الأحد، 27 فبراير 2011

هويّة الكنيسة المارونيّة (3)



كنيسة خلقيدونيّة
في قولنا إنّ كنيستَنا المارونيّة هي خلقيدونيّة، نَعني أنّها تواصل الأمانة "لسرّ التدبير الخلاصيّ" كما اعترف به وشهد له رهبان دير مار مارون، مهد كنيستنا، تبعًا "لقانون الإيمان" الذي حدّده آباء المجمع المسكونيّ الرابع في خلقيدونيا سنة 451. ويعلّم هذا القانون أنّ المسيح هو في طبيعتَين كاملتَين، إلهيّة وإنسانيّة، متّحدتين بشخص سيّدنا يسوع المسيح، وأنّ تمايز الطبيعتين يظلّ قائمًا بعد تلك الوحدة. وبهذا تأكيد على إنسانيّة السيد المسيح وحقيقة التجسّد والخلاص[1].
وقد استند آباء المجمع في تحديدهم هذا إلى الرسالة التي كان قد وجّهها البابا لاوون الكبير سنة 449 إلى فلافيانوس بطريرك القسطنطينية (446 - 449) وفيها يشجب قول الراهب أوطيخا بأن للمسيح طبيعة واحدة بعد التجسّد، بحيث يؤدّي ذلك إلى تلاشي الإنسانيّة في الألوهيّة وإلى إفراغ حدث التجسّد من معناه الخلاصيّ. واعتبر الآباء الرسالة البابويّة هذه "تتوافق واعتراف بطرس العظيم وتكوّن ركنًا مشتركًا مضادًا لذويّ الآراء الخاطئة"[2]. وممّا لا ريب فيه أن تمسّك دير مار مارون "بقانون الإيمان" الخلقيدوني، في سياق رسالة البابا لاوون، كان من العوامل الرئيسة والعريقة التي عزّزت لاحقًا شركة الكنيسة المارونيّة التامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ (عدد 29). وتعبّر ليتورجيتُنا المارونيّة بشكل بليغ عن مفاعيل سرّ التجسّد في حياة الانسان حين نردّد كلّ يوم في القداس: "وحّدت يا ربّ لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك لتحيينا وتُخلّصنا، لك المجد إلى الأبد".
غير أنّ "قانون الإيمان" الخلقيدوني لاقى منذ البداية، لأسباب لاهوتيّة وغير لاهوتيّة، معارضةً قويّةً بلغت حدّ الرفض لدى معظم المسيحيّين في شرقنا، وهم يكوّنون ما يُسمّى اليوم بعائلة الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة[3]. وتمحورت مواقفهم حول رفض التمايز بين الطبيعتين بعد التجسّد، منعًا لأيّ إنقسام بين لاهوت المسيح وناسوته، وبالتالي حرصًا منهم على الوحدة في شخص يسوع المسيح كما أقرّها آباء مجمع أفسس سنة 431. ولا بدّ لكنيستنا من أن تحمَد الله على النتائج الايجابيّة التي آلت إليها الحوارات اللاهوتيّة، الرسميّة وغير الرسميّة، في مسألة سرّ التجسّد، بين الكنيسة الكاثوليكيّة وعائلة الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة، إذ بيّنت هذه النتائج أنّ الإيمان بهذا السرّ هو واحد في جوهره ومتنوّع في تعابيره. فلا يعودُ هذا التنوّع، كما كان حتى الماضي القريب، شعار تفرقةٍ وتباعدٍ بين الكنائس، مع ما يستتبع ذلك من تراجعٍ في الشهادة المسيحيّة، بل إرثًا غنيًا ومشتركًا بحيث لا تقوى عبارة واحدة على ادراك هذا السرّ العظيم أو الإحاطة به بطريقة حصريّة ونهائيّة[4].
في هذا السياق، وإن يكن هذا التنوّع يُصيب الألفاظ والتعابير من دون المساس بالجوهر، يمكننا القول بأنّه أَسهَم في بلورة أنماطِ حياةٍ كنسيّة مختلفة ومتكاملة أثّرت في روحانيّة كنائسنا ورسالتها في بيئتها. وهكذا تعي الكنيسة المارونيّة في ضوء تاريخها الطويل أنّ إيمانها بسرّ التجسّد، وفق الصيغة الخلقيدونيّة، أسهم في تكوين روحانيّة مارونيّة متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة. وقد بدا ذلك في سعي أبنائها الدؤوب مع شركائهم في المصير، من مسلمين ومسيحيّين، إلى العمل معًا في شتّى المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، من أجل ترقّي الانسان، كلّ إنسان، ليستعيد، بيسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد، كرامته وصورة الله فيه (راجع الفصل الخامس).


[1]نورد مقتطفات من قانون الايمان الخلقيدوني: "نعلّم بالاجماع، متّبعين الآباء القدّيسين، إننا نعترف بأنّ ربّنا يسوع المسيح هو ذات الابن الواحد، هو ذاته كامل في اللاهوت وهو ذاته كامل في الناسوت... ذات المسيح الواحد، ابن، رب، وحيد، معروف في طبيعتين، بلا اختلاط، ولا تحوّل، بلا انقسام ولا انفصال، بدون أيّ إلغاءٍ لاختلاف الطبيعتين بسبب الاتحاد..."؛ الكنيسة الكاثوليكية في وثائقها، دنتسنغر – هونرمان، الجزء الأوّل، سلسلة "الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم"، عدد 27، منشورات المكتبة البولسيّة، جونيه، 2001، ص 104-105.
[2]المرجع ذاته، ص 104.
[3]تضمّ هذه العائلة الأقباط، والسريان، والأرمن، والأحباش، والإريتريين، والملنكار الأرثوذكس.
[4]قامت هذه الحوارات بشكل أساسيّ برعاية مجلس الكنائس العالميّ (جنيف) والمؤسّسة النمساويّة الكاثوليكيّة "من أجل الشرق" (Pro Oriente)، والمركز الحبريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين (روما). توجد نبذة مختصرة عن هذه الحوارات والبيانات المشتركة في رسالة البابا   يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحدًا (1995)، عدد 62- 63.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق