الاثنين، 28 فبراير 2011

تحيّة إلى صفير الحلقة التي لم تنكسر بقلم دنيز عطاالله/ السفير




«سبقني على الكرسي الانطاكي خمسة وسبعون بطريركا وسيأتي بعدي كثيرون، ولن اكون الحلقة التي ستنكسر». ([) 
.. ولم ينكسر. 
يذهب مار نصر الله بطرس صفير الى تقاعده المتأخر مرتاح الضمير، وان لم يكن مطمئن البال. يذهب مرفوع الهامة غير منكسر انما روحه مجرحة بأوجاع كنيسته وأبنائها. يسلم عصا الرعاية للسابع والسبعين قلقاً على الغد انما غير خائف على تجذّر كنيسته في هذه الارض. 
لم يحظ نصر الله صفير بإجماع ابنائه حوله. نادرون هم البطاركة الذين حظوا بذلك. فالتمايز والاختلاف نزعة مارونية متأصلة. لم يعتبرها صفير يوما امرا جللا ما دامت ضمن الاختلاف بالرأي وتحت سقف الكنيسة الجامعة. 
حين تروى سيرة البطاركة الموارنة ستكتب صفحات طويلة عن حبرية صفير. فخلال 25 سنة، من اصعب السنوات في تاريخ لبنان المعاصر، حمل صفير امانة كرسي انطاكية وسائر المشرق. وقف احيانا كثيرة وحيدا يدافع عن كل ما يختزنه «الوجدان الماروني». حارب وحورب من جميع ابنائه تقريبا وبقي على مواقفه. هم كانوا يقتربون او يبتعدون بحسب اهوائهم السياسية. اما هو فاختار الا ينكسر. في ازمنة الخوف والدعوة الى التقوقع والانعزال كان يتمسك بالعيش المشترك. في فترة «الوصاية» كان الصوت الصارخ في برية الاستقلال. في عهد الهجرة والنزوح لحق بأبنائه الى آخر الدنيا الى اميركا وأستراليا وأفريقيا والاتحاد السوفياتي كما الى مصر والاردن والجزائر. لكنه لم يزر سوريا مرة، وهي الجار الاقرب. ظّل يشير الى «اطماعها» بلبنان وأنها لا تتعاطى معه كوطن مستقل ذي سيادة. وعلى الرغم من مطالبته بأفضل العلاقات معها الا ان شرطه الدائم كان احترامها للبنان وعدم التدخل بشؤونه، وهو ما لم يقتنع به حتى اليوم. ولبنان هو عشق صفير الثاني بعد الحرية. كانت مرارته الدائمة ان المسيحيين لا يقدرون هذا البلد وتضحيات آبائهم ليتنعموا هم بهذا الكيان ـ الحلم. وكان يشعر بحزن مماثل لعدم معرفة المسلمين قيمة هذا البلد - الرسالة. ومع ذلك ظل يراهن على لحظة ما تجمعهم حول هذا الوطن. 
توسعت كنيسته وانتشرت على امتداد العالم. انشأ ابرشيات جديدة في قبرص وحيفا والمكسيك والارجنتين ولوس انجلس. اصبح الموارنة خارج لبنان أضعاف من هم في داخله. لبنان الذي يعرفه تغيّر، ومع ذلك بقي يحتل منه القلب والعقل. قال «ان الموارنة في خدمة لبنان وليس لبنان في خدمة الموارنة» وأدرج ذلك في توصيات المجمع البطريركي الذي هو احد انجازاته. فيه اجرت الكنيسة مراجعتها النقدية لمرحلة طويلة، لا سيما سنوات الحرب، ورسمت خارطة طريق لمراحل مقبلة. 
قبل ان يبلغ واحدا وتسعين عاما في ايار المقبل سيكون صفير قد ترك سدة البطريركية بعد 25 عاما على تبوئها. واحد وتسعون عاما قضى معظمها «حارثا في حقل الرب» كما اختار. فالابن الوحيد لمارون وحنة تسلل الى الدير حيث كنزه وقلبه. وهناك انهمك في الدراسة والعمل وحمل الاسرار الى ان انتخب بطريركا في 19 نيسان 1986 فارتجل كلمة قال فيها «انتخبتموني بطريركا اي رأسا وأبا وآليتموني شرفا اثيلا وحملتموني صليبا ثقيلا. انتخبتموني ولست بألمعكم ولا بأعلمكم ولا بأقدركم ولا بأوجهكم، لكنها إرادة الله». ومنذ لحظة الارتجال تلك لفتت فصاحته وقدراته اللغوية الأنظار. فأستاذ الفلسفة واللغة العربية، يحب هذه اللغة. يتقن ستاً غيرها لكنها الاحب الى قلبه. لا يخطئ في الارتجال ويستعين احيانا بكلمات تحتاج من العامة العودة الى القواميس. 
كثيرة هي مميزات السادس والسبعين على كرسي انطاكية. كثيرة هي انجازاته. لكن لنصر الله صفير عثراته ايضا. فالكنيسة تحتاج الى الكثير: الى اعادة مأسسة وخلق دوائر نشيطة وإشراك اكبر للعلمانيين. تحتاج الى رعاة قريبين من هموم الناس ومن اوجاعهم ومن ترجمة عملية لتوجهات المجامع الكنسية من الفاتيكاني الثاني الى اليوم. بكركي ايضا تحتاج الى ضخ الروح في هيكليتها كما الى احتضان اوسع لكل ابنائها. 
ومع ذلك يمكن لصفير ان يسير الى تقاعده مرتاحا الى تسليم الامانة. فهو لم يفرط بوزناته، لا بل ضاعفها وصعّب على خلفه التنازل او التفريط بأي منها. 
«فاذهب بسلام وصلِّ عنا و.. برخ مر ريش ريشونه (بارك يا سيد يا رئيس الرؤساء)». 
([) من كتاب انطوان سعد «السادس والسبعون»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق