الجمعة، 25 فبراير 2011

هويّة الكنيسة المارونيّة (2)



كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجيّ خاصّ
تكوّنت الكنيسة المارونيّة ضمن الكنيسة الأنطاكيّة التي نشأت من تبشير الرسل وهي تعترف بأنّها كنيسة بطرسيّة الأساس. ففي أنطاكية، عاصمة الإقليم الشرقيّ في الأمبراطوريّة الرومانيّة "دُعي التلاميذ لأوّل مرّة مسيحيّين" (رسل 11/26)، وهي الصفة الجامعة بين أتباع يسوع والأساس الثابت لكلّ هويّة كنسيّة صحيحة. وفي أنطاكيّة أيضًا، انفتحت الكنيسة على الأمم فأضحت "بنت الشعوب".
امتازت الكنيسة الأنطاكيّة، منذ نشأتها، بعيش الوحدة في الإيمان والشركة ضمن أطر التعدّديّة التي وسمت شعوب هذه المنطقة من خلال تنوّع الحضارات والثقافات واللغات. وقد أكسبت هذه التعدّديّة الكنيسة الأنطاكيّة خصبًا روحيًّا وفكريًّا وغَيرة رساليّة، امتازت بها عن سائر الكنائس. وإنّ التراث المسيحيّ الأنطاكيّ يُعتبر، إلى يومنا هذا، من أغنى التراثات وأعمقها. وقد كان له الأثر الكبير في تاريخ الكنيسة وحياتها، وبنوع خاص طوال القرون الستّة الأولى، إذ أتاح للاهوت المسيحيّ أن يُفصح عن ذاته عبر تيّارين حضاريّين، تفاعل أحدهما بالآخر وتداخلا: التيّار الآراميّ-السريانيّ والتيّار الهلّينيّ. وكان التيّار الآراميّ طاغيًا في المدن الداخليّة والأرياف في حين أن التيّار الهلّينيّ سيطر على بعض المدن الساحليّة.
في هذا التنوّع الحضاريّ واللغويّ، نشأت كنائس محليّة في أنطاكيّة امتازت كلّ منها بطابعها الخاص مع المحافظة على البنية المجمعيّة التي نشأت عليها الكنيسة الأولى. وهذه البُنية تربط أواصر الشركة بين أعضاء الكنيسة المحليّة الواحدة على اختلاف مواهبهم ووظائفهم في سبيل بناء جسد المسيح الواحد. ولنا، في العهد الجديد، شواهد عديدة على قيامها وأهميّتها من حيث الحفاظُ على الشركة والوحدة (راجع رسل 2/44؛ 4/32؛ 15/1-29؛ 1 قور 12/12- 30).
في أنطاكية، عرفنا أوّل لاهوت للكنيسة المحليّة التي تظهر وحدتها وجامعيَّتها وتحقِّقها بالاحتفال الافخارستيّ. ويذكّر القديس أغناطيوس الأنطاكيّ الكنائس التي كتب إليها رسائله ليشدّدها في زمن الاضطهاد ويدعم وحدتها: "لا تشتركوا إلاّ في أوخارستيّا واحدة. فإنّه ليس لربّنا سوى جسد واحد وكأس واحدة توحّدنا بدمه، ومذبح واحد، وأسقف واحد، مع لفيف الشمامسة، رفاقي في الخدمة. وهكذا تتمّمون، في كلّ شيء، إرادة الله"[1]. فالأسقف هو خليفة الرسل، وهو يحتلّ في البنية المجمعيّة وخدمة الوحدة مكانة الأوّل الذي يسهر على اعتلان الكلمة في كنيسته المحليّة، وعلى صحّة الإيمان فيها، وعلى عيش الشركة من خلال التنوّع المتناسق. وهو المسؤول عن استجلاء مواهب الروح القدس في المؤمنين، والساهر دومًا على تبيانها وتوظيفها في سبيل بنيان جسد المسيح الواحد. وغنيّ عن القول أنّ هذه الشركة الروحيّة تبلغ ذروتها وتعتلن اعتلانًا خاصًا وبيّنًا في الاجتماع الإفخارستيّ الذي يرأسه الأسقف أو من ينتدبه هو لهذه المهمّة.
وهذا النظام الأسقفيّ المجمعيّ هو في أساس النظام البطريركيّ الذي لا يزال سائدًا في الشرق، وأيضًا في أساس المجمعيّة الأسقفيّة التي تتّسع أُطُرها لتشمل الكنيسة الجامعة. وقد كانت المجامع الإقليميّة والسينودسات البطريركيّة، ولا تزال، المكان الذي تعتلن فيه الشركة بين الكنائس المحليّة من خلال ممارسة هذه المجمعيّة الأسقفيّة بروح الشورى والمحبّة والتداول في الشؤون المشتركة واتخاذ القرارات المناسبة. وإننا نجد صدىً عميقًا في كتابات العديد من الآباء القدّيسين لهذه الروح المجمعيّة، لأنّها ضمان الوحدة في الكنيسة. لذا اعتمدت الكنيسة، منذ عهدها الأوّل، عقد المجامع وتبادل رسائل الشركة أو الرسائل السلاميّة كعلامة للشركة بين الكنائس المتعدّدة.
وتنتمي كنيستُنا الأنطاكيّة المارونيّة إلى عائلة الكنائس ذات التراث السريانيّ، في فرعَيه "الغربيّ والشرقيّ"، وبهذا التقسيم المتداوَل إشارةٌ إلى السريان القاطنين في المناطق الواقعة غرب نهر الفرات وشرقه. وقد أغنى هذا التُراثَ، في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة، آباءٌ سريان عبّروا عن إيمانهم المسيحيّ بلغة ساميّة قريبة من لغة كتاب العهد القديم. وتمحوَر نشاطُهم الفكريّ والكنسيّ حول مدارس أنطاكيّة والرُّها ونُصيبين اللاهوتيّة. وقد تجلّى هذا التراث على الصعيد الليتورجيّ بالصلوات الشعريّة التي نَظَمَها لاهوتيّون شعراء، أمثال أفرام (373+) ويعقوب السّروجي (521+) وبالاي (المتوفّى بعد 432)، وغيرهم. وهي تظلُّ حتى اليوم المصدر الأساس لنصوص الفرض المارونيّ في قسميه المخطوط والمطبوع، ما زلنا ننهل من روحانيتها العميقة المُشبعة بمراجع من الكتاب المقدّس في عهديه، القديم والجديد. وتحمل هذه الصلوات أيضًا طابعًا مريميًّا مميّزًا ودعوةً مُلحّةً إلى التوبة على رجاء ملاقاة العروس في نهية الزمن. فالعودة المرجوّة إلى هذا التراث المشترك، الذي تكوّن في أقسامه وميزاته الأساسيّة قبل نشأة البطريركيّة المارونيّة بين نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن، تجعلُ من المؤمنين الموارنة شركاء مع إخوانهم الأنطاكيّين والسريان، في ورشة عملٍ واحدة، سعيًا إلى إعادة اكتشاف هذا التُراث وإحيائه والإفادة منه، أمانةً لهويّتهم المشتركة وإغناءً للكنيسة الجامعة.
وينوّه مجمعنا بكلّ الجهود والإنجازات الكثيرة والمهمّة التي حصلت منذ بضعة عقود، في لبنان ودنيا الانتشار، بفضل الجامعات والاكليريكيّات المارونيّة وغيرها، وعمل بعض الأفراد، في مجال نبش التراث الأنطاكيّ السريانيّ، في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة، وتقديمِه في حلّة جديدةٍ تكون بمتناول أبناء كنائسنا حيثما حلّوا. ويحثّ مجمعنا تلك الجامعات والاكليريكيّات على أن تتابع احتضانها هذا المشروع بحيث لا يبقى همًّا يلتزم به بعض المستشرقين في العالم الذين قدّموا وما زالوا يقدّمون خدمات جُلّى في هذا المضمار. ويترتّب على الأبرشيّات والرهبانيّات اختيار من يتوسّمون فيهم المزايا العلميّة وحبّ اللغات القديمة والحديثة، ودفعهم إلى التكرّس لهذا العمل الشاق والمخصب في آن، مقدّمين لهم الدّعم الكافي على الصعيدين الروحيّ والماديّ. فالتكرّس لهذا العمل اللاهوتيّ هو خدمةٌ ضروريّةٌ لتعزيز رسالة كنيستنا وتأوينها في ضوء خصوصيّتها.


[1]راجع رسائل رعويّة، القرن الثاني، ترجمها وقدّم لها جورج صابر، سلسلة "الأصول المسيحيّة الشرقيّة"، 1، بيروت 1972، صفحة 129.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق