الاثنين، 14 فبراير 2011

نحو مؤتمر مسيحيّ عام بقلم أنطوان قلايجيان


وادي قنّوبين المقدّس


بات موضوع الوجود المسيحي في المشرق يستقطب اهتماماً كبيراً في بعض الأوساط في لبنان والدول العربية نظراً الى أهمية وتأثير تراجع الدور المسيحي.
القلق على الوجود والحضور والحنين إلى الدور يجعل من المسيحيّين يلتمسون أي فرصة تؤمن لهم ولابنائهم مستقبلاً آمناً وحياة كريمة بعيداً عن تعقيدات العالم العربي وازماته المستعصية. فالوجع قائم والأرقام تعطي مؤشرات خطيرة من فلسطين إلى لبنان والعراق وسوريا ومصر والأردن. والأولوية تبقى لوقف هذا النزف في زمن تكثر فيه الحروب، وتشتدّ فيه الأزمات الاجتماعية وتتنامى فيه الأصوليات والتطرّف والعصبيّات الدينيّة والمذهبيّة، مما يشعِر الأقليّات بالخوف من واقعها والقلق على مستقبلها.
كان للمسيحيّين دورٌ أساسيٌ في محاكاة الحداثة والمدنيّة، والمفاهيم الديموقراطية في هذا الشرق وضمن مجتمعاتهم. وتدريجاً وجدوا أنفسهم وسط تصاعد الحركات الأصولية المتسللة إلى قلب المجتمعات العربية محدثة فيها تغييرات جذرية. يجدُ المسيحيّون اليوم أنفسهم محاطين ببيئة تزداد انغلاقاً وتميل أكثر فأكثر إلى فرض منظومتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وربما الدينية وهذا ما يناقض تماماً ما كان عليه واقع الحال قبل فترات غير بعيدة نسبياً.
في هذا السياق تبدو إعادة الإعتبار للدور المسيحي صعبة وتحتاج إلى مجهودات صادقة وفاعلة تضطلع بها سائر مكوّنات المجتمعات العربية.
وان دور لبنان في هذا المجال كبير كأرض وئام وطني مع الأمل بأن تكرِّس الأمم المتحدة لبنان وتعتمده كمساحة عالميّة لحوار الحضارات والأديان والثقافات. مع الملاحظة ان للمسيحيّين في هذا الشرق دوراً يبقى بمثابة حلقة وصل بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحيّة، تفتح بينهما امكانية اجراء حوار بنّاء. ان الحوار العميق هو المدخل الجدّي لمقاربة قضيّة مسيحيّي المشرق والتفاهم حول أهمية الحفاظ على هذه الأقليات المسيحية على أراضيها وذلك بانتهاج سياسة رسمية قائمة على توعية الشعوب العربية على أهمية الحفاظ على الأقليات، مع أهميّة الإشارة دائماً إلى الدور الذي لعبه المفكرون والمثقفون المسيحيون في النهضة العربية، لأنهم هم روّاد النهضة وهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي والاسلامي، كذلك تحديد، حيث يجب، كوتا للاقليات في المؤسسات التمثيلية تنسجم مع الواقع الديموغرافي المسيحي، مع الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية في قضايا الأحوال الشخصية والتربية والقضايا الاجتماعية.
ومن أجل العمل على تثبيت الحضور المسيحي في المشرق تنادت في لبنان مجموعة من الأشخاص المهتمّين بهذا الموضوع، لتشكيل لقاء هدفه التحضير لمؤتمر عام لمسيحيّي المشرق، تُطرح فيه القضايا الأساسية التي تهم هؤلاء المسيحيّين لكي يواجهوا التحدّيات الكبرى التي تهدّد وجودهم ومستقبلهم.
أراد مؤسّسو اللقاء تأمين مشاركة كل الطوائف المسيحية، كما الحصول على مباركة ودعم مباشر من رؤساء الكنائس كافة، وذلك لتأمين أوسع مشاركة مسيحية مشرقية ممكنة في المؤتمر العام لمسيحيّي المشرق المنوى عقده أواخر السنة الجارية. ان هدف هذا اللقاء هو جمع أكبر عدد ممكن من الطاقات المسيحية في المشرق وبلاد الانتشار في اطار واحد لتثبيت الحضور المسيحي الحر والفاعل في المشرق وتعزيزه، وذلك ببركة ومشاركة جميع الكنائس المشرقية.
أمّا أهداف المؤتمر، كما وردت في وثيقة العمل التأسيسيّة فهي:
أولاً: ايجاد مساحة لقاء وتواصل بين مسيحيّي المشرق بكل طوائفهم وتأمين منبر اعلامي لهم في هذا الظرف التاريخي الخطر الذي يمرّون فيه. ومجرّد عقد مؤتمر كهذا يجمع المسيحيّين المشرقيّين بكنائسهم كافة، وبانتماءاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية المختلفة، هو بحد ذاته حدث تاريخي مميّز، ومبادرة رياديّة في حياة المسيحية المشرقية. مع الأمل ان يصبح هذا اللقاء أو المؤتمر، كما هذا المنبر، ذا صفة مستديمة وجزءاً لا يتجزأ من الوجود المشرقي.
ثانياً: طرح القضايا الأساسية التي تهمُّ مسيحيّي المشرق ومواجهة التحديات الكبرى التي تهدد وجودهم ومستقبلهم. ومن هذه التحديات :
1. الهجرة وضرورة تثبيت المسيحيّين وتعزيز وجودهم في قراهم ومدنهم في المشرق. وللهجرة أسبابها من عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وانعدام الأمن، والحالة الاجتماعية المترديّة، والغربة النفسيّة والمعنوية، وانتهاك الحريات العامة، والحروب المفروضة وأعمال العنف والارهاب.
2. انحسار الحريات السياسية والدينية وحقوق الانسان.
3. بروز الأصوليات الدينيّة.
4. تراجع مفهوم الدولة والمساواة في المواطنة في المشرق.
5. تأثير الصراع العربي-الاسرائيلي على الوجود المسيحي المشرقي.
6. إلتباس العلاقة بين المشرق المسيحي والغرب المسيحي.
7. دور الانتشار المسيحي المشرقي في المحافظة على الحضور المسيحي في المشرق ودعم قضاياه في العالم وتعزيز شهادته وخدمته.
ثالثاً: محاولة الخروج بمقررات عملية تستكمل عمل المؤتمر وتضمن ديْمومته لكي يصبح اطاراً يجمع مسيحيّي المشرق ويتحدَّث باسمهم ويساهم في تثبيت حضورهم في المشرق ويعززه على كل المستويات.
ومن الأفكار المطروحة للمتابعة:
- مرصَد لمتابعة القضايا المسيحية المشرقية في المشرق وخارجه.
- مجموعات ضغط لمتابعة قضايا المسيحيّين المشرقيّين في المشرق وخارجه.
ولما تبيَّن للقاء مسيحيّي المشرق أنّ الزمن هو زمن المبادرات العمليّة الفاعلة، وأنّ هذه المبادرات لا بدّ لها من أن تستند إلى رؤية فكريّة لاهوتيّة تناسب عمق الدعوة الإنجيليّة في قرائن أوطان الشرق العربيّ، لذلك فإنّه من الضروريّ توضيح الرؤية الفكريّة الأساسيّة التي تتضمنّها المقترحات الثلاثة في وثيقة العمل التأسيسية للقاء.

I. مرصد للمتابعة في القضايا المسيحيّة المشرقيّة 
من طبيعة هذا المرصد أن يتحوّل إلى مرجعيّة إعلاميّة وقانونيّة يستند إليها المسيحيّون المشرقيّون أفراداً وجماعات في استيضاحهم لتحدّيات وجودهم التاريخيّ، وفي سعيهم إلى استنباط الحلول العمليّة للمشاكل التي يواجهونها في أوطان العالم العربيّ. ومن خصائص هذه المرجعيّة أن يلتئم فيها رجالٌ ونساءٌ يدركون إدراكاً صحيحاً معنى الرسالة المسيحيّة في المشرق العربيّ، فينصرفون إلى الاستعلام والإعلام، يستعلمون عن أوضاع المسيحيّين المشرقيّين وهمومهم ومشاكلهم ومطامحهم ومشاريعهم وابتكاراتهم وإنجازاتهم، ويُعلِمون أهل المشرق العربيّ، من مسيحيّين ومسلمين وعَلمانيّين، عن هذه الأوضاع والمشاكل والإنجازات. وعلاوةً على الخبرة القانونية الراسخة، لا بدّ لهذا المرصد أن يُتقن فنّ التواصل الفطن البنّاء مع الجماعات المسيحيّة المشرقيّة وهيئاتها الكنسيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والأكاديميّة والإعلاميّة حتّى يأتي الاستعلام والإعلام على قدر كبير من الموضوعيّة والتنسيق والتضامن والفاعليّة. ومن الشروط الأولى لإنجاح هذا المرصد أن يعمل فيه المتفوّقون النافذون من أهل الاختصاص الإعلاميّ المسيحيّ المشرقيّ، وأن يستحدثوا له البنية الإداريّة والإعلاميّة الملائمة لأغراضه وأهدافه. أمّا أهل الاختصاص القانونيّ، فينبغي لهم أن يتدارسوا أخطر القضايا الشائكة التي يتعرّض لها الوجود المسيحيّ السياسيّ والاجتماعيّ في أوطان الشرق العربيّ، وذلك بالتضامن مع الجمعيّات المدنيّة المساندة لشرعة حقوق الإنسان.
لذلك ينبغي التفطّن في مقاربة هذا الموضوع للضرورات العمليّة التالية:
أوّلاً، إفراد الحيّز الأوسع في المؤتمر لهذا المشروع العمليّ.
ثانياً، استدعاء أهل الاختصاص الإعلاميّين للبحث في تصوّرهم العمليّ لإنشاء المرصد وفي استعدادهم الصريح للاشتراك في التمويل والإنشاء والتنشيط
ثالثاً، استنهاض همم القانونيّين الكبار في استحداث بنية قانونيّة استشاريّة دائمة تُعنى بتوجيه المسيحيّين المشرقيّين من أفراد وجماعات في نضالهم الوجوديّ العسير.
رابعاً، الخروج من المؤتمر بتعهّد شخصيّ بالالتزام وبتفويض جماعيّ للأشخاص المفروزين لهذه الخدمة.

II. مجموعات مساندة للوجود المسيحيّ المشرقيّ 
لا يخفى على أحد أنّ مجموعات النفوذ العالميّة تستمدّ قوّتها من مصدرين اثنين، وضوح الفكرة الهادية للمشروع الذي تتجنّد هذه المجموعات لمساندته بكلّ الوسائل المشروعة، وضمان التمويل الذكي القابل للاستثمار الذاتيّ التلقائيّ. فالأشخاص النافذون ينبغي أن يتّصفوا بصفاء الرؤية الإيمانيّة المسيحيّة وبحكمة الحيّات وفطنة أهل السياسة الطيّبين. والمال المرصود ينبغي أن يأتي من مصادر نظيفة لا غبار عليها. والتأثير المرجوّ في تغيير بعض سياسات المجتمعات العربيّة ينبغي أن يظلّ في سياق الأخلاقيّة الإنجيليّة، والتأثير المسيحيّ المرتقب في محافل القرار العالميّ وينبغي أن يأتي بالنفع على المسيحيّين القاطنين في أوطان التأزّم العربيّة. ولذلك ينبغي التفطّن أيضاً في مقاربة هذا الموضوع للضرورات التالية:
أوّلاً، يُدعى إلى هذا المحور أهلُ الاختبار في العمل السياسيّ المحلّي والإقليميّ والعالميّ من المسيحيّين الملتزمين شرعة الإنجيل الروحيّة.
ثانياً، يُطلَب من المحاضرين في هذا المحور أن يُعلنوا عن تصوّرهم الواضح لطريقتهم في الربط بين مقتضيات الانتماء إلى التصوّر الإيمانيّ المسيحيّ ومستلزمات الانخراط في معترك الفعل السياسيّ الواقعيّ المتلبّس بالمشادّات والتسويات والالتواءات
ثالثاً، يجدر في المرحلة الأولى التفكير السياسيّ المباشر في إنشاء مجموعات تفرز بحسب خبرتها وانتمائها وفاعليّتها وتُعنى بالتأثير المباشر أو غير المباشر بدوائر ثلاث، هي دائرة الجامعة العربيّة، ودائرة الاتّحاد الأوروبّيّ، ودائرة الأمم المتّحدة. ويُفترض بالأشخاص المفروزين لهذه المهمات أن يكونوا على وصال دائم بهذه الدوائر، يعملون في نطاقها السياسيّ أو يرتبطون في وجه من الوجوه بعملها السياسيّ أو بعلاقات وثيقة بالقيّمين عليها.

III. استحداث آليّات
ضمانة عملانيّة 

ينطوي هذا المقترح الثالث على الشرط الأساسيّ والضروريّ لنجاح مسعى اللقاء. فمصير هذا المشروع مرتبطٌ كلّه بإيجاد آليّات ضمانة عملانيّة. وفي هذا المقترح شقّان. الشقّ الأوّل مرتبط بتأمين الدعم الماليّ المستمّر، والشقّ الثاني متعلّق باستخدام قسط من هذا المال في تشجيع عودة مسيحيّي الانتشار.
في الشقّ الأوّل، ينبغي إنشاء هيئتين. الهيئة الأولى تُعنَى بجمع المال، والهيئة الثانية تستثمر المال استثماراً صالحاً يضمن الديمومة الذاتيّة للصندوق. وفيما تتألّف الهيئة الثانية من خبراء اقتصاديّين، ينبغي أن تتكوّن الهيئة الأولى من أشخاص يلتئمون في مجلس للأمناء يُشهد لهم بالفضيلة والتجرّد والصدقيّة الفكريّة ممّا يجعل لهم تأثيراً بيّناً في تبرير طلب الأموال لمثل هذا المشروع.
في الشقّ الثاني، يجدر الاعتناء بالمقيمين حتّى لا يغتربوا، وبالمغتربين حتّى يعودوا فيقيموا في البيت الأصليّ. ولكنّ عودة المغتربين أصعب منالاً من إبقاء الراغبين في الاغتراب. ولذلك ينبغي الاجتهاد الأكبر في استثمار طاقات المغتربين للإبقاء على أهلهم الباقين على نضالهم في البيت الأصليّ. وليس من فعل أقدر على بلوغ هذا الهدف من تشجيع المغتربين على صون هويّتهم الوطنيّة الأصليّة أو استعادتها. وقد يكون المسيحيّ المغترب المقتدر المحافظ على هويّة انتمائه المشرقيّة أوسع نفوذاً في محافل القرار الدوليّ من المسيحي المشرقيّ المستضعف في أرض وطنه الأصليّ. ولذلك ينبغي لمثل هذا التجمّع المسيحيّ أن ينشىء هيئة تنسيقيّة تواكب جهود الهيئات الكنسيّة والاجتماعيّة التي تعتني بمسائل المغتربين المشرقيّين المسيحيّين.
أمام صعوبة الأوضاع والقلق حول المستقبل المسيحي في هذا الشرق، والأزمة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية نطلب من الكنيسة والدولة ومن القادرين ذوي الارادة الطيّبة ان يبادروا إلى تعزيز الحياة الاقتصادية واحياء المشاريع الانمائية، وتوفير فرص عمل تساعد الشباب على الاستقرار في أرضهم وتحقيق ذواتهم، وتمكن العائلات من العيش الكريم على أرض أوطانهم.
نجدّد عزمنا كلقاء مسيحيّي المشرق على العمل مع الحكومات وأصحاب القرار محلياً واقليمياً ودولياً من أجل ايجاد المبادرات الكفيلة بتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإلى المسيحيّ المشرقي نقول: يجب ان تكون مؤمناً بنفسك وبتاريخك وبدورك وبهويتك وان تدرك معنى وجودك وحضورك على هذه الأرض، لأن الله تجسّدَ هنا على أرضنا المشرقية، وبشَّر هنا، وقبر هنا، وقام من بين الأموات هنا.
من هنا الدعوة إلى التواصل مع المواطنين والمسؤولين الإخوة المُسلمين والتشديد على أهمية الوجود المسيحي ذي الطاقات الكبيرة والجبّارة بوجود الأديرة والمدارس والجامعات والمؤسسات الخيرية والثقافية والصحيّة. مع التركيز الدائم على العيْش المشترك، اذ ان الحضور المسيحي في المنطقة هو أساس العيش المشترك، لأن لا عيش مشترك بدون تعدّدية - والتشديد بحق المسيحيّين بالمواطنة الكاملة في كل بلد عربي مع حق الحرية الكاملة في ممارسة الشعائر الدينية وبناء الكنائس والحق في المناصب. كما التركيز على وجوب مشاركة المسيحيّين في وجود حلول لمشاكل المجتمع، المشاكل ذات الطابع السياسي، القانوني، الاقتصادي، الاجتماعي والسعي لبناء مجتمع أفضل، متضامن وانساني.
وأيضاً الدعوة إلى العمل على اقناع الغرب بأن انقراض مسيحيّي الشرق أو أضعافهم تنفيذاً لمؤامرة قديمة لافراغ الشرق من مسيحيّيه يكون بمثابة خسارة كبيرة للكنائس الجامعة، والتواصل مع الكنائس الغربية والشرقية في أوروبا وأميركا والعالم، داعين اياهم إلى مضاعفة الجهود وبذل المساعي لدى دولهم لدعم مسيحيّي الشرق مع التأكيد بأن دورهم في هذا الشرق حلقة وصل بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحيّة.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق