السبت، 19 فبراير 2011

هويّة الكنيسة المارونيّة (1)




منذ أن باشرت كنيستنا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة أعمال مجمعها البطريركيّ، أَولَت مسألة هويّتها ودعوتها ورسالتها اهتمامًا كبيرًا بحيث جعلتها في طليعة المواضيع المجمعيّة المطروحة للبحث. فالمشروع المجمعيّ الذي يدفع بالكنيسة المارونيّة اليوم إلى إعادة نظر شاملة في شؤونها الكنسيّة لا يبلغ مرتجاه إلاّ إذا كان منسجمًا مع العناصر الأساسيّة التي تُكوّن هويّتها والتي في ضوئها تنجلي دعوتُها وتتحدّد رسالتُها. ويتوخّى هذا النصّ إظهار تلك العناصر في ترابطها وتكاملها قبل أن تتناول النصوص المجمعيّة الأخرى منفردةً إبراز ميزات كلّ منها. وهذه العناصر تؤلّف مجتمعةً، التراث الحيّ الذي يُعطي الكنيسة المارونيّة خصوصيّتها ضمن الكنيسة الجامعة في عيش سرّ الخلاص بيسوع المسيح والشهادة له في النطاق الأنطاكيّ وبلدان الانتشار. وتسعى كنيستنا اليوم، كما سعت بالأمس، إلى ان تكون بخصوصيّتها هذه أمينةً لهذا السرّ الذي منه تنطلق، وعليه تُبنى كلّ هويّة مسيحيّة صحيحة. فبقدر ما ترتبط تلك العناصر بشخص يسوع المسيح الذي "هو هو بالأمس واليوم وللأبد" (عب 13/8)، تحتلّ مكانةَ القلب النابض في وجدان الموارنة.
ولا يغيب عن بال أبناء الكنيسة المارونيّة، وهم يَسعَون إلى استجلاء عناصر هويّتهم، أنّ كنيستهم البطريركيّة هي قبل كلّ شيء تحقيق لسرّ الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدّسة، الرسوليّة، في البيئة الخاصّة التي دُعوا إلى ان يشهدوا فيها على إيمانهم الرسوليّ وقِيَمهم الإنجيلية. ولا يرضون بالتالي أن ينقادوا في مسعاهم هذا إلى اعتبارات ثقافيّة أو قوميّة أو سياسيّة بحتة. فالكنيسة هي، بالنسبة إليهم، عملُ الله الآب الخلاصيّ بواسطة ابنه يسوع المسيح وبفعل روحه القدّوس كما يُعلنون منشدين في صلاة يوم أحد تجديد البيعة وتقديسها: "المجد للآب الذي بنى البيعة منذ القديم؛ والسجود للابن الذي وضع فيها جسده لمسامحة الذنوب؛ والشكر للروح الذي ينـزل ويحلّ ويقدّسه؛ هو السرّ الخفيّ الذي لا يُستقصى؛ له المجد"[1].
وفي سعينا إلى استجلاء عناصر هويّة الكنيسة المارونيّة، يتبيّن كم أنّ تلك العناصر هي في جوهرها مشترَكة بين الكنائس الأنطاكيّة والسريانيّة، وﺇنِ اتخذت بفعل الزمن طابعًا مارونيًّا مميّزًا، من دون ان يَحجُبَ ذلك أصلها الأنطاكيّ والسريانيّ. فالعودة إلى هذا التراث المشترك هو، بالنسبة إلى الكنيسة المارونيّة، التزام مسكونيّ يُسهم في استعادة كنائسنا الشركة التامّة بينها "وهي تعمل للحقّ بالمحبّة" (أف 4/15)، وذلك في سبيل تعزيز حضورها الانجيليّ في هذا الشرق وفي العالم، أمانةً لدعوة معلّمها.
لا ريب في ان ظاهرة الهجرة المارونيّة الكثيفة من لبنان والدول المجاورة إلى بلدان العالم الأخرى، أسهمت، في جعل مسألة هويّة الكنيسة المارونيّة من الأوّلويات المجمعيّة. فكان لا بدّ لهذه الكنيسة، حيثما حلّ أبناؤها، من أن تُبرز العناصر الأساسيّة لهويّتها، أساس دعوتها ورسالتها، فتعمل على تأوينها لتتلاءم مع ثقافات الشعوب التي انتمى أبناؤها إليها، وذلك للحدّ من تشتّتهمأوذوبانهم، وصونًا لوحدتهم، في سبيل تعزيز الرسالة المسيحيّة الخاصّة التي اؤتمنوا عليها.
في ضوء ما تقدّم، يعرض النصّ العناصر الأساسيّة لهويّة الكنيسة المارونيّة، فيتبيّن أنّها، أوّلاً، كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجيّ خاصّ؛ ثانيًا، كنيسة خلقيدونيّة؛ ثالثًا، كنيسة بطريركيّة ذات طابع نسكيّ ورهبانيّ؛ رابعًا، كنيسة في شركة تامّة مع الكرسيّ الرسوليّ الروماني؛ خامسًا، كنيسة متجسّدة في بيئتها اللبنانيّة والمشرقيّة، وفي بلدان الانتشار. وبما أنّ دعوة الكنيسة المارونيّة ورسالتها لا تنفصلان عن هويّتها، فاقتضى الأمر بإظهارهما تباعًا، إنطلاقًا من العناصر التي تكوّن هذه الهويّة.
وقبل الشروع في تبيان تلك العناصر، لا يسعُنا إلاّ أن نذكّر بأنّ اسمَ الموارنة يرجع إلى اسم القدّيس مارون، المتوفَّى حوالي 410، وإلى الدير الذي بُنيَ على اسمه، بُعَيد مجمع خلقيدونيا (451)، في منطقة أفاميا الكائنة في سورية الثانية، وفق التنظيم الرومانيّ القائم آنذاك. ويُعتبر دير مار مارون بحقّ مهدَ الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة التي نشَأَت في كَنَفه وحولَه بطريركيّةً مستقلّةً في تاريخ غير محدّد، بين نهايات القرن السابع والنصف الأوّل من القرن الثامن (راجع الفصل الثالث من هذا النصّ). أما القدّيس مارون، شفيع كنيستنا التي تُعيِّد له في التاسع من شباط، فقد ابتكر طريقةً نسكيّةً فريدةً من نوعها على جبل قورش في سورية الأولى، قوامها العيش في العراء. وقد كتب سيرة حياته وحياة تلاميذه في النسك، تيودوريطُس القورشي (459 +)، في كتابه الشهير عن رهبان سورية ونسّاكها، وذلك بين مطلع القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس[2].


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق