الخميس، 10 فبراير 2011

المسيحيّون في الإدارات العامّة: أهل ذمّة؟ بقلم داني حدّاد


 25 / 08 / 2010


 ما أشبهنا بالتفاح، أحمر وأخضر وأصفر... ولكن "كلّو تفاح"، وكلّنا لبنانيّين! في بلدٍ طائفي، حتى إشعارٍ آخر، أبديّ على الأرجح، لا بدّ من مقاربات طائفيّة للواقع. في هذه السطور، وعلى حلقات ثلاث، مقاربة موضوعيّة، نأمل، لقضيّة الحضور المسيحي في الإدارات الرسميّة. اليتم المسيحي... والدور المفقود لا يجيب وزير مسيحي لبناني، من أهل الموالاة، مباشرةً على السؤال عن واقع المسيحيّين في الإدارات العامّة. يعود الى "الجوهر"، كما يقول،ليروي: "يعاني المسيحيّون في لبنان من "مصيبتين": إسرائيل والخليج. "مصيبة" إسرائيل أتت بمئات آلاف الفلسطينيّين الى لبنان، جُنّس بعضهم، و"توطّن" بشكلٍ شبه رسمي البعض الآخر. وأدّى وجود إسرائيل، وخصوصاً احتلالها لبنان، الى نشوء المقاومة واهتمام إيران بلبنان وتصدير "الثورة" إليه و"إغراق" المناطق الشيعيّة بالأموال".
يضيف الوزير اللبناني: "وجد أبناء الطائفة الشيعيّة، الذين لطالموا عانوا من حرمان، في مؤسسات الدولة خير سندٍ لهم خصوصاً بعد أن عانوا من التهجير من جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لقراهم، شجّعتهم على ذلك أحزابهم، وخصوصاً حركة "أمل" التي عمل رئيسها على الدفع بالآلاف من الشيعة الى الانضمام الى الإدارات والمؤسسات الرسميّة، في توظيفٍ عشوائي في غالب الأحيان". في المقابل، والكلام دوماً للوزير المسيحي اللبناني، "تدفّقت الأموال من الخليج النفطي الى المناطق السنيّة. كان المال السياسي المسيحي محدوداً بسبب افتقاد الدعم المالي الخارجي، فأتى رفيق الحريري ليصرف ملايين الدولارات وليعلّم عشرات الآلاف من التلامذة، غالبيّتهم من الطائفةالسنيّة، وهم باتوا اليوم قوّة انتخابيّة في النقابات، وقوّة اقتصاديّة فاعلة. أمّا وصول الرئيس الحريري الى الحكم فساهم في دخول الكثيرين من أبناء الطائفة السنيّة الى الإدارات، وخصوصاً الى المواقع الفاعلة فيها، حتى أصبحت وزارات كثيرة سنيّة الطابع". وحين نستغرب التوصيف الطائفي للوزير، يشير الى أنّه يصف الواقع كما هو، وباختصارٍ شديد، ولا يتحدّث من منطلقٍ طائفي، "خصوصاً أنّ المسيحيّين باتوا مجرّدين من قوّة دعم خارجيّة، سياسيّة وماليّة، في حين ينعم السنّة والشيعة كلٌّ بدعم مالي كبير، للأحزاب والجمعيّات والمؤسسات الروحيّة والتربويّة والقيادات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ما أدّى الى فقدان المسيحيّين لصفة التميّز لديهم، حيث كانوا رأس المال وروّاد العلم"....
 ويلفت الوزير الموالي الى أنّ الحضور المسيحي في الإدارات الرسميّة انكفأ بعد نهاية الحرب اللبنانيّة بالتزامن مع انكفاء حضورهم السياسي وبروز قيادات سياسيّة جديدة عملت على الدفع بمناصريها والمحسوبين عليها بالدخول الى الإدارات، ولكن بشكلٍ محدود، خصوصاً أن مناخ الإحباط المسيحي الذي كان سائداً في حينها ورفع شعار "الدولة ليست لنا" حال دون تشجيع المسيحيّين على التوظيف و، خصوصاً، على التطوّع في المؤسسات الأمنيّة. وعن الدور المتاح أمام الأحزاب المسيحيّة، خصوصاً الموالية منها، لتصحيح هذا الوضع، يقول: "لا إمكانيّة في المستقبل القريب لتصحيح الخلل، إلا أنّنا نعمل على تشجيع المسيحيّين على الدخول الى الدولة، كما على استعادة بعض المواقع الإداريّة التي فقدوها، ولعلّ التعيينات الإداريّة المنتظرة ستكون فرصة سانحة، مع اعترافنا بصعوبة تحقيق هذا الأمر بسبب عدم وحدة المسيحيّين في المطالبة بحقوقهم، بالإضافة الى أنّ ذهنيّة تجنّب الوظيفة الرسميّة ما تزال سائدة لدى المسيحيّين، خصوصاً في المدن".
وإذ يبدو الوزير متشائماً في نظرته المستقبليّة، يؤكّد، بلهجة تمتزج فيها السخرية مع الواقعيّة، الى "وجود حاجة الى سعوديّة أو إيران مسيحيّة لإعادة المسيحيّين الى لعب دورهم المفقود". الأرقام المخيفة... الواقع الأليم يشكّل انحسار أعداد الموظفين المسيحيّين في الإدارات العامة أحد أشكال انحسار حضورهم الديموغرافي والسياسي والاقتصادي في لبنان، منذ انتهاء الحرب اللبنانيّة على ما يشبه الهزيمة للمسيحيّين ولّدت إحباطاً لدى معظمهم. منذ اختلاف القادة المسيحيّين وتفرّقهم، نفياً وسجناً وهجرة، تولّد شعور لدى المسيحيّين، الرافضين بغالبيّتهم للوجود السوري في لبنان، بأنّ هذا الوطن لم يعد لهم، فأعلنوا استقالتهم من العمل العام، وإن ولج بعضهم هذا المجال فبدافع الاستفادة من حالة الفساد المستشرية في الإدارات اللبنانيّة، في أغلب الأحيان. شكّل اتفاق الطائف أحد أسباب الإحباط المسيحي. نقلت بنود في الاتفاق بعض صلاحيّات رئيس الجمهوريّة الماروني الى مجلس الوزراء الذي يرأسه سنّي وعزّزت صلاحيّات رئيس المجلس النيابي الشيعي، ومدّد عمر ولايته من سنتين الى أربع سنوات، بالإضافة الى الكثير من التعديلات الأخرى التي لقيت اعتراضاً مسيحيّاً واسعاً. وألغى الاتفاق المناصفة التي كانت سائدة في الوظائف العامة، حاصراً إيّاها بموظفي الفئة الأولى، شرط مراعاة مقتضيات الوفاق الوطني، وهو شرط "مطّاط" ويحتمل الكثير من التفسيرات والاجتهادات. يقول رئيس الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان الأب طوني خضره، الذي يولي منذ سنوات مع مجموعة من "الرفاق والأصدقاء"، وفق توصيفه، اهتماماً كبيراً بقضيّة الحضور المسيحي في الإدارات العامة، إنّ المسيحيّين عانوا بعد الحرب "من الإقالة والاستقالة"، فتراجعوا عن الإقبال على كلّ ما يتّصل بالدولة ومؤسساتها، واكتفوا بتسديد الضرائب والرسوم من دون أن يستفيدوا، مع بعض الاستثناءات، من هذهالمؤسسات كما فعل الآخرون. ويشير الى ولادة جمعيّات وأجهزة تهتمّ بتقديم المساعدة الى المسلمين كي يدخلوا الى الدولة ويعزّزوا حضورهم في مؤسساتها، ما أدّى الى حصول خلل تراكم عبر السنوات، وبات من الصعب إصلاحه. يرفع الأب خضره من نبرته حين يبدأ الكلام في الجدّ.
إنّها الأرقام التي يختارها من بين الأوراق الكثيرة المتكدسة في الملفات العريضة في مكتبه، يسحبها كما يسحب الساحر المستور من قبعته: وصل عدد الموظفين المسيحيّين في بعض الإدارات الى نسبة 3 في المئة، والى 26 في المئة فيأحسن الأحوال. وينسحب هذا "التدهور" الرهيب على السلك العسكري، حيث انقلب الميزان بوضوح لصالح أبناء المذاهب الإسلاميّة، عناصر ورتباء وضبّاطاً.
يضيف الأب خضره: لا تتجاوز نسبة المسيحيّين في الدرك الـ 36 في المئة، وفي حال تمّ تثبيت الدفعة الأخيرة التي تمّ التعاقد معها، بالإضافة الى قبول ثلاثة آلاف مسيحي من بين السبعة آلاف الذين تقدّموا بطلب التطوّع، ستصل النسبة الى أربعين في المئة. ويواصل الأب خضره سحب الأرقام التي تشكّل غيضاً من فيض ملف التوظيفات في الإدارات الرسميّة، الذي، للأسف، يغفل عنه الكثيرون، كنيسةً وأحزاباً وسياسيّين: بلغ عدد الإدارات الطالبة للوظائف في العام 2009 الـ 26، أمّا أنواع الوظائف فبلغ عددها الـ 110 وظائف، في حين بلغ عدد الشواغر الـ 6600. تقدّم 17984 لبنانيّاً لملء هذه الشواغر، توزّعوا على الشكل الآتي: 4318 مسيحيّاً (24 في المئة) و13666 مسلماًفي المئة). نجح في الامتحانات 5908 لبنانيّاً، منهم 1683 مسيحيّاً (28 في المئة) و4215 مسلماً (72 في المئة). إنّه أحد وجوه الخلل الوظيفي الطائفي. إلا أنّ ما يجدر ملاحظته هو اختلاف النسب بين وزارة وأخرى. ففي وزارة الشؤون الاجتماعيّة، حيث الوزير والمدير العام مسيحيّين، بلغت نسبة المسيحيّين الناجحين في السنة نفسها الـ 52 في المئة في استثناء نادر في الجمهوريّة اللبنانيّة. أمّا في بلديّة بيروت فنجح من أصل 77 لبنانيّاً، 8 مسيحيّين و66 مسلماً. ويؤكد الأب خضره أن نسبة الشغور في الوظائف الرسميّة التي كان يشغلها المسيحيّون في تصاعد سنة بعد أخرى، مشيراً الى أنّ الموضوع مرتبط بحضور فئة من اللبنانيّين في الدولة أكثر من فئة أخرى.(76 هل قلت "مناصفة"؟ تبلغ كلفة القطاع الرسمي سنويّاً حوالى سبعة مليارات دولار، يفترض أن يكون حصّة المسيحيّين منها 3.5 ملياراً. ويسأل الأب طوني خضره بنبرة تزداد ارتفاعاً: كم يستفيد المسيحيّون من الدولة، رواتب وإنماءً في مناطقهم؟ ثمّ يضيف: تساهم الوظيفة العامة في تحقيق دورة اقتصاديّة كاملة، بالإضافة الى أثرها المعنوي على صعيد تأمين مشاركة مسيحيّة فعليّة في الحياة العامّة.
 وعمّا إذا كان يلاحظ، من خلال متابعته، وجود انحيازٍ لصالح المتقدّمين الى الوظائف من المسلمين على حساب المسيحيّين، ينفي الأب خضره وجود دلائل على مثل هذا الأمر، مشيراً الى "أن لا إجحاف ظاهراً في هذا المجال". ويتابع: "تقدّم مؤخراً الى وظيفة مسّاح ورسّام في دائرةالشؤون العقاريّة 201 لبنانيّ، منهم 80 مسيحيّاً و121 مسلماً، نجح منهم 34 على الشكل الآتي: 21 مسيحيّاً و13 مسلماً، والسبب أنّ غالبيّة المتقدّمين من المسيحيّين خضعوا الى تدريب في جمعيّة "لابورا" التي تتولّى الاهتمام بالحضور المسيحي في الإدارات العامّة"، والتي يشرف عليها الأب خضره. ويعتبر الأب خضره أنّ المسيحيّين مطالبين بتحقيق تغييرٍ جذري في نظرتهم الى الدولة، وتعزيز شعورهم بانتمائهم إليها، على علاتها، يكاد يقول. ولكن، مقابل هذه الرؤية "المحرّضة" للمسيحيّين، يكشف الأب خضره عن واقعٍ آخر، لا يخلو من المرارة. إنّها وزارة الماليّة، حيث الخلل الطائفي بات مخيفاً، حتى بشهادة قيادات وأحزاب 14 آذار المسيحيّة، الذين يكشفون عن هذا الواقع، ويضربون كفّاً بكفّ، لا حول ولا قوّة. يعطي الأب خضره مثلاً، بين أمثلة أكثر من أن تحصى، عن الخلل الحاصل: "كان رئيس دائرة الضرائب، حتى العام 2003، مسيحيّاً، ثمّ قسّمت الدائرة الى ثلاث، ومنحت رئاسة اثنتين الى مسيحيّين وواحدة الى مسلم. ثمّ، في العام 2010، أصبحت أربع دوائر، يتولّى رئاسة ثلاث منها مسلمون". ويؤكّد الأب خضره وجود "إجحاف في حقّ المسيحيّين في وزارة المال، من دون أن تنفع التطمينات التي تلقّتها جهات روحيّة وحزبيّة مسيحيّة بإصلاح هذا الخلل"، واعداً بعدم السكوت على استمرار هذا الواقع، خصوصاً في ظلّ معلومات عن محاولة لتثبيت 355 موظفاً في المركز الآلي في الوزارة من لونٍ طائفي واحد.
 إلا أنّ الأب خضره، الذي يقرأ مزامير تصحيح الخلل، من دون كثرة سامعين، يعترف بأنّ المسؤولين ينطقون بكلامٍ معسول، إلا أنّ الحقيقة مختلفة "خصوصاً أنّ البعض يتصرّف على أساس أنّ ما لنا هو لنا وما ليس لنا نتقاسمه مع الآخرين". ويسأل: "إذا كان الهدف من دورة الدرك المنتظرة تأمين انضمام ثلاثة آلاف مسيحي الى السلك، فلماذا لا يتمّ اختيارهم من أصل 7 آلاف مسيحي تقدّموا للانتساب بدل إغراقهم في الـ 39 ألف شخص الذين تقدّموا؟". مضيفاً: "إذا كانت هناك غيرة على المسيحيّين من قبل الشركاء في الوطن، فيجب أن يبرزوا حرصهم على هذه الشراكة". من هنا، تبدو مسألة المناصفة والشراكة، وغيرهما من التعابير "التعايشيّة"، أسيرة التصريحات والخطابات وتعجز عن تجاوز عتبة الإدارات العامّة التي تمتزج فيها رائحة السفاد برائحة الخلل الطائفي. وإذا كان الرئيس فؤاد السنيورة أكّد في 14 شباط الماضي أنّ "أساس بلدنا هو العيش المشترك المسيحي – الإسلامي ونحن طوّرنا صيغتنا الوطنيّة في الطائف واتفقنا على المناصفة، وهذا مبدأ أساس لن يكون فيه أي خلل أو تفريط"... وإذا كان مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ محمد رشيد قباني اعتبر في 25 شباط الماضي أنّ "الأوطان لا تبنى إلا بالتعاون والتضامن والوحدة بين أبنائها كافة وتطلعات مواطنيها وشعوبها، ولبنان نموذج في العيش المشترك، لن يبقى مستقراً إلا بحكمة ووعي قادته المخلصين، الذين يحرصون على المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين فيه، من دون إخلال بهذه المناصفة لأيّ سبب من الأسباب مهما كان"... فإنّ ذلك لا يحتاج سوى الى تعليقٍ واحد: "إسمع تفرح، جرّب تحزن". وما أكثر المجرّبين.. وأكثر الحزانى من اللبنانيّين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق