الثلاثاء، 8 مارس 2011

البطريرك صفير ورسالة لبنان بقلم محمد السمّاك



كتب محمد السماك في "المستقبل": طوال سنوات الحرب الداخلية في لبنان (1975 ـ 1989) لم يتوقف الاتصال والتواصل بين بكركي ودار الفتوى. كان البطريرك مار نصر الله بطرس صفير والمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد حريصين على تبادل الآراء وعلى التنسيق بين مواقفهما. وكان قدري أن أتولى هذه المهمة التي استمرت حتى بعد اغتيال المفتي رحمه الله.

منذ ذلك الوقت تعرفت عن كثب على البطريرك صفير مرجعاً وطنياً الى جانب كونه المرجع الروحي الأول للطائفة المارونية؛ وخلال هذه السنوات الطويلة، مرت القضية اللبنانية في مراحل عديدة من التأزم السياسي والتصارع العسكري، ومن الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. ولكن حتى في ذروة التوتر الطائفي، بقيت العلاقات بين بكركي ودار الفتوى خارج دائرة هذه التأزمات، الأمر الذي أدى الى تعرض كل منهما الى الانتقاد وحتى الى الاعتداء من طرفي الصراع.

كثيرة هي المناسبات الوطنية التي تتجاوز الطائفية والتي كان البطريرك صفير رائداً لها. وأذكر منها على سبيل المثال مناسبتين فقط.

كانت المناسبة الأولى في شباط 1989 (قبل عدة أشهر من انعقاد مؤتمر الطائف). فبدعوة من اللجنة العربية السداسية (التي كانت تضم وزراء خارجية كل من الكويت والأردن والسودان والجزائر وتونس والإمارات العربية)، توجهت الى الكويت بدعوى رسمية من اللجنة وعلى متن طائرة لبنانية واحدة المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية للبحث في كيفية حل الأزمة. اجتمع أعضاء اللجنة بكل مرجعية دينية على انفراد. لم تمكّن حصيلة تلك الاجتماعات اللجنة العربية من تكوين تصور مشترك لصيغة توفيقية. فارتأت اللجنة بعد ثلاثة أيام من الاجتماعات تجاوز الأمر من دون الإعلان عن موقف أو إصدار أي بيان.

عشية عودة المرجعيات الى بيروت، تداولت في ما بينها الانعكاسات المحتملة لنتائج الاجتماعات على الوضع الداخلي اللبناني. يومها حذرت من احتمال استغلال عدم الاتفاق لإضفاء بعد طائفي على الحرب في لبنان، وهو ما كان القادة الروحيون جميعهم يرفضونه ويخشون منه في الوقت ذاته. وخلال هذا اللقاء الذي جرى في إحدى قاعات قصر "بيان" جرى تداول اقتراح صياغة بيان مشترك يصدر عن أصحاب السماحة وأصحاب الغبطة يحول دون استغلال اللقاء مع اللجنة العربية لتقويل القيادات الروحية ما لم تقله وما لم تريد أن تقوله. وبناء على اقتراح من البطريرك صفير نفسه، عهد إلي بكتابة مشروع البيان، علماً بأنني كنت مستشاراً للمفتي الراحل الشيخ حسن خالد.

وبعد أن أنجزت كتابة النص، حملته الى البطريرك باعتبار أنه هو الذي طلب مني ذلك. غير أن البطريرك وقبل أن يقرأ النص، سلمه الى المفتي حسن خالد. قرأ المفتي النص، وأعاده الى البطريرك معلناً قبوله. ثم قرأ البطريرك النص، وقال: وأنا أوافق.. وبعد ذلك تداول على قراءته أصحاب الغبطة والسماحة: البطريرك هزيم، والشيخ الإمام محمد مهدي شمس الدين، والبطريرك مكسيموس الخامس حكيم، والشيخ مرسل نصر (ممثلاً شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا الذي تغيب لمعاناته من المرض).. ووافقوا عليه جميعاً.

تلا نص البيان على أجهزة الإعلام البطريرك هزيم بحضور جميع المرجعيات، وكان أول بيان مشترك يصدر عن المرجعيات الدينية بشأن الحرب في لبنان، وكان بالتالي أول مسمار في نعش إسباغ الهوية الطائفية على الأحداث اللبنانية.

أما المناسبة الثانية، فكانت في الثاني من آب 1993، فعلى اثر الاعتداءات الإسرائيلية التي تعرض لها لبنان ولا سيما الجنوب والبقاع الغربي، استضاف البطريرك في المقر البطريركي الماروني في بكركي لقاء روحياً وطنياً ضم رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، وحرص البطريرك مع الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين على أن يكون اللقاء أساساً لتواصل دائم، فانبثقت عنه اللجنة الوطنية الإسلامية ـ المسيحية للحوار لتكون صلة وصل بين المرجعيات الدينية من جهة، وبينها وبين مرجعيات وهيئات عربية ودولية مماثلة تُعنى بالشأن اللبناني وبالحوار الإسلامي ـ المسيحي. ولا تزال اللجنة مستمرة حتى اليوم.

إن الحديث عن البطريرك مار نصر الله بطرس صفير هو حديث عن العلاقات الإسلامية ـ المسيحية، فدوره في إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ومن ثم في تعديل الدستور اللبناني على أساس هذه الوثيقة، كان دوراً أساسياً، حتى أنه يمكن القول إنه ما كان للطائف أن يمر من دون موافقته. كذلك فإن دوره في السينودس من أجل لبنان 1994، ودوره في السينودس حول مسيحيي الشرق، ومواقفه الثابتة في مؤتمرات ومجالس البطاركة الكاثوليك، تحمل بصمات واضحة عن ايمانه العميق وعن جهوده البناءة لإرساء هذه العلاقات على قواعد المحبة والاحترام والمواطنة الكاملة.

كذلك، فإن الحديث عنه هو حديث عن دوره في العلاقات الوطنية بين اللبنانيين من مختلف الأديان والمذاهب، وهو دور دفع ثمنه غالياً من التجني والافتراء من دون أن يتزحزح عن ثوابته الوطنية والأخلاقية والروحية.

وبمناسبة قراره الاستقالة من منصبه، لا نملك سوى الدعاء الى الله أن يحفظه ويرعاه لتبقى سيرته منارة يهتدي بها اللبنانيون جميعاً في تطلعاتهم نحو الازدهار والسلام.. وليبقى لبنان وطن الرسالة.. رسالة العيش الوطني بين مختلف الأديان والمذاهب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق