الاثنين، 21 فبراير 2011

ليتورجيا العائلة بقلم الأب هاني مطر الراهب اللبنانيّ



ما هي عائلتنا المارونيّة؟ ما هي ليتورجيّتها الخاصّة؟ وكيف تعيش هذه الليتورجيّا وتربّي عليها؟ أسئلة خطيرة وعلى جانب كبير من الدقّة، لما يترتّب في الإجابة عليها، من مسؤوليّة والتزام مسيحيّ صادق.
1-العائلة
الكنيسة المارونيّة كنيسة شرقيّة متأصّلة في بيئتها الجغرافيّة، والعائلة المارونيّة تفاعلت مع كنيستها منذ نشأتها حتّى اليوم، إذ تحلّقت الجماعة المؤمنة حول الكنيسة والدير، وتمسّكت بالإيمان المسيحيّ وبالخلقيّة الّتي يفرضها هذا الإيمان، كما شهدت، بشجاعة، لهويّتها التاريخيّة إلى جانب رعاتها، متحدّية الأخطار الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والبيئيّة المحدقة بها.
ولقد تحصّنت العائلة المارونيّة بالإيمان المسيحيّ، فانتهجت تنظيم يوميّاتها، على مثال الكهنة والرهبان، وفق الصلوات الطقسيّة المركّزة على سرّ المسيح القائم من القبر، ووفق الأعياد المريميّة وأعياد القدّيسين. وهكذا أصبحت الحياة الليتورجيّة نهج قداسة، لكلّ عائلة. فكلّ روحانيّة في حياة العائلة انتقلت من الكنيسة والبيت إلى الحقل، حيث كان أفراد العائلة يعملون معًا طوال النهار، ويغنّون ويصلّون، حتّى إنّ الصلوات الليتورجيّة نفسها انطبعت بطابع الحضارة الزراعيّة السائدة حتّى الماضي القريب، فدُعي المسيح "الفلاّح الصالح"، والعذراء "سيّدة الزروع"، و "سيّدة الفريك"، و"سيّدة الكرمة".
ولقد ظهر اسم الله في لغة العائلة بكلّ عفويّة وتلقائيّة، في الشدائد والأفراح على حدّ سواء. وازدانت البيوت، حتّى تلك البعيدة عن الممارسة الدينيّة، بصورةٍ مقدّسة ومذبحٍ وصليب كمصدرٍ للخير والبركة والأمان. و لقد اختلطت لديها، أحيانًا، بعض الممارسات الدينيّة ببعض الأعراف والعادات الموروثة، ظنًّا منها أنّها تقدّم لله من خلالها عبادةً حقيقيّة. وما كان ذلك إلاّ دليلاً على إيمانٍ بسيط تأثّر تأثّرًا عميقًا بذاكرتها الدينيّة والتاريخيّة وتقاليد الشعوب المحيطة بها الّتي تفاعلت معها.
وحظيت العذراء مريم، والدة الله الكلّيّة القداسة، بنصيبٍ وافرٍ في حياة العائلة المارونيّة اليوميّة، تجلّت بنوعٍ خاصّ في الصلوات الطقسيّة الّتي تكرّس بيتًا للعذراء مريم في كلّ لحن، والقومة الأولى من صلاة الليل، علاوةً على فروض أعيادها الملازمة للأعياد السيّديّة، كزمن الميلاد والآلام والقيامة والعنصرة والزمن العاديّ، وأعيادها المستقلّة، الحبل بها وميلادها وانتقالها، وشهر أيّار كاملاً. كما حظيت بمكانة خاصّة جدًّا تجلّت في تكريس مراكز البطريركيّة المارونيّة على اسمها. ولقد إزدانت البيوت المارونيّة بصورٍ مقدّسة يجتمع أمامها، كلّ مساء، أفراد العائلة لصلاة المسبحة والطلبة والزيّاح "يا أمّ الله يا حنونة"، و "إن كان جسمك"، ناهيك عن المزارات أمام البيوت، والتطوافات في الساحات والطرقات، فصحَّ القول إنّ الروحانيّة المارونيّة هي  ذات "طابع مريميّ" مميّز.
إنّ العائلة هي الإطار الطبيعيّ الأنسب ليحيا المسيحيّ الفضائل الإلهيةّ الثلاث، أي الإيمان والرجاء والمحبّة، وبخاصّة المحبّة، الّتي هي "صورة جميع الفضائل". فالعائلة المسيحيّة، الّتي يُحييها الحبّ الإلهيّ، تعيش المحبّة في ممارسة المسؤوليّات الزوجيّة والأبويّة والبنويّة، متخطّية الأخطار المحدقة بها، فيتمتّع كلّ فرد فيها بكرامته الإنسانيّة من دون تمييز بين سليم أو معوّق، بين معافى أو مريض، بين شاب أو مسنّ. إنّ المحبّة الّتي يعيشها جميع أفراد العائلة في وحدة صادقة روحًا وقلبًا، بنعمة الله ولأجله، تجعلُ العائلة "ما يجب أن تكون عليه أيّة جماعة إيمان ورجاء ومحبّة"، فتغدو المحبّة عملاً رسوليًّا في الكنيسة، وتنعش "روح القداسة الّتي دُعِي الجميع إليها"، كما تصبح، في نظر العالم، شهادة لحقيقة المسيح، لأنّه "إذا أحبّ بعضكم بعضًا عرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي" (يو 13/35).
من الكنيسة الجامعة إلى الكنيسة البيتيّة، من الأزواج إلى الأهل إلى الأبناء إلى كلّ فرد، تبقى مسيرة بنيان الإنسان وتكليله بالقداسة هي الغاية الأسمى لكلّ عقيدة وتخطيط وعمل. فعلى العائلة، في خضمّ مسؤوليّاتها المباشرة وغير المباشرة، أن تطلب هذه القداسة لكلّ شخص من أفرادها. وليسعَ الجميع إلى تقديس ذواتهم وبعضهم بعضًا، من خلال التكامل والاحترام وصون الكرامة الإنسانيّة. وعلى هذا الأساس، فلتسهر العائلة على تصويب مسيرة القداسة ودعمها، وعلى تحقيق دعوة المحبّة والسعادة لكلّ فرد من أفرادها ومن أفراد المجتمع، متزوّجًا كان أم عازبًا، مرتبطًا أم أرملاً أم فاسخًا لزواجه، معيلاً أم من دون بنين، إذ إنّ لكلّ من هؤلاء كرامته ودعوته ودوره في بنيان ذاته وتحقيق دعوة الملكوت فيه وفي العالم.  وعليه، فإنّه لا يجوز لأيّ فرد، مهما كان وضعه، أن يقلّل من دوره ورسالته في صقل الجماعة العائليّة الرعائيّة والكنسيّة، بل عليه أن يسعى إلى وضع مواهبه وخبراته واختباراته في خدمة البشارة وبنيان جسد المسيح.
          "إنّ الكنيسة تثق بالعائلات، وتعوّل على الأهل، وبخاصّة في آفاق الألف الثالث، لكي يحظى الشباب بمعرفة المسيح، واتّباعه اتّباعًا سخيًّا... في العائلات حيويّة روحيّة غنيّة... الأسرة هي "الكنيسة الصغرى"، وهي مدرسة الحبّ، والموقع الأوّل للشهادة المسيحيّة والرسوليّة، بالمثل كما بالكلام. إنّ سرّ الحبّ الّذي يربط الرجل بالمرأة يعكس الوحدة القائمة بين المسيح وكنيسته..."
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق