الأربعاء، 16 فبراير 2011

مار مارون والشهادة المارونيّة للأب جورج مسّوح


القدّيس مارون




غداً، الرابع عشر من شهر شباط، تعيد الكنيسة الارثوذكسية لتذكار القديس مارون الناسك، الذي اسمه تصغير للفظ "مار" ويعني بالسريانية "السيد". فمار مارون، الذي توفي في بدايات القرن الخامس الميلادي، عاش قبل زمن الانشقاقات الكبرى التي جعلت الكنيسة الواحدة كنائس متفرقة. فهو لم يشهد مجمع أفسس وانشقاق النساطرة (431)، ولم يشهد مجمع خلقيدونية وانشقاق اصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح (451)، ولم يشهد الانشقاق الكبير بين مسيحيي الشرق والغرب (1054).
بيد ان القديس مارون لم يشهد ايضاً نشأة الكنيسة المارونية التي وُلدت إبان القرن السابع، اي بعد نحو ثلاثة قرون على وفاته. اما تسمية الكنيسة المارونية فتعود الى دير القديس مارون الذي شيّده أتباع مارون وتلاميذه في منطقة أفامية (المعروفة اليوم باسم قلعة المضيق) القريبة من حماه في سوريا على ضفاف نهر العاصي، وقد شهد هذا الدير ازدهاراً كبيراً في ذلك الزمان. وما يمكن تأكيده عن تاريخ الموارنة في السنين الاولى لكنيستهم يقتصر على ان يوحنا مارون، بطريركهم الاول (توفي العام 707)، هو الذي أنشأ تنظيماً كنسياً خاصاً بهم مستقلاً عن باقي الكنائس المشرقية.
لا يذكر ثيوذوريطس اسقف قورش (توفي العام 466)، صاحب كتاب "تاريخ اصفياء الله" المرجع الوحيد لسيرة مارون، في اي بقعة جغرافية من سورية تنسّك مارون. وهو يقول ان القديس كان يتمتع بموهبة الاشفية حتى ذاع صيته في كل مكان، فكان يستثمر هذه الموهبة لارشاد الآتين اليه للشفاء الى التعليم الحق. وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان ايضاً يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافياً هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحاً هذا التعليم المؤدي الى الحكمة، وواضعاً لذاك الارشادات الى الفضيلة، مروّضاً ميوعة هذا، ومنعشاً ذاك من كسله".
القديس مارون ينتمي، اذاً، الى الكنيسة الجامعة وليس حكراً على جماعة مسيحية من دون اخرى. هو ابن هذه البقعة المباركة التي تضمها كنيسة انطاكية وسائر المشرق، هذه الكنيسة التي عرفت تاريخاً مليئاً بسير الشهداء والقديسين والابرار وكبار المفكرين الكنسيين. هو ابن هذه الكنيسة التي شهد فيها المسيحيون بالكلمة وبالحياة لإيمانهم الحي. هو ابن هذا المشرق الذي نطق أبناؤه الانجيل بالآرامية والسريانية واليونانية والعربية. مارون هو نموذج القديس الناسك، والزاهد بالدنيا وبهارجها.
غير ان الكنيسة المارونية، وبلا ريب، قد تأثرت بالقديس مارون ونهجه. فهي كنيسة عانت الاضطهاد كثيراً، وأوى ابناؤها الى اعالي الجبال هرباً من بطش المخالفين لهم، وعاشوا في ظل ظروف قاسية. لذلك غلب عليها، وما زال الى يومنا الحاضر، طابع التقشّف والنسك. ميزة الكنيسة المارونية تكمن في هذه الروح البسيطة المسكوبة في عباداتها وطقوسها السريانية النابعة والمتماهية مع التقليد الشعبي العريق. هي كنيسة مدعوة الى المحافظة على هذا التراث العظيم.
تدرك الكنيسة المارونية انها كنيسة انطاكية الهوية والانتماء، سريانية المنشأ، وقد تعرّب لسانها وكتبها الدينية منذ قرون. كما ثبّت المجمع البطريركي الماروني هذه الهوية ضمن اطار الشهادة المسيحية في المجتمعات العربية. وهي مدعوة، كشقيقاتها الكنائس الانطاكية الاخرى، الى الاسهام في نهضة الاوطان العربية التي تضمها الجغرافية الانطاكية. ولم يغفل المجمع البطريركي عن هذا الامر حين اكد ابتعاده من تبني اي طرح "قوموي لبناني" او "قوموي عربي"، من دون ان يتنكّر "للقضايا العربية المصيرية، لا سيما ازاء العامل الصهيوني".
الكنيسة المارونية جزء عزيز من هذه الكنيسة الانطاكية المشتتة طوائف وكنائس عديدة. ولا بد لهذه الكنيسة المارونية، اذا شاءت الشهادة للمسيح في هذه الديار، من ان تحض ابناءها على ابتداع ادوار ريادية يؤدّونها في مجتمعاتهم المتنوّعة، كما فعل اجدادهم من صانعي عصر النهضة العربية. فانكفاء دور الموارنة السياسي ينبغي الا يؤثر سلباً على دورهم التربوي والفكري والديني والثقافي والحضاري. فهم قبل ان يتسلموا المواقع السياسية العليا في لبنان برعوا في كل الميادين الاخرى، وكانوا من أركان الفكر العربي الحديث.
القديس مارون لا ينحصر في امة او في كنيسة او في قوم. هو قديس الكنيسة الجامعة، قديس الكنيسة كلها. والتاريخ الحقيقي هو تاريخ القداسة. فعسى ان يغدو تاريخ الموارنة تاريخ قداسة وحسب.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق