بالكثلكة وهو خيار اساسي رافق المارونية منذ نشأتها. هذه العوامل والعناصر نستطيع من خلالها تحديد الهوية المارونية واطلاق تسمية "ماروني" على كل من يشارك ويشترك في هذا النسق ويخضع لهذه العوامل. ان الوعي الماروني متجذر في كل فرد من افراد شعبنا. وهو منطلق اساس نترجم من خلاله تصرفاتنا، وهو وعي مطلق يقوم اولاً على الدور والرسالة الدينية التي نحملها في اعماق هذا الوعي. هذه الرسالة هي التي تعزز هويتنا كشعب، وحين نتكلم على "المارونية" لا يعني هذا خروجاً على تاريخنا الطويل واختصاره على فترة سياسية زمنية، بل في اللحظة التي توصل الموارنة فيها الى ممارسة حقهم في السياسة والحكم تحددت هويتهم كجماعة دينية لها توجهاتها ونسقها وعناصرها، ولها نظامها وهويتها الدينية السابقة لكل تنظيم سياسي آخر، وهم لا يتنكرون لذلك ولا يستطيعون تجاوز هذه التحديات والخطوط، وبالرغم من علمانية بعض زعمائهم فإنهم لا يستطيعون الخروج عن انتمائهم الى كنيستهم ومعتقدهم وتوجهاتهم الدينية والثقافية لانها وحدها تعطيهم الشرعية.

الارض
ترسخت المارونية ثقافة وفناً وليتورجية وسياسة، فوق ارض لبنان الوعرة والضيقة، فشكلت هذه الارض لهم مذبحاً قدّموا عليه قرابينهم ونذورهم وعشورهم، وتربّع على عرش هذه التقدمات كهنتهم واحبارهم، وبذلك ارتبطت طقوسهم وعاداتهم وحياتهم بهذه الصخور والاودية والقمم، ومارسوا فوقها لعبتهم القاسية اي استنباط ما امكن من زرع وضرع، لقد اكتملت شخصيتهم في ربوع هذه المساحة الضيقة وفي باطنها ادخلوا رفات ابائهم واجدادهم، وعند تخومها وحدودها مارسوا لعبة الفروسية والجهاد، وعلى هذه الارض ولد قديسون وانبياء ومشاغبون، وفي كل زمان واجه الموارنة امبراطوريات مسيحية ومسلمة حاولت تدجينهم بل موتهم. لقد تحولت ارضهم مقابر جماعية بفعل اضطهادات ومجاعات ومجازر مورست عليهم بحجة وبدون حجة بذنب وبدون ذنب. لقد ارتبطت حياة الموارنة ارتباطاً وجودياً عميقاً بأرض لبنان، كلنا يحمل هذا الوشم، يقول اندريه ماليرو: "ليس هناك اعظم من ان يكتشف انسان جذوره الثقافية" نحن نفاخر بكل ثقافة انسانية لانها ملك الجميع وكذلك نفاخر بالحضارات جميعها، لكن هناك خصوصيات اجمع الجميع على الحفاظ عليها لانها تنوّع غني يرفد الانسانية بهذه التنوعات وهذه الفرادة.
ميزة المارونية ايضاً انها منذ انطلاقتها لم تحصر توجهاتها في طرف واحد، فالديني عندها لا يستطيع مواجهة كامل قدرنا الصعب والمعقد لذلك شكّل الجناح السياسي مصدر قوة لا يستهان بها ومصدر تنوّع في التحالفات والمواجهات التي لا بد منها.

نوعان من التجربة والتحديات
شهدت المارونية خلال تاريخها الطويل توجهات تراوحت بين الاصولية المتزمتة، التي تحاول العودة الى الجذور والعيش على نمط الاباء والاجداد، واقتطاع جزء من الارض للعيش فيه بعد اختبارات قاسية مع الآخرين، وبعد نكران الجميل بالرغم من حسن ضيافتهم ولياقتهم وحبهم للآخرين. هؤلاء لم يشكلوا اكثرية الموارنة، لكنهم شكلوا دينامية خاصة وتوجهاً عزز شخصية الموارنة وكانوا على الدوام ازمة ضميرية ومصيرية. اما القسم الآخر فحاول من خلال تحالفات سياسية وحضارية ان يخرج الموارنة من ضيق مساحتهم ليجعل منهم لاعبا في تطور الاحداث، وهذا التوجه شكل ايضاً ازمة معقدة لافتقاده معرفة حقيقية بالآخرين، ولعدم معرفة المدى السياسي الذي يأخذهم اليه. ان شغف الموارنة بالارض يشابه شغف الشعوب كلها ويتجاوزهم من خلال وعي عميق بأن الله قد وضعهم في هذه البقعة ليحملوا نعمة الصليب والآلام، وارضهم الباقية هي آخر ما تبقى لهم من موطن ارضي، ولو ملكوا العالم بأسره، فهل ارتباطهم وتعلقهم بالارض يتوافق والمعطيات الجديدة للعالم المعاصر؟ ان البعد الديني للموارنة يفرض نفسه مباشرة على الواقع السياسي والاجتماعي والحضاري، لكنه واقع مأزوم بفعل الصراع الداخلي الدائر في قلب الشعب الماروني حول خيارات معاصرة وتحالفات سياسية مستجدة، لقد اصبح النقاش ايديولوجياً وصراعاً بين مدرستين، لان الواقع الاجتماعي السياسي والواقع الدولي يعطي الموارنة وضعاً هشاً، بل يأخذ لبنان الى مواجهات لا يستطيع احد التكهن بنتائجها. وانه واقع مستجد دخل عليه لاعبون بحجم الموارنة واكبر، بحجم لبنان وأوسع.
السؤال المطروح، اين جوهر المارونية؟ وما هي حظوظها في القيامة؟ كيف في استطاعتنا ان نكون امناء على الينابيع الايمانية دون معرفة مسبقة منا بواقع الامور وتشعباتها وصعوباتها؟ ولكن حين يسأل الماروني هل موارنة واشنطن او باريس او سان باولو.. اقل واكثر هشاشة في واقعهم ومستقبل عيالهم من موارنة لبنان؟ وحدها العناصر المجتمعة التي تقودها العقلانية تتلمس في الديني والثقافي والسياسي شخصيتها الاجتماعية. هذا المركب يشرح لنا تنوعات الاسئلة التي يطرحها الموارنة على انفسهم، سؤال ما زال يثير فينا الحماسة التي تبقى صمام امان نستطيع بها متابعة سيرنا بالرغم من حاضرنا المأزوم والصعب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق