الاثنين، 21 فبراير 2011

على صورة مارون...نستلهم قيمه بقلم الشاعر حبيب يونس

عائلة مارونيّة 

1600 سنة من عمر المارونيَّة... وبدءًا من 9 شباط، مئويَّة جديدة، واليوبيلات تتوالى حتَّى انقضاء الدَّهر، آمين. لمناسبة عيد القدِّيس مارون، أراني معنيًّا بجمع ما أفكِّر فيه عن الجماعة المارونيَّة،
 قل عن الأمَّة المارونيَّة، وما كتبته في محطَّات عدَّة عنها، في زمن يشهد تحولَّات كبيرة متسارعة من حول لبنان الَّذي يتَّجه إلى تغييرات هو أيضًا... لعلَّ هذه الأفكار تسهم في فهم من هو المارونيُّ ودوره، وقدرته الجبَّارة الدَّائمة على الفعل والرِّيادة.
"جميل أن تكون لبنانيًّا، لكنَّ الأجمل أن تصبح لبنانيًّا". قول لفيرجيل جورجيو لَخَّص فيه إعجابه بهذا الوطن وإنسانه، بعدما عاين مأساته عبر التَّاريخ الطويل، وبخاصَّة إبَّان الحرب الأخيرة. قول في العام تنطبق صيغته وجوهره على الخاص، إذا تبحرنا في تاريخ الموارنة وتراثهم، فيصحُّ أن نعلن أيضًا: "جميل أن تكون مارونيًّا، والأجمل أن تصبح مارونيًّا، أو أن تختار أن تكونه".
ليس في الأمر تبجُّح أو تعصُّب أو عنجهيَّة أو عنصريَّة، بل مجرد شهادة حقٍّ في جماعة كانت حتى الأمس القريب، ويمكنها أن تكون الآن وغدًا، ما قاله فيها، على سبيل المثال لا الحصر، ثلاثة كبار:
-      الراهب الكبوشي سيلفستر دي سانت إينيان، أواسط القرن السَّابع عشر: "عيشهم مثاليٌّ كمسيحيين أصلاء، ولا يجوز لنا، نحن الأوروبيِّين، أن ندَّعي أنَّنا في إمكاننا التشبُّه بهم، ولو من بعيد... بل علينا أن نقرَّ بخجلنا علنًا. وكذلك نساء الموارنة هنَّ الأكثر فضيلة وحشمة وتقوى من كل نساء الشَّرق".
-      النَّبيلة الفرنسيَّة الكونتيسَّة دافيو دي بيولان الَّتي زارت لبنان العام 1880، وقالت إنَّها "تعود إلى المناهل لتتمكَّن من الدِّفاع عن إيمانها في بلادها".
-      الشَّاعر الفرنسي ألفونس دي لامارتين الَّذي خاطب شعبه، في مقدمَّة ديوانه "سقطة ملاك"، هو الَّذي أمضى سنوات في لبنان، قائلًا: "إنَّ هناك شعبًا بأكمله يسير على هدي الفرائض المقدسَّة... من هو هذا الشَّعب المقدَّس؟ إنَّه الموارنة: شعب عُبَّاد وسلالة نسَّاك. وإذا أردتم أن تعرفوا كيف تكون المسيحيَّة الحقُّ، فاذهبوا إلى لبنان وانظروا كيف يعيش الموارنة".
وعليه، ماذا يعني اليوم أن تكون مارونيًا؟ وهل الصورة عن الموارنة، أو لنقل عن المارونيَّة، المنطبعة في ذهن الموارنة أنفسهم، قبل غيرهم، من تشتُّت واقتتال وشعور بالظُّلم وسعي إلى المناصب، ويأس وهجرة وانكفاء وتراجع، هي الصُّورة الحقيقيَّة؟
الأكيد أن لا. فشعب هو ابن ديانة التَّجسُّد والرَّجاء، وقد عاشها وناضل من أجلها، مذ كان، لا تلوي ذراعه عاصفة، مهما عتت، ولا تحني جبينه كبوة، ولو رمت بجواد أرضًا، ولا تثبط عزيمته مظالم، مهما تنوَّعت وطالت، بل يستطيع أن يستعيد إشراقه وريادته، بإرادة يستمدها من إيمان عقيدة وتراث وأجداد صنعوا معجزة في هذه الأرض، بهرت جميع من على هذه الأرض.
ماروني؟ يعني أن تكون هذه الثَّلاث:
-  أن تكون شاهدًا للحقيقة وعليها... حتى الشَّهادة: مثلما كان الموارنة الأول. تبعوا القدِّيس مارون في طريقة عيشه ونسكه وزهده، في جبال القورشيَّة، وبذلوا أجسادهم لإحياء الرُّوح وبلوغ الكمال، تاركين كلَّ شيء ليتَّبعوا المسيح، كما طلب منهم. وراح تلاميذ مدرسة النُّسك هذه يبشِّرون بمبدإها، وانتصروا لعقيدة المجمع الخلقيدونيِّ القائلة بطبيعتي المسيح ومشيئتيه، الإلهية والإنسانية، فاضطهدهم أتباع البدع مناهضي الخلقيدونيَّة، وقدَّموا أجسادهم وأرواحهم قرابين ليشهدوا لتلك الحقيقة. لجأ رهبانهم وبعض أسرهم إلى جبال لبنان الَّتي لفحها شعاع المارونيَّة، أقوى من أشعَّة شمس، فشعروا أنهم بين أهلهم، وأنَّهم سيكملون رسالة النَّاسك. تجمَّعوا. استلهموا طبيعة تلك الجبال المحصَّنة المنيعة وعنفوان شعبها وإرادة الحياة وقوة الإيمان فيه، فكانت الكنيسة المارونيَّة، الأمة المارونيَّة، وليدة ما يجمع عليه البيولوجيُّون وهو أن "كلَّ كائن حيٍّ هو وليد عنصرين أساسيين: التُّراث الإرثيِّ والبيئة الطَّبيعيَّة". وكذلك كان أوَّل بطريرك وصولًا إلى السَّادس والسَّبعين، بلا انقطاع. كنيسة تشبَّثت بالإيمان والأرض، فثبَّتت الكنيسة الأمُّ في روما بطاركتها، بدءًا بأوَّلهم، ورفدتها برهبان وعلماء وشهادات حياة وإيمان وتقوى، حتى قيل: "عالِم كماروني"، ووصفها باباوات بأنها "زهرة بين أشواك"، وخصَّها البابا الراحل يوحنا بولس الثَّاني بمجمع من أجلها، يقام أصلًا لقارَّة، لا لوطن قال فيه "إنه أكثر من وطن، إنَّه رسالة".
في تلك الجبال بدأت المعجزة: جرداء كانت فصارت عنوانًا للخصب والخير والعطاء. شبه موحشة كانت، فأخذت تعجُّ بالصَّلاة تتلى على طرق المعاول. مقصدًا للطامعين بنبتة الخلود فيها كانت، كما في ملحمة "غلغامش"، ففتحت ذراعيها لكلِّ طالب أمان وسلام. مكانًا خطرًا كانت يخشى أن يطأه كثر، فدعت النَّاس إلى عشق الخطر والسكن فيه وعيونهم على أوَّل نقطة في داخل المستحيل، لا الوقوف على حافَّته، وإلا بقوا تافهين. وكان أنَّهم احترفوا الصَّعب، وتركوا الهيِّنات لغيرهم.
- أن تكون رسولًا شموليًا... لا مجرَّد مغامر: المفارقة أن هذه الحياة المنعزلة في بقعة من الأرض صغيرة ووعرة وضيقة، أنبتت إنسانًا شموليَّ النَّظرة والتَّفكير، فلم تقوقعه فكرة، ولا كبَّله رأي. وبمقدار ما كان مضيافًا، قل سلطانًا مخفيًا لأنه فلَّاح مكفيٌّ، إنطلق إلى العالم الواسع، لا ساعيًا إلى لقمة العيش فحسب، مغامرًا في مشارق الأرض ومغاربها، بل أيضًا ليبشِّر بعقيدته، وينشرها فكرًا وأدبًا ورسالات وكنائس وأديارًا، مسهمًا في إغناء الحضارة العالميَّة، ومنهضًا شعوب المنطقة. ألم يكن اللبنانيُّون، ولاسيَّما منهم الموارنة، روَّاد النهضة الحديثة؟ فكيف يكون منعزلًا ومنطويًا من يشارك فكره الآخرين، ويدلهم إلى دروب العلم والخير والحقيقة، ليجاروه، فيهنأ العيش بين متساوين.
- أن تكون بسيطًا... إلى أقصى درجات العمق: بساطة تعني القناعة، تجسِّد الوضوح، تجمِّل الجمال، تحاكي في المسيح حبَّه للبشر وعيشه بينهم، وتجعل من النُّسك والزُّهد أسلوب حياة وسط الحياة، وليس بالضرورة على قمَّة جبل أو على عمود. بساطة تشبه الأرض التي ارتسمت على أيدي الفلَّاحين جلولًا وجنائن... وخيرات، تعبِّر عنها خير تعبير الألحان السُّريانيَّة المارونيَّة الَّتي تشدُّ الرُّوح إلى خالقها، بنغمات قليلة محدودة، مثلما تنقل السَّامع إلى نشوة الفرح. بساطة تجلَّت في عيش المسيحيَّة الحقِّ كلَّ لحظة، في الكنيسة والمزار والمعبد والدَّير والمنزل والحقل والمدرسة وحتى في أسماء العلم (تيمُّنًا بقديسين أو أماكن عبادة من مثل قزحيَّا وحريصا) وأسماء العائلات (المطران، الخوري، الشَّمَّاس، الشِّدياق، القندلفت).
وبهذه البساطة كان بين الموارنة علماء، وكان بينهم قديسون... وكان أبطال.
ربَّ قائل إن هذا كان من زمان. فماذا عن اليوم؟ ما كان من زمان، باقٍ وإن لم يُضوَّأ عليه، وسيبقى ما دام ثمَّة مارونيٌّ واحد. فلا ندعنَّ الشَّواذ الظَّاهر يصبح القاعدة، أو يغلبها. وفي هذا السِّياق، ثمَّة اقتراحات أسهمتُ في وضعها مع آخرين، قبل أعوام، من ضمن شرعة مارونيَّة أؤمن بها بداية خلاص، وعودة إلى دور الرِّيادة، تقوم على عشرة مبادئ:
أولًا - أن نعي ماهيَّتنا المارونيَّة: روحيًّا بأنَّنا ننتسب الى القدِّيس مارون النَّاسك الَّذي عاش الإنجيل في بساطة وإخلاص وتفان وبطولة، فنكون على صورته ونستلهم قيمه، وزمنيًّا بأنَّنا ننتسب إلى تراث حضاريٍّ أنطاكيٍّ سريانيٍّ مرتبط جذريًّا بصميم لبنان، ومترسِّخ فيه حضورًا وعطاء وقيمًا.
ثانيًا - أن نستكمل الرِّسالة المارونيَّة الَّتي واكبت الكيان اللُّبناني في كلِّ مراحله، وكانت في أساسه، بخاصَّة مذ أصبح دولة، بالمفهوم الحديث للدُّول، فنستعيد، كجماعة لا كأفراد فحسب، ريادتنا في هذا المجال، مع إخوتنا في المواطنيَّة اللُّبنانيَّة.
ثالثًا - أن ندرك أن الجماعة المارونيَّة آن تتفكك وتتوانى عن الفعل، يتزعزع الكيان اللبنانيُّ، وآن تحزم أمرها وتشحذ عزيمتها وتفعل وتنهض، ينهض لبنان ويتعافى.
رابعًا - أن نقرَّ بحق كلِّ مارونيٍّ في الاختيار السياسيِّ، على أن تصبَّ كل الآراء، مهما تباينت، في إطار المصلحة المارونيَّة، بخاصَّة، واللُّبنانيَّة، بعامَّة... وما تعدُّد الآراء سوى غنًى وقيمًا مضافة، فلا نخافنَّ من رأيين مختلفين.
خامسًا  - أن نجسِّد شعار الوطن - الرسالة بترسيخ الحياة اللُّبنانيَّة الشَّاملة الواحدة، ضمن المواطنيَّة الحق، بعيدًا من التَّكاذب.
سادسًا - أن نعود إلى مفهوم الكنيسة المارونيَّة الأولى، أي أن الموارنة، إكليروسًا وعلمانيِّين، جماعة واحدة متناغمة مترابطة متآلفة.
سابعًا - أن نعدَّ المنصب، أيَّ منصب، مسؤوليَّة وخدمة، وتكليفًا لا تشريفًا... عملًا بقول السَّيِّد المسيح: الكبير فيكم فليكن خادمًا لكم.
ثامنًا - أن نعمل على جمع الطاقات المارونيَّة في مختلف الميادين، لتعميم الثَّقافة المارونيَّة على الجميع، موارنة وغير موارنة، إحياء لشعار: عالِم كمارونيٍّ.
تاسعًا - أن نضع خطَّة عمليَّة، ينفِّذها رسل، تنتهي بإقامة مؤسَّسة مارونيَّة عالميَّة، من أبرز أهدافها: إحصاء الموارنة المنتشرين في العالم، وإعادة وصل ما انقطع معهم، واستثمار طاقاتهم في خدمة وطنهم الأمِّ وأبنائه، بخاصَّة على المستويات الإقتصاديِّ والإجتماعيِّ والتَّربويِّ.
عاشرًا - أن نركِّز على حقيقة قدِّيسينا الثَّلاثة في هذا العصر شربل ورفقا والحرديني والطُّوباويَّين إسطفان نعمة ويعقوب حدَّاد الكبُّوشي (واللَّاحقون على دربهم كثر)، لنؤكِّد أنَّ أرضنا ما زالت أرض قداسة تنبت أبرارًا وقدِّيسين.
أصعب أن نبدأ؟ وإذا بدأنا، أصعب أن نكمل؟ وإذا أكملنا، أصعب أن نصل؟ قليل من الإرادة هو المطلوب، وكذلك قليل من الإعتراف بالخطأ، وكثير من التسامح والغفران... فلا ننسى، بل نعتبر. فلنبادر، مثلما بادر ذاك الضَّابط في جيش الملك اليونانيِّ، دون غيره من القادة والوزراء والوجهاء والمسؤولين، لإيصال رسالة إلى "غارسيَّا" حاكم إحدى الجزر اليونانيَّة الَّتي كانت محاصرة من الأتراك، يتوقَّف على مضمونها انتصار تلك الجزيرة. يومذاك استغربت حاشية الملك كيف يثق بهذا الضَّابط الشاب ويسلِّمه الرِّسالة، فأجابها لأنَّه لم يزعجه بأيِّ سؤال مثل الآخرين، وانبرى للمهمَّة غير آبه بخطر أو مفتِّش عن مكسب "وأنا واثق من أنَّه سينجح"... ونجح.
فلنبادر إذًا، من دون سؤال، خصوصًا أنَّنا على عتبة انتخاب بطريرك جديد آمل في أن تكون هذه الأفكار على جدول أعماله، ولنعدَّ كنيستنا المارونيَّة، لا صخرة لن تقوى عليها أبواب الجحيم فحسب، بل ووردة بين أشواك العولمة والبدع والكفر والإلحاد والجهل والتَّعصُّب والهمجيَّة والعنف والإرهاب، ماؤها من الأرض وللأرض، وعطرها للنَّاس... وصولًا إلى السَّماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق