الاثنين، 14 فبراير 2011

كتاب مفتوح إلى مار مارون بقلم ماري القصيفي (النهار)


وادي القدّيسين في قنّوبين


في مرحلة تكثر فيها الكتب المفتوحة إلى الزعماء والقادة، وتتلاحق الرسائل الملغومة والمفضوحة بين الموالين والمعارضين، وفي أيّام تشهد تغيّرات جذريّة تذكّر بما كانت عليه الأمور منذ أكثر من 1600 سنة (تفكّك وتشكيك وفوضى وبِدع) أحببت أن أراسلك أيّها الناسك العزيز. لكن اسمح لي أولاً أن أنبّهك إلى أنّني سأخاطبك بغير اللغة التي ستسمعها خلال هذا الشهر الذي يبدأ بعيدك في التاسع منه أي غدًا وينتهي برفع تمثالك في عاصمة الكثلكة. ولا أكتمك أنّ رفع الكلفة بيننا يغريني، فكونك سابقًا للطائفة التي تحمل اسمك جعلك تنجو من لوثة الغرور وادّعاء المعرفة والتفرّد بالرأي، ولن يزعجك أو يحطّ من قدرك أن تسمع نصيحة أو أن يشير إليك أحدهم برأي، في حين غرق أكثر أتباعك في كلّ ذلك وفي ما هو أخطر منه. سأحدّثك أيّها الناسك اللطيف عن الحقائب، وأنت الذي عاش بلا بيت أو حقيبة أو حرّاس، لأخبرك كيف أنّ أبناء شعبك موزّعون بين الذين يبتاعون حقائب الهجرة وأولئك الذين يتهافتون على الحقائب الوزاريّة. وسأحدّثك، يا من زهدت بالدنيا وافترشت التراب والتحفت بعباءة النسك، عن الكراسي التي يتقاتل حاملو اسمك للحصول على أعظمها وأفخمها. لكن دعني بداية أعتذر بالنيابة عن القادة الموارنة المهمومين وأطلب منك ألاّ تؤاخذهم إن صدعوا رأسك بالطلبات والتمنيّات التي لن تكون إلاّ على مستوى الدرك الذي انحطّوا إليه. غير أنّ القليل الذي أعرفه عنك والكثير الذي أعرفه عن موارنة اليوم يسمحان لي بالاعتقاد بأنّك لن تفاجأ بصلواتهم التي تثقل كاهلك وتتعب قلبك وتؤلم روحك وإن كان لا ألم ولا تعب ولا عبء حيث أنت.
أيّها الناسك القدّيس، كلّ سياسيّ مارونيّ يطلب منك اليوم منصبًا رسميًّا يرضي طموح والديه ويشبع رغبات حرمه المصون ويميت المارونيّ الآخر غيظًا، وكلّ صاحب سيادة من المطارنة يراهن عليك كي توصله إلى سدّة البطريركيّة المارونيّة ليستقرّ سعيدًا على كرسي إنطاكية وسائر المشرق، وكلّ كاهن يحلم بعصا المطرانيّة، وكلّ علمانيّ يأمل بأن يكون من المنعَم عليهم في العهد الجديد المنتظر في آذار. وكلّ ذلك بشفاعتك ومن أجل الطائفة التي تحمل اسمك. غير أنّ هذا الوضع لا يعني أنّ الموارنة لم يحقّقوا إنجازات سجّلها لهم التاريخ، فهم رغم اختلافاتهم وخلافاتهم، توصّلوا، وانسجامًا مع تاريخهم في الحفاظ على اللغة والتواصل، إلى وضع معجم حديث للكلمات والمصطلحات التي أسرع زعماء الطوائف الأخرى لتعلّمها واستخدامها والقياس عليها بحسب ما تقتضيه الظروف، حتى تفوّقوا على الموارنة. وإليك بعض الأمثلة كي لا تكون غريبًا عن لغة أبنائك: الحريّة صارت تعني الانفلات الأخلاقيّ، والمأسسة تعني تأمين مصالح ذوي القربى، والكهنوت وظيفة تؤمّن الدخل المحترم للمحترم، والرهبنة أسرع طريقة للشهرة، والمدرسة شركة مساهمة في نشر الجهل، والجامعة مزراب ذهب، والدير ثكنة عسكريّة ثمّ خليّة حزبيّة ثمّ محطّة للسياحة الدينيّة، والمغتربون ورقة ضغط تستعمل عند الحاجة، ومحاكم الطلاق خلايا نحل؛ وتحوّل العلمانيّ من حجر بناء إلى حجر رشق وتكسير، أمّا التطوّر فانتقال من الصومعة إلى الفندق، ومن العمل في الأرض إلى المتاجرة بها، ومن الكنيسة إلى الملهى، ومن تحت السنديانة إلى الصحراء. ولن أحدّثك عن المارونيّة السياسيّة لأنّ الشيعيّة السياسيّة تخطّتها بأشواط في مجال تهميش الآخرين، والسنيّة السياسيّة سبقتها بكثير في مجال سوء الرؤيا، والدرزيّة السياسية سجّلت عليها نقاطًا كثيرة في مجال التقوقع والتقلّب، وهكذا سائر المذاهب.
غدًا يا أبانا مارون يحتفل الزعماء الموارنة بعيدك، ويطلبوا من الله بشفاعتك سلامًا على قياس رغبات كلّ منهم، وأن يقبل بمحبّته وحنانه الذبيحة المقدّسة التي قدّموها وأن يجعل بها: للخطأة  (هم طبعًا ليسوا منهم) غفرانًا، وللمرضى (الذين أهملوهم لانشغالهم بمصالحهم) شفاء، ولمنكسري القلوب (زعاماتهم لا تصل إليها أصوات الأنين) رجاء، وللحزانى (الذين تسبّبوا بفقرهم) عزاء، وللموتى (الذين قتلوهم) راحة، وللأسرى (الذين لا يجرؤون على فتح ملفّاتهم) خلاصًا، وللمسافرين (الذين هجّروهم بحروبهم) رفيقًا، وللبعيدين (الذين أبعدوهم بجشعهم) مرشدًا، وللقريبين (الغارقين في اليأس) حافظًا، وللحكّام المؤمنين (كلٌّ منهم يؤمن بنفسه) نصرًا. غدًا، يا صاحب العيد، لا تأتي إلى العيد، فثيابك الرثّة لا تليق بالعباءات المطرّزة والبذلات الأنيقة، ولحيتك الكثّة ستسرق الأضواء عن الذقون الناعمة، ونحول جسمك سيفضح ترهّل الأجساد. غدًا يا صاحب الاسم الذي يعني السيّد الصغير لا تأتي إلى العيد لأنّ مرافقي السادة الكبار لن يسمحوا لك بالدخول إلى حيث الاحتفال بك راحلاً وتاركًا لهم ما يتنعّمون به ويعيشون من خيره. ولكنْ في بيتك يا مارون منازل كثيرة، وعشرة صالحون يستحقّون شفاعتك وصلاتك. فلأجل هؤلاء أنقذ الموارنة ممّا هم فيه، وعلّمهم أن يتاجروا بالوزنات التي أعطيت لكلّ منهم لا بالوطن الذي بنوه، وأن يشعلوا المصابيح وينتظروا الخلاص لا أن يحرقوا الأرض ويتخلّصوا من بعضهم، وأن يكونوا أصحاب دور حضاريّ لا أصحاب طموح آنيّ، وأن يتحالفوا مع السماء لا مع الشيطان، وأن يفهموا النسك طريقًا للآخر وملجأ له لا انعزالا عنه وهربًا منه، وأن يعرفوا أنّ الحريّة بمعناها الحقيقيّ هي رسالتهم أينما وجدوا، وأن يفهموا أن لا حريّة من دون ثلاثة: الشجاعة لكي تُمارَس، والمحبّة لكي لا تكون على حساب الآخر، والوعي لكي لا تكون غرائزيّة هوجاء. فهلاّ تشفع للموارنة يا مارون فيستعيدوا هذه الحريّة التي ارتبطت باسمهم؟
ماري القصيفي
mariekossaifi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق