الثلاثاء، 8 مارس 2011

اندمج في حجارة المكان بقلم داوود الصايغ


اندمج في حجارة المكان كتب مستشار الرئيس سعد الحريري داوود الصايغ في "المستقبل":
بعد ربع قرن في السدة البطريركية، يتنحى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عن مسؤولياته بملء الإرادة، في خروج هو على صورة المسؤولية في سنوات الحبرية الخمسين والبطريركية الخمس والعشرين. أي صورة الكبر والكرامة. وبأن المرء حيث يجعل نفسه، فلقد جعل البطريرك صفير نفسه في مسيرة أسلافه، أي في الرؤية التاريخية للدور والرسالة. إنه من المدرسة القديمة لحسن الحظ، والتي زادت من قناعاته في سحابة السنوات الطوال، سحابة عمر، قضاها في بكركي مطراناً ثم بطريركياً. فلقد اندمج مار نصرالله بطرس صفير في المكان، وأكاد أقول في حجارة المكان، بكل ما تمثل من صلابة وأصالة وارتباط بالأرض والتراب، شأنه في ذلك شأن أهالي الجبال من تلك الربوع، الذين تلقوا دروس التاريخ وقرأوا إشارات الزمان بوضوح ليقول كلمة بكركي في خضم كل ما يجري. وما جرى في سنوات بطريركيته لم يكن أقل من أحداث ذات ارتباط بالمصير. وعندما يكون الوضع على هذا النحو فإن لبكركي كلمتها. والبطريرك قالها، غير عابئ بردود الفعل، التي بلغت حدود التطاول والتجريح.
 ذات يوم، وقد اشتدت عليه الحملات نتيجة لمواقف لم يتراجع عنها، وعندما حاولت أن أقول له بأن تحمل المسؤوليات، أياً كان نوعها، يعرض صاحبها للمواجهات قال لي: "أنا لست أفضل من السيد المسيح، والمسيح صلبوه"!
 ففي خضم تلك المرحلة الممتدة ما بين عام 1986، تاريخ انتخابه وعام 2011 تاريخ تنحيه، لا يمكن القول أن لبنان، وإن توقفت فيه أعمال القتال عام 1990، قد انتقل الى مرحلة الاستقرار والأمان والثقة بالمستقبل، بل انه تحوّل في الحقيقة الى رهينة لصراعات المنطقة، بعدما امتدت إليه من قريب وبعيد أيدي أصحاب المصالح الذين أرادوا تحويله الى ساحة لصراعاتهم. هذا كله أدركه البطريرك صفير على طول مراحل الحروب وفيما بعد. وعندما حصل الالتقاء الذي كان لا بد أن يحصل بينه وبين الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فلأنه كان يدرك في أعماقه، أن هذا الرجل القادم لإعادة الإعمار هو الشريك في الرؤية دون غيره.
 حصل ذلك في ظروف سياسية لم تكن مسهلة. لأن هذا النوع من الالتقاء لم يكن محبذاً في ظل أجواء ذلك الوقت، على الرغم من طابعه التقليدي التمثيلي لجناحي الوطن. فالبطريرك كان حراً، والرئيس رفيق الحريري كان يريد إعادة بناء الوطن الحر، وإلا ما معنى إعادة الإعمار، وتعليم الشباب، وإعادة إحضار لبنان في الخارج وإحضار المؤسسات الدولية إليه، ومعالجة قضاياه الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وإقامة شبكة علاقات قوية ومتنوعة مع مقرري العالم، والانفتاح على الآفاق كلها؟ فإذا لم يكن ذلك هو مشروع الوطن الحر، فأي حرية تبحث عنها الأوطان؟ في الزمن الصعب التقيا، خصوصاً في مرحلة تغييب قيادات مسيحية وجدت نفسها في المنافي أو في السجون أو في السكوت. ولم يكن من طبع البطريرك صفير أن يصمت، لأن الصمت لم يليق بلبنان ولا ببكركي التي كانت في نظره صوت الذين لا صوت لهم. وكان الرئيس الحريري يعرف كل ذلك، فوصلت علاقته بالبطريرك الى أقصى ما يمكن أن تصل إليه علاقة من هذا النوع في ظل الوضع السياسي القائم آنذاك. وهكذا التقت رؤيتاهما مجدداً في آخر صيف العام 2000، إن في نداء بكركي الشهير الذي طالب بالانسحاب السوري، وإن في مناقشات جلسات الثقة بعد ذلك، التي ارتفع فيها صوت الرئيس رفيق الحريري متمرداً على نظام المخابرات. وعندما كان البطريرك صفير يحذر من المس بالدستور وتعديله خدمة لأشخاص، فلأنه كان يخشى أن ينزلق الحكم في لبنان الى النموذج المحيط به والتي تدلّ الأحداث الحالية الجارية المتلاحقة في عدد من الدول العربية كم أن الدستور اللبناني، على عراقته، كان متقدماً في مسألة تداول السلطة، والفصل بين السلطات، وهما دعامتا الديموقراطية السياسية. وكم كان يردد أمام زائريه تجربة الحزبين الدستوري والكتلوي في مطلع الاستقلال، والمؤلفين من أشخاص مختلفي الطوائف مذكراً برقي المناقشات والحوار السياسي، وقد عرف شخصياً العديد من شخصيات الاستقلال وما بعده، من مختلف الاتجاهات، وشاهد التجربة اللبنانية ترتفع في بعض الزمان الى مستوى "الرسالة" التي عبّر عنها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في رسالتين إليه بالذات، وتألم للمشوهات التي أصابتها، ولانحدار مستوى الكلام ومستوى الممارسة، ولضرب المؤسسات واستشراء الفساد، والتمرد على سلطة الدولة والمؤسسات، مما كان يشاهده عبر المتابعة اليومية وما كان ينقل إليه عبر الوفود التي تزوره.
 فبكركي كانت تقليدياً، ولا تزال، مرجعاً وملجأً، بابها مفتوح للكبار والصغار، يستقبل البطريرك ببساطة الراهب وفضيلة الوداعة، ويستمع ويتابع ولكن ليس فقط في الصغيرة، بل في الكبيرة أيضاً، فدَعَمَ العدالة حين وجب دعمها، وأدان استخدام السلاح لغير الدولة. ولم يحدّ عن المواقف، لقناعة بأن البطريرك، وإن كان فوق النزاعات، إلا أن قول كلمة الحق من واجبه، مهما كانت النتائج. ومع البطريرك صفير تتثبت بكركي كمرجعية وطنية. إذ ما من زائر أو مسؤول أجنبي إلا وقصدها طلباً لرأي سيدها. ويعرف جميع اللبنانيين قصة البطريرك مع المطالبات الخارجية بضرورة وضع أسماء لمرشحين لرئاسة الجمهورية، المرة الأولى طلبها منه الأميركيون عام 1988، فتردد طويلاً قبل أن يدعو النواب الموارنة الى اجتماع وضعوا هم اللائحة المطلوبة، التي لم يؤخذ بها، والثانية عام 2008 عندما أصرّ عليه وزير خارجية فرنسا السابق برنار كوشنير بأنه بمجرد وضعه للائحة سيفتح مجلس النواب الذي كان مقفلاً ويتم انتخاب أحد الشخصيات الواردة أسماؤهم في اللائحة. وبعد إلحاح نزل عند الطلب. ولم يؤخذ باللائحة فقال في ظرفه المعهود: "مرة فعلها بي الأميركيون، ومرة أخرى الفرنسيون".
فالبطريرك صفير الذي يجمع في شخصيته مواصفات سيد بكركي بكل ما تمثل، وذلك الذي "أعطي مجد لبنان له"، هو ابن كسروان وتاريخها وعائلاتها ومشايخها وصراعاتها العائلية والمناطقية. أمثاله الشعبية ترافق عادة تحليلاته المختلفة، في اتقاد الذهن والذاكرة والمقارنات المحببة، وهو الذي جالس كبار العالم في مختلف أنحائه، وزار العديد من الدول، خصوصاً ديار الانتشار. يسأل زائره دائماً من أين آت، ثم يستفسر عن أحواله وعن منطقته وقريته، قبل الانتقال الى المواضيع الأهم التي يوليها انتباهاً واستماعاً كاملين، ليعلق عليها بهدوء. ونادراً ما ارتفع صوته غاضباً، إذ يكفي التعليق اللبق ليفهم الزائر أنه غير موفق، ثم يودع زائره الى مدخل صالة الاستقبال الفسيحة. طوال ربع قرن عبّر معه عن صلابته ليس من ترفع طبيعي نابع من مواصفات شخصيته فحسب، بل من إصراره على المطالب الوطنية، على الرغم من محاولات عديدة لأخذه الى المطالب المحددة في تسمية المناصب التي يريد، حسبما كانت سياسة ذلك الوقت في محاولات الإرضاء، لإنشغاله الأساسي كان في مكان آخر وفي قضية أسمى من ذلك بكثير. فهذا الجوار الطيب كان من حظ الذين خبروه. وكم أسعدني على طول ثمانية عشرة عاماً أن أكون حاضراً وشاهداً من لقاءاته مع الرئيس رفيق الحريري ثم مع الرئيس سعد الحريري، الذي أحاطه البطريرك بالمودة والتفهم والتقدير، وقد وجد فيه ليس فقط وريثاً لوالده الشهيد، صديقه وشريكه في الرؤية الوطنية، بل مجسداً في شخصيته الشابة لتلك الطينة الطيبة والصادقة من الذين يدعون الى تحمل المسؤوليات الكبرى. ربع قرن من الزمن وقرون غيره، مثل أمس الذي عبر في عين الله. ولكن تاريخ البشر مصنوع بأيدي الرجال، وهو يسجل لهم على قدر ما يصنعون. وبعد أيام، حين يخلف بطريرك ماروني جديد البطريرك المتنحي مار نصرالله بطرس صفير، سوف يكتب في الاستمرارية المضيئة صفحات ناصعة من تاريخ البطريركية المارونية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق